رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


كابتن غزالى سمسمية المقاومة الخالدة

5-4-2017 | 12:42


تقرير: شيرين صبحى

«اتعلمنا منك، كيف الموت يتحب، واتعلمنا منك، وقت الشدة، نهب، واتعلمنا، ندوس الصعب نمد الخطوة، ندق الكعب».. اليوم تتوقف السمسمية عن الغناء، ويتحول غناؤها البهيج إلى أنين وبكاء مرير، على من ظل سنوات حياته يغنى لها وللمقاومة، ويلهب حماس كل عامل، ودارس، وكل مصرى أصيل.

لم يحتمل قلب شاعر المقاومة الرقيق؛ كابتن غزالي، رحيل رفيقة دربه، فلحق بها بعد عشرة أيام فقط، ليكتب آخر سطر فى سجل أسطورة عاشت بيننا ٨٩ عاما، واحتلت مكانها فى قلب كل مصرى ومن قبلهم كل أبناء السويس.

«طلعوا لسود يا ستات السويس/ وارفعوا راية الحداد يا كل رجالة البلد/ واكتبوا فوق الحيطان مات اللى كان/ أغنية يومى بتتولد/ نغمة على وتر السماسم تتنشد/ سكة لبكرة تنفرد/ حضن المحبة والتبات/ غزالى مات/ آخرنا مات/ لكنه عايش بعدنا/ دفتر حكاوى العاشقين/ على اسمه ياما حينكتب اسم السويس».. بهذه الكلمات نعى الشاعر عبد العزيز عبد الظاهر، رفيق دربه فى المرثية التى كتبها بعنوان «غزالى مات».

منذ ٨٩ عاما، فى العاشر من نوفمبر ١٩٢٨، ولد محمد أحمد غزالي، الشهير بالكابتن غزالي، ليتلقى تعليمه ويلتحق للعمل موظفاً فى مديرية الصحة بالسويس، لكنه لم يكتف بكونه موظفا تقليديا مثل آلاف الموظفين، بل كان يحب الشعر والفن ويلعب الرياضة، فهو لاعب مصارعة سابق، ومدرب جمباز، وصاحب مرسم، وهو المحافظ على تراث السمسمية بالسويس بعد رائدها الأول عبدالله كبربر.

قبل أن يكمل غزالى عامه الثلاثين، انضم إلى الفدائيين فى منطقة القناة، ليقود المقاومة ضد قوات الاحتلال البريطاني، وبعد أن منيت مصر بالهزيمة عام ١٩٦٧ ، حلت روح النكسة فى كل شيء، وسكنت نفوس المصريين، وكان غزالى يتذكر تلك السنوات البعيدة وكأنها بالأمس.. «كان وقع هزيمة ٦٧ مباغتا علينا، فى غمضة عين أصبحت قوات العدو الإسرائيلى على بعد أمتار من السويس، وامتلأت شوارع المدينة بالجنود المنسحبين، فخرج أهل السويس بما فيهم النساء، فى مظاهرة إنسانية لمساعدة هؤلاء الجنود والضباط».

عندما حدثت النكسة وأجبر أهل السويس على ترك مدينتهم؛ رفض الآلاف فكرة التهجير وأصروا على المقاومة حتى رحيل العدو، وكان غزالى أحد هؤلاء الذين ساعدوا فى تجميع الجنود المشتتين، وتضميد الجرحى، ونقل الذخيرة.. لكن كل هذا لم يكفه، حيث رأى أنه من واجبه، أن يعيد الأمل فى نفوس الشباب ويحمسهم على المقاومة وينزع من داخلهم روح الهزيمة، فلم يجد أفضل من السمسمية لتكون رفيقته فى تلك المهمة التى كان يقوم فيها بالغناء والرقص وفعل كل ما يمكن لإخراجهم من جو الحرب.

«يا رايح السويس، بلدى وأملي، وغنايا، متطلش ع الخرايب، ولا تحزن ع اللي، غايب»، عشق غزالى تراب مدينته، وأصبح قائدًا لأكبر قطاع فى المقاومة الشعبية، بعدما تواصل معهم الجيش فى التواصل معهم من أجل تنظيم المقاومة، فصار رئيسا للمنطقة المنوط بها حماية الشواطئ والمصانع، وهى منطقة خطيرة، ولم يكن لديهم وقتها سوى أسلحة تقليدية، فكان من الضرورى التفكير فى ابتكار أشكال جديدة من المقاومة المعنوية حتى لا يصيبهم الملل.

استمر غزالى فى المقاومة لمدة ست سنوات، ليرى ويوثق تضحيات أبناء مدينته، وكانت تلك الروح التى لم تعرف الهزيمة، سببا رئيسيا فى تأسيسه فرقة «ولاد الأرض» للتأكيد على عدم الاستسلام حتى لو كان كل ما نملكه عظام أبنائنا الذين استشهدوا أثناء الحرب «وعضم ولادنا، نلموا نلموا، نسنه نسنه، ونعمل منه مدافع وندافع». يقول: «بدأنا ببطانية مفروشة، على الأرض وأقمنا مسرحا لنا ننشد من فوقه الأغانى الحماسية لجنودنا على الجبهة، الأغانى وقتها كانت منشورات سياسية، تجذب الناس».

كانت الفرقة تجوب مدن القناة خلال حرب الاستنزاف وعقب انتصار حرب أكتوبر، وتبدأ حفلاتها بالتصفيق على الكف وترديد كلمات تعريف بأنفسهم تقول: «إحنا ولاد الأرض، ولاد مصر العظيمة، تارنا هانخدُه بحرب، للنصر غناوينا، شباب ثوار، ما نسيبش التار، إحنا ولاد الأرض».

ضمت الفرقة الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، المطربين محمد حمام ومحمد العزبي، الملحنين إبراهيم رجب وحسن نشأت. وقد ألف الكابتن غزالى ولحن جميع أغانى الفرقة، باستثناء «يا بيوت السويس» للشاعر عبدالرحمن الأبنودي، حتى وصلت أغانيه إلى ٦٠٠ أغنية.

خال السوايسة

ينتمى الغزالى إلى الفصيل السياسى اليسارى المصري، وقد لقب بـ «خال السوايسه»، و»بطل السوايسة»، فهو تاريخ طويل من النضال والمقاومة التى لا تنسي. يقول فى آخر حوار له مع مجلة «المصور»: «بعد الحرب الخاطفة عام ١٩٥٦ حدث أمر غريب، حيث لم يكن هناك فرصة للأدب والثقافة والفن، وبعد انتهاء العدوان بدأ الفنان الشعبى يغنى «سبع ليالى وصبحيه» وغيرها من الأغانى الوطنية، وهى أغانى عفوية، والسمسمية هى آلة للأغانى العفوية الارتجالية، والسخرية هى وظيفتها الأصلية، فكنا نسخر من الواقع ومن الفاسدين ومن الجبابرة، بأقل كلمات».

رحل الزعيم جمال عبد الناصر، وجاء السادات ليسير على سياسة جديدة لم ترض غزالي، وعندما صدر قرار وقف إطلاق النار، وتعليق عمليات حرب الاستنزاف، قامت فرقته بجولات فى مختلف المراكز والقرى، والحديث مع الناس بكلام مغاير لما تقوله الحكومة، وتوضيح حقيقة ما يحدث فى مدن القناة. يقول شاعرنا الراحل: «كانت فكرتى فى كل الأغانى والأشعار اللى بنكتبها إننا نعرف الناس اللى بيحصل بأبسط الكلمات، لأن المثقفين كان كلامهم كبير ومكنش حد بيفهمه».

كان غزالى ورفاقه يرون إيقاع العمل بطيئا، ويرفضون حالة اللا سلم واللا حرب التى تعيشها البلاد، ويبحثون عن طرد العدو الصهيونى بأسرع طريقة، يقول: «السلطة كانت وطنية وكانت أشعار وعروض الفرقة عبارة عن شكل من المعارضة للسلطة»، وهو الأمر الذى دفع السادات إلى وضعه قيد الإقامة الجبرية فى بنها يوم ٧ مارس ١٩٧٣ وظل رهنها لمدة عام.

لم يقاوم غزالى بالغناء والاشتراك مع الفدائيين فقط، بل أنشأت فرقته فصولا لمحو الأمية، فساعد على محو أمية عدد كبير من شباب المقاومة، واهتدى إلى التراث الشعبي، الذى ألهمه فى تأليف أغانى المقاومة، وكان يمتلك مكتبة ضخمة مثلت قبلة لشباب السوايسة الذين اعتبرهم قضيته، والذين تعلموا على يديه الكثير.

كانت السمسمية بمثابة العشق لدى كابتن غزالي، الذى يقول فى أحد حواراته: «طول ما فى شعوب لابد أن يكون هناك فن، والسمسمية أثبتت على مدار عقود طويلة أنها أصلب من المدافع والطيارات وكلامها محفور فى قلوب المصريين فهى بيانو الناس الغلابة وصوت الفقراء ومهما وصل مجتمعنا لتطور ستبقى السمسمية رمزًا لتضحية أهل السويس الذين لا ينتظرون من أحد شيئًا وهم مثل كل المصريين الحقيقيين أول من يضحون وآخر من يستفيدون»..!

لم يتوقف غزالى عند فترة النكسة والمقاومة ومن بعدهما الانتصار، بل تغنى أيضا لثورة يناير والتى يقول عنها فى إحدى قصائده: «طالعة من التحرير ثورة ما شاء الله عليها، ثورة شباب مغاوير طاهرة لا شىء عليها، طالعة من التحرير، موالها سلمية، الشهداء تلال نور، والشهقة عربية، والشعب هو الجيش والثورة مصرية».

«قد القول كنت يا غزالي، قد القول وأكبر».. خلد كابتن غزالى اسمه فى سجل شرفاء هذا الوطن، وانضم إلى من كان يطالب بتخليد أسمائهم حتى لا يسقطوا سهوا من سجل التاريخ «خلديهم يا بلدنا لما نصرك يبقى عيد، خلديهم يا بلدنا وقيدى منهم نور صباحك، خلدوكى هما قبلا لأجل ما تعودى لصباحك».