الرابحون من الانسحاب الأمريكي والهجوم التركي على سوريا.. روسيا الرابح الأكبر بتعزيز وجودها و"داعش" يبدأ تنظيم صفوفه و"بشار" يستعيد السيطرة على الشمال
بينما تصف بعض الدوائر في الولايات المتحدة قرار الإنسحاب العسكري الأمريكي من شمال سوريا، بأنه كان كارثيا للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، يرى كثير من المراقبين والمحللين السياسيين أن روسيا ربما تكون الرابح الأكبر مما يجري حاليا من تطورات على الأرض في الشمال السوري، وأن مكاسب موسكو من ذلك تتجاوز تعزيز نفوذها في سوريا إلى عموم المنطقة.
ورغم الوجود العسكري المحدود للولايات المتحدة في شمال سوريا، إلا أن هذا الوجود على رمزيته كان يشكل عامل توازن مهم بين اللاعبين الدوليين الإقليميين في المنطقة. ولذلك فقد جاء قرار الانسحاب الأمريكي المفاجئ، والذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب أكثر من أسبوع، وما ترتب عليه من تداعيات دراماتيكية، ليعيد رسم خريطة المشهد الميداني في المنطقة، وبصورة قد تكون لها تداعياتها على موازين القوى وعلى خريطة التحالفات الاقليمية والدولية.
فقرار ترامب بسحب العدد المحدود من الجنود الأمريكيين المتواجدين في مناطق شمال شرقي سوريا على الحدود مع تركيا، كان - كما وصفه بعض المراقبين - خيانة صريحة من جانب حلفائها الأكراد السوريين، في حين أنه منح الفرصة لأطراف عديدة أخرى لتعزيز نفوذها ومكتسباتها السياسية واللوجستية على الأرض في سوريا والإقليم، وعلى رأس هذه الأطراف روسيا وحلفائها في سوريا.
صحيح أن سحب القوات الأمريكية كان بمثابة ضوء أخضر لتركيا لاجتياح الشمال السوري لملاحقة المقاتلين الأكراد السوريين أو ما يعرف باسم "قوات سوريا الديمقراطية"، والذين تصفهم أنقرة بأنهم إرهابيون وحلفاء لـ "حزب العمال الكردستاني"، الذي يخوض حربا دامية منذ عقود ضد الدولة التركية، لكن المستفيد الأهم ما يحدث حاليا، هو روسيا التي تعزز نفوذها على حساب الدور الأمريكي في المنطقة.
فقد كان التواجد الأمريكي - على محدوديته - يمثل، كما يؤكد محللون، ما يمكن اعتباره ضمانة أمنية من جانب الولايات المتحدة للأكراد السوريين، الذين أصبحوا حلفاء معتمدين لديها في الحرب ضد تنظيم داعش الارهابي. كما أن هذا الوجود كان يتيح للأمريكيين أن يكونوا حاضرين في أي ترتيبات قادمة تخص الحل النهائي للازمة السورية من ناحية، والتصدي للنفوذ الروسي والإيراني في سوريا من ناحية أخرى.
لكن هذا الانسحاب وما شكله من خذلان للأكراد، جاء ليصب في مصلحة نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه الروس بطبيعة الحال، فقد دفع ذلك الأكراد لعقد صفقة مع النظام السوري، وافقوا بموجبها على أن يتقدم الجيش السوري إلى المناطق التي لم يكن له وجود فيها منذ عام 2012، والمتاخمة للحدود مع تركيا، وهذا يعد - في رأي المراقبين - نصرا كبيرا للحكومة السورية ولقواتها التي تحركت بسرعة من القواعد التي كانت تسيطر عليها شمال شرقي سوريا، لتكون في المواجهة مع القوات التركية الغازية للاراضي السورية.
هذا المشهد شكل في أحد أبعاده، كما يرى المراقبون، أحد التداعيات السلبية لقرار الانسحاب، على المصالح الأمريكية في المنطقة. لكنه في المقابل منح موسكو الفرصة لتعزيز وجودها في مناطق التماس بين القوات النظامية السورية، التي بدأت تتنشر محل قوات سوريا الديمقرطية في شمالي سوريا، وبين الجيش التركي، وذلك لمنع حدوث أي صدام عسكري بين الجانبين قد يخرج عن السيطرة. وهكذا فإن موسكو، وهي تقوم بالوساطة بين الأتراك والسوريين، مستغلة علاقاتها القوية مع الطرفين، من ناحية، وسعيها للتقريب بين النظام السوري والأكراد من ناحية أخرى، تبدو اللاعب الأهم على الساحة السورية في اللحظة الراهنة، فيما خرج الأمريكيون من المشهد ومعهم خرج حلفاؤهم الأكراد.
وحتى التلويح الأمريكي الحالي بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا في حال واصلت هجومها العسكري على مناطق الأكراد في سوريا، فإنه بقدر ما يعكس حالة التخبط والارتباك في المواقف الأمريكية تجاه الوضع في المنطقة، فإنه يصب في الوقت نفسه في صالح روسيا أيضا، إذ أن ضغوط واشنطن على أنقرة لوقف عملية "نبع السلام" في شمالي سوريا، قد تدفعها لمزيد من التقارب والتنسيق مع الروس على الأرض في سوريا، ومن ثم مع النظام السوري. فتركيا التي تناصب المسلحين الأكراد العداء، وتعتبرهم الخطر الوجودي عليها، ربما ترى أن التفاهم مع الجيش السوري والسماح بانتشار قواته في مناطق الحدود، أفضل لها من وجود المسلحين الأكراد في تلك المناطق.
ومما يدعم هذا السيناريو، ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أرودغان، تعليقا على تقدم الجيش السوري في شمال سوريا، والذي وصفه بأنه "ليس أمرا سلبيا طالما أخليت المنطقة من المسلحين الأكراد"، حسبما نقلت عنه إحدى القنوات التلفزيونية.
قائمة الرابحين مما يجرى في الشمال السوري لا تضم فقط روسيا والنظام السوري وحلفاءه، بل تضم أيضا تنظيم داعش الإرهابي، الذي حذر كثيرون أن عناصره الذين لم يعتقلوا أو يقتلوا، والذين أعادوا تنظيم انفسهم على شكل خلايا نائمة، ربما يستغلون حالة الأضطراب والفوضى التي سببتها العملية التركية في شمال سوريا، لشن هجمات لتحرير الآلاف من مقاتلي داعش المحتجزين في سجون تحت حراسة المسلحين الأكراد.
وقد تحدثت تقارير خلال اليومين الماضيين عن فرار العشرات من عناصر داعش بالفعل من تلك السجون. هذا الأمر يثير مخاوف كبرى لدى الأوساط السياسية والأمنية الغربية ولاسيما في أوربا، وهو ما يدفعها لممارسة مزيد من الضغوط على تركيا لوقف عملياتها العسكرية في شمال سوريا. وفي حال نجحت هذه الضغوط على أنقرة، والتي بدأت تأخذ أشكالا عديدة من بينها وقف صادرات السلاح إلى أنقرة، فإن المستفيد الأكبر من ذلك أيضا سيكون النظام السوري وحلفائه الروس.
تداعيات الخطوة الأمريكية بالانسحاب من شمال سوريا، وما ترتب عليها من تطورات، لن يقتصر تأثيرها فيما يخص تعزيز النفوذ الروسي في سوريا وحسب، بل يتعداه – كما يرى محللون - إلى الشرق الأوسط ككل، والذي قال أحد الكتاب الغربيين إن واشنطن قد أهدته إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طبق من ذهب.
وأضاف الكاتب البريطاني "كون كوغلان" في مقال له في صحيفة "ديلي تليجراف" أن بوتين هو الشخصية الدولية الوحيدة التي استفادت من قرار ترامب بفك الارتباط مع الصراع الدائر في سوريا. وأشارإلى أن إبعاد روسيا عن نفط الشرق الأوسط، كان دائما أحد الثوابت الاستراتيجية لأمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن قرار ترامب الأخير منح الفرصة لموسكو لتعزيز نفوذها في المنطقة التي كانت يوما ما حكرا على أمريكا.
وفي السياق ذاته، لابد من الإشارة هنا إلى الحفاوة اللافتة التي حظي به الرئيس الروسي خلال جولته الخليجية الأخيرة، والتي شملت المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، والتي يرى مراقبون أنها لا تخلو من دلالات سياسية مهمة. فهذه الحفاوة بالرئيس بوتين من جانب أطراف، ينظر إليها باعتبارها حلفاء تقلديين للولايات المتحدة، توضح أن موسكو تعيش حاليا أفضل أيامها، وأنها تحصد ثمار فشل السياسة الأمريكية في المنطقة كما قال أحد المحللين.
فحالة التخبط والارتباك التي تعيشها واشنطن في ظل إدارة ترامب حاليا، دفعت الكثيرين من حلفائها - كما يشير مراقبون – إلى البحث عن بدائل وتحالفات دولية جديدة لتأمين مصالحها.
ويبدو جليا أن الانسحاب الأمريكي من ملفات المنطقة الساخنة ومن بينها الملف السوري، يمنح روسيا الفرصة تلو الأخرى، لكي تصبح اللاعب الدولي الأكثر تأثيرا على الساحة الإقليمية كلها ـ وهو الأمر الذي قد تكون له انعكاساته على ملامح المستقبل في المنطقة، لسنوات عديدة قادمة.