بقلم: وارد بدر السالم – كاتب عراقى
اللوحة البصرية التي تتركها الإسكندرية للسائح وعابر المدن وزائر الأمكنة وجواب الأفاق هي لوحة استشراقية قديمة تجلت في أروع صورها التي نجدها في المتاحف الفنية كما لو أن الأمس لم يتحرك كثيرا فبقي علي صلته بالواقع الإسكندراني بالرغم من حداثة الفن والعمران.
إنها صورة المدينة في خرافتها التاريخية البحرية التي ربطت الشرق بالغرب وذابت فيها الهويات فابتكرت لها منذ القديم صلة إنسانية متفردة حينما جمعت الحياة في سفينة واحدة علي بحر أزرق يسخر الجهات كلها مرة واحدة ليقدم الصورة الأبلغ عن التعايش الطبيعي بين الجنسيات والهويات في تشكيلة حياتية نادرة جداً.
اللوحة البصرية العامة للإسكندرية هي البحر كذاكرة واليوميات البسيطة وهي تنسج لغة موحدة بين اللغات الوافدة والزائرة والمرتحلة والعابرة للمكان والتاريخ منذ أن كان بطليموس الأكبر ومستشاره اليوناني ديمتريوس والإسكندر المقدوني يؤسسون للمكان ذاكرة ثقافية في مكتبة الإسكندرية ذائعة الصيت وسواهم من الفنانين المستشرقين الذين بهرتهم الإسكندرية أو ممن رافقوا نابليون بونابرت في حملته العسكرية فنانين وعلماء وأدباء ليوثقوا وصف مصر كلها أثناء الغزو العسكري المعروف قبل أن يحرقها يوليوس قيصر لتكون النيران التي أشعلها شاهدة علي مقبرة الكتب والحبر وخيال المؤلفين والعلماء وعباقرة الزمن القديم كأرخميدس وأقليدس وهيبارخوس واريستارخوس الساموزي واراتوستينس وهيروفيلوس وطبقربطس وأرسطيلو وهيرونو وكلاوديوس وجالينوس وغيرهم من الذين قطعوا المسافات القصية ليكونوا في هذا المكان العلمي والثقافي مثل المصابيح الباهرة في ليل الإسكندرية ويقدموا للإنسانية الكثير من العلوم في الفلك والطب والهندسة واللغة والفنون.
والإسكندرية لغة واحدة يتحدث بها الجميع مهما اختلفت جنسياتهم وهي لغة فرضتها المدينة والمكان الساحر لا الجغرافية الملهمة وحسب وإنما لأهميته الثقافية والعلمية والفنية لذلك نجد في التاريخ وسجلاته المتروكة ما يشير إلي تعاشق الجميع في هذا المكان وحتي الغزاة علي تعاقب تواريخهم العسكرية وجدوا في الإسكندرية ما لم يجدوه في مدن أخري من مصادر معرفية وتاريخية وأدبية وأسطورية وشعبية ومناخ لطيف وفضاء أزرق يطيل من التأمل وشحذ الخيال.
في الإسكندرية حياة شعبية وأخري سياحية وغيرها ثقافية وأدبية ففي الأولي تجري الحياة علي وفق طبيعتها وسليقتها وفي الثانية تتراكم الجنسيات الأوروبية والعربية بلغات شتي غير أنها تتوحد مع الوقت وتذوب الفوارق اللغوية والدينية والمذهبية في إطار التعايش السليم في هذا المكان وفي الثالثة تتصدر مكتبة الإسكندرية العظمي الواجهة الثقافية للمدينة فهي إيقونة بارزة لها مكانتها التاريخية العالمية المعروفة إلي جانب نشاطات أخري يقدمها أدباء ومثقفو الإسكندرية علي مدار الفصول.
الإسكندرية خرافة بحرية جميلة في الماضي والحاضر وستبقي هكذا إلي المستقبل فهي مدينة ومكان وتاريخ وجغرافية وأسطورة البحر الأبيض المتوسط في لوحتها البصرية العالمية التي لن ينساها أحد زائرا كان أم مقيما أم عابرا أم جوابا متأملا الطبيعة وسحرها وجمالها.