في ذكرى رحيله.. محاكمة فكرية لـ نجيب محفوظ
صدر عدد مجلة الهلال الثقافية في أول
فبراير 1970 يحتوي بين توليفته على موضوع شيق عن الروائي والأديب نجيب محفوظ
بعنوان "محاكمة نجيب محفوظ"، والمحاكمة ليست قضائية بل هي محاكمة فكرية
تكونت هيئتها من عشرة نقاد وأدباء، قدم كل منهم اتهاما أو سؤالا لمحفوظ ، وتولى
الرد بقلمه على هذه الإتهامات أو الأسئلة بوضوح، وكان ضياء الدين بيبرس هو من أعد
ذلك التحقيق الأدبي.. وفي ذكرى رحيل نجيب محفوظ ننشر جزءا من المحاكمة الفكرية
ودفاعه عن نفسه.
بدأت المحاكمة بتساؤل من أنيس منصور
لنجيب محفوظ : لماذا لم تجرب كتابة المقال، فأنت رجل مقتدر على معظم الأشكال
الأدبية، سدت الرواية وتفوقت في القصة ومارست الكتابة المسرحية؟
محفوظ : عزيزي الأستاذ أنيس منصور،
لقد بدأت يحياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة فيما بين عامي 1928 و1936
مقالات في الفلسلفة والأدب، في المجلة الجديدة والمعرفة والجهاد اليومي وكوكب
الشرق، ثم اهتديت إلى وسيلتي التعبيرية المفضلة وهي القصة والرواية، ولو كنت صجفيا
لواصلت كتابة المقال أيضا، لكني كنت ومازلت موظفا، وأنا لا أعد نفسي من أصحاب
الرأي، ولكني من زمرة المنفعلين بالآراء، ولذلك مجالي هو الفن لا الفكر.
رجاء النقاش: ظهر من أعمالك الأدبية
قبل ثورة يوليو أنك تميل إلى حزب الوفد، وكثير من الأدباء والفكرين كانوا كذلك،
أما بعد الثورة فمن الواضح أنك أصبحت تميل إلى الفكر الماركسي، فالماركسيون في
رواياتك هم الأبطال والشهداء ، ويضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات.
محفوظ : عزيزي الأستاذ رجاء النقاش..
لقد شخصتني فأجدت التشخيص، فلو خيرت بين الرأسمالية والماركسية لما ترددت في
الإختيار لحظة واحدة، ولكن هل يعني ذلك أنني ماركسي؟ فأنا لا أستظيع أن أعتبر نفسي
ماركسيا رغم التعاطف الشديد، فالماركسي هو المؤمن أو المقتنع بالماركسية كنظرية
وتطبيقا بلا أدنى تردد، ولذلك فأنا ضعيف الإيمان بالفلسفات ونظرتي إليها فنية أكثر
منها فلسفية، وأعترف بأنني أومن بتحرير الإنسان من الطبقية والإستغلال وأن يتمتع
الفرد بحرية الفكر مع تحقيق الديمقراطية بأشمل معانيها.
رشدي صالح: إلى أي مدى تعتبر الأدب
وثيقة تسجيلية أو أخلاقية، وهل أدبك ينتمي إلى هذا النوع أو ذاك؟
محفوظ: عزيزي الدكتور رشاد رشدي،
الأدب وثيقة تسجيلية يمكن الإستئناس بها ولكم من المغامرة غير العلمية الإعتماد
عليها، فأحداث الأدب تقع في التاريخ، قديما كان أو معاصرا، فالأدب لا يعتمد على
المراجع أو الإحصاء، بل بعتمد على القلب والعاطفة والوجدان، والأدب وثيقة تسجيلية
للأديب لا للتاريخ أو الواقع، فحينما كتبت الثلاثية وكفاح طيبة وغيرها من الروايات
لم أكن أقدم تاريخا بأمانة، فما دفعني للكتابة فقط هو حبي لأماكن وأشخاص وقيم..
أما الأخلاق فأمرها مختلف في اعتقادي، فأي رواية هي مجموعة من السلوك وأي سلوك هو
حركة أخلاقية.