العميد:خالد عكاشة
استهدفت البحرية الأمريكية فجر الجمعة الماضية بـ (صواريخ توماهوك) قاعدة «الشعيرات» العسكرية قرب حمص، وهى القاعدة التى اتهمت الدول الغربية سوريا رسميا بأنها استخدمت فى انطلاق الغارة على مدينة “خان شيخون” قرب “إدلب”، والتى يعتقد أن قوات النظام استخدمت الأسلحة الكيماوية خلالها. أعلن البنتاجون قبل تنفيذ القصف الصاروخى على القاعدة السورية، أن وكالات الاستخبارات الأمريكية قد زودته بما يثبت أن الطائرات التى شنت الهجوم الكيميائى أقلعت من هذه القاعدة العسكرية، وأن هذا المطار العسكرى السورى مرتبط ببرنامج الأسلحة الكيميائية السوري.هذا الهدف تحديدا كان وفقا لتقارير عديدة ضمن أربعة خيارات قدمها العسكريون الأمريكيون إلى الرئيس دونالد ترامب، شملت توجيه ضربة محدودة للأهداف العسكرية السورية، منها ضرب قوات متنوعة ومطارات مختلفة، أو منع الطيران من التحليق فى المجال السورى، أو فرض منطقة حظر جوي. لكن المتصور أنه قد وقع الاختيارعلى هذا الهدف بعناية، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للمطارالتى تتجلى فى أنه يمثل قاعدة مشتركة بين روسيا وإيران والنظام السوري، كما أنه يعد حسب الاتهامات الأمريكية نقطة انطلاق للهجوم بالغازات السامة على منطقة “خان شيخون”.كما تشكل تلك القاعدة الجوية تقريبا ربع قدرات السلاح الجوى السوري، حيث تضم أهم المعسكرات فى المنطقة الوسطى، والتى تحتوى (٣ أسراب جوية) مكونة من الطائرات الحربية طراز”ميج” و”سوخوي”. ويشتمل المطار على مدرجين طول كل منهما (٣ كم) ونحو (٤٠ حظيرة)، كما يتضمن منظومات للدفاع الجوى صواريخ «سام ٦» والتى تم تدميرها.التقارير الأولية التى أعقبت القصف الأمريكى تفيد بأنه ألحق أضرارا كبيرة فى المطار ودمر الطائرات والبنية التحتية الجوية فيه، حيث يشمل ذلك بشكل أساسى «حظائر الطيران» ومخازن الوقود والذخائر وقواعد الدفاع الجوى والرادارات. وهذه تعد خسائر جسيمة بالنظر إلى أنها الضربة الأمريكية الأولى على الأراضى السورية التى تستهدف موقعا تابعا للجيش السوري.
مما حرص البنتاجون على إعلانه سريعا بعد أقل من ساعة على تنفيذ القصف الصاروخي، أنه تم إبلاغ الجانب الروسى رسميا قبل تنفيذ قصف صواريخ «توماهوك» حرصا على أن تتخذ الطواقم الروسية احتياطياتها للحد من خطر تواجدهم بالقاعدة السورية، وفى اليوم التالى أعلنت إسرائيل أيضا أنها أبلغت من الجانب الأمريكى بعملية القصف قبل تنفيذها من الخبراء العسكريين الأمريكيين. وتعتبر صواريخ “توماهوك” التى استعملتها البحرية الأمريكية لقصف قاعدة «الشعيرات» قرب حمص، من أفضل وأكثر الأسلحة فعالية ودقة فى الترسانة الصاروخية الأمريكية، فهذه الصواريخ يمكن إطلاقها من البوارج أو الغواصات فى عرض البحر لضرب أهداف محددة بمساعدة الأقمار الصناعية. حيث تعد صواريخ توماهوك هى من عائلة ما يعرف بصواريخ (كروز ذاتية الدفع)، ولديها عدة استعمالات لاسيما وأنه من الممكن تغيير رءوسها المتفجرة بحسب الحاجة والهدف، ففى سياق التحديث الذى أجرته مصانع التسليح الأمريكى لهذه الصواريخ بات بإمكانها استعمال (منظومة GPS)، لتحديد المواقع خلال توجهها نحو الهدف، وحتى تغيير سرعتها خلال تحليقها، علما أنها تتمتع بميزة القدرة على التحليق على علو منخفض يحميها من تتبع الرادارات ومنظومات الدفاع الجوى المقابلة. الجدير بالذكر أن آخر تحديث لهذه الصواريخ بات أيضا يزودها بإمكانية استعمال المعلومات والإحداثيات التى تصلها من عدة مصادر، أى من باخرة الإطلاق أو من جنود قرب الهدف أو من الأقمار الاصطناعية، مما يمكنها من تعديل مسارها خلال طيرانها نحو الهدف إن كان متحركا، علما أنه فى جميع الأحوال يمكن لمطلق الصاروخ أن يتحكم به خلال فترة الطيران.
وقد وضعت هذه الصواريخ فى نسختها الأولى عام ١٩٨٣م، وتقوم بتصنيعها شركتا (جنرال موتورز، ورايثون ماك دونالد دوجلاس)حيث يتراوح سعر الصاروخ الواحد ما بين نصف مليون ومليون ونصف مليون دولار أمريكي. ويمكن تجهيز هذه الصواريخ برءوس متفجرة عادية (٤٥٠ كلجم) أو انشطارية وحتى نووية للأنواع التكتيكية منها، ويصل مداها إلى (٢٥٠٠ كلم) وسرعتها إلى (٨٨٠ كلم) فى الساعة. هذه الإمكانيات تضع هذا الطراز من الصواريخ فى مقدمة القذائف الهجومية خاصة بعد التقنيات التكنولوجية التى استحدثت عليه، وأبرز الدول التى تمتلك ترساناتها العسكرية صواريخ “توماهوك” هى الولايات المتحدة وبريطانيا،حيث استخدمتها البحرية الأمريكية لأول مرة فى حربها ضد العراق عام ١٩٩١م. وقد تم إنتاج ما يقارب (٦٠٠٠ صاروخ) حتى الآن، المصادر العسكرية الأمريكية تعلن أن(٢٠٠٠) منها فى الخدمة حاليا. ومن الممكن مواجهة هذه الصواريخ بصواريخ مضادة(أرض ـ جو)بتقنية متطورة كصواريخ باتريوت الأمريكية أو صواريخ (س٣٠٠) الروسية الصنع، وهذه الأخيرة المعلن أن الجيش السورى والوحدات العسكرية الروسية على الأراضى السورية مزودة بها، لذلك ثار مباشرة بعد القصف الأمريكى التساؤل حول جدواها العملية ولماذا لم يتم استخدامها كمضاد لهذا القصف، ومازالت الإجابة معلقة حتى الآن حيث يبدو بالاستناد إلى معلومة الأخطار المسبق لروسيا أن هناك منطقة سياسية مظلمة فى هذا الشأن، قيدت عمل هذه المضادات الأرضية المنتشرة فى أكثر من مكان عسكرى فى سوريا.
وربما هذا ما دفع الجيش الروسى لأن يعلن رسميا بعد يومين من تنفيذ عملية القصف، أنه سيعزز الدفاعات الجوية للنظام السورى بعد الضربة الصاروخية الأمريكية على قاعدة الشعيرات فى حمص، وفق ما ذكره المتحدث العسكرى الروسى «إيجور كوناشنكوف”، حيث جاء نص بيانه:”من أجل حماية البنى التحتية السورية الأكثر حساسية، سيتم اتخاذ سلسلة من التدابير بأسرع ما يمكن لتعزيز وتحسين فاعلية منظومة الدفاع الجوى للقوات المسلحة السورية”، فى الوقت الذى كان هناك تضارب ما بين الإعلان الأمريكى الذى تحدث عن (٥٩ صاروخا) تم إطلاقها تجاه القاعدة السورية، ذكر المتحدث الروسى أن (٢٣ صاروخا) أمريكيا فقط أصابت قاعدة الشعيرات، ووجه انتقادا حادا للإدارة الأمريكية الجديدة، بأن طريقتها فى شن الحرب لم تتغير منذ عمليات القصف فى يوغسلافيا والعراق وليبيا، لكنه استبعد أن يكون هناك احتمالية لاحتكاك جوى مع الولايات المتحدة فى الأجواء السورية. إنما تظل هذه الغارة الصاروخية خطا فارقا فى العلاقة ما بين الدولتين الولايات المتحدة وروسيا على الأقل فى معركة الإرهاب على الأرض السورية، فالجانب الروسى على وقع صدمته من التداعى السريع للأحداث أعتبر أن فكرة التحالف فيما بينهما ضد «تنظيم داعش»، صار موضع شك كبير فروسيا تنظر إلى أن هذه الغارة والضغط الغربى والإصرار الأمريكى فى مجلس الأمن على لجنة تحقيق بشأن استخدام السلاح الكيميائي، يقوض جهود مكافحة الإرهاب وأن الخطوات القادمة فى العمل الدولى المشترك أصبحت تستهدف «وصم الرئيس السوري» بحكم مسبق عن مسئوليته فى استخدام الكيماوي، هذا بتعبير وكلمات «قسطنطين كوساتشيف، رئيس لجنة الشئون الدولية» بمجلس الاتحاد الروسي.
الولايات المتحدة ربما تضع فى اعتبارها أن أول الأطراف المعنيين بهذه الغارة الصاروخية هم حلفاء النظام السوري، حيث سعت مؤخرا إلى تأكيد أنها تتجه نحو تغيير استراتيجيتها إزاء الصراع السوري. ففى حين تنتقد روسيا التسرع فى اتخاذ القرار الأمريكى، فإن واشنطن ترى أن روسيا تعرقل أية مساع لاتخاذ قرار دولى ضد النظام السوري، من خلال استخدام “حق الفيتو” فى مجلس الأمن. هذا اتضح وتكرر فى تصريحات المسئولين الأمريكيين الذين تحدثوا عن أن «هناك هجوما من جانب النظام، واستحق ردا مناسبا»، ودعوا روسيا إلى إعادة التفكير فى دعمها المستمر للأسد فى كلمة مندوبة الولايات المتحدة بمجلس الأمن، و»إعادة التفكير فى دعم الأسد» من الجمل التى ذكرت قبل الغارة وبعدها وذكرها نصا أيضا مندوب بريطانيا بالمجلس. وبالرغم أن من المتوقع أن تبذل أطراف أخرى جهودا حثيثة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، إلا أن الرسالة التى لا تخطئها العين من الغارة الأمريكية السريعة والمفاجئة، أن أى عمل عسكرى واسع من جانب النظام وحلفائه سيواجه برد فعل عسكرى قوى من جانب الولايات المتحدة ولو منفردة.
الانخراط العسكرى الأمريكى فى سوريا قد لا يبدو محسوما بشكل متكامل حتى الآن، لكن من المرجح أن توجه تلك الضربة تحذيرات مباشرة للنظام وحلفائه، خاصة روسيا التى كانت أكثر طرف معنى بالضربة إلى جانب إيران وحزب الله، بأنه يمكن تكرارها مرة أخرى فى حالات مماثلة. فضلا عن تغييرات متوقعة قد تطرأ على علاقات الولايات المتحدة بالقوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، فمن المتصور مثلا أن تعود تركيا تدريجيا إلى رفع مستوى التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة، على حساب التفاهمات التى توصلت إليها سابقا مع روسيا، وهذا سيظهر جليا فى عودتها من جديد إلى طرح الصيغة القديمة التى كانت قد تجاوزتها المفاوضات التى جرت فى الآستانة، وهى التأكيد على أن لا مستقبل لنظام الأسد فى الحكم أو فى المرحلة الانتقالية، وعلى ضرورة إقامة منطقة حظر جوي، وهو احتمال يمكن أن يلقى تجاوبا فى الفترة القادمة، لا سيما فى حالة ما إذا نفذت موسكو تهديداتها فعليا، واستمرت فى قطع الاتصالات العسكرية التنسيقية مع واشنطن لتختلط الأوراق من جديد ويعود الصراع لنقطة الصفر !