المقاتلون والذئاب يتحركون شمالًا وغربًا لإعلان الجهاد العالمى الحرب فى سوريا مسرح الخبرة القتالية والتلقين الأيديولوجى
بقلم – سفير د. رضا شحاتة
ما بين اتساع الدائرة، وانتشار الخلايا، وانفجار بؤر الإرهاب وبعثرة شظاياه من مواطنها الأصلية فى آسيا الوسطى، وما بين تحرك عناصر التطرف والتكفير جنوبًا باتجاه المشرق العربى والشرق الأوسط عبر العراق، ثم سوريا ومصر وليبيا واليمن وشبه الجزيرة العربية، تحت عباءة مزيفة تتخفى تحت عباءة الإسلام المفترى عليه يرتحل الآن وبكثافة مشهودة المقاتلون الأجانب و”الذئاب الشاردة” شمالًا وغربًا «يورآسيا» روسيا وشرق أوربا وغرب أوربا وشمالها «دول اسكندنافيا»، بل عبر الأطلنطى إلى قلب الولايات المتحدة ذاتها حتى أضحى الخطر الآن ماثلًا وداهمًا يعصف قولًا وفعلًا بأمن الدول واستقرار الشعوب وزعزعة كياناتها.
لم يعد اليوم ثمة وقت لمزيد من الانتظار أمام هذا الزحف المتسارع بما يسمونه زورًا بجنود الخلافة.. بما فى ذلك من استهانة وإساءة للتاريخ الإسلامى كله، وبما يسمونه كذبًا وتحريفًا باسم (الجهاد العالمى) فى تشويه وتحريف مقصود لكل معانى الجهاد، التى أجمع عليها فقهاء المسلمين وعلماؤهم وشراحهم عبر مسيرة الحضارة الإسلامية كلها، ولعل فى كل ذلك ليس فقط ما هو موجه لضرب الحضارة الغربية أو الأمن الدولى والإقليمى فحسب، بل إن فى هذه الظواهر الأخيرة للإرهاب، الذى يضرب اليوم فى كل عاصمة وفى أى دولة دون استثناء ما هو موجه وبنفس القدر من الشراسة والاستهانة بحقائق وجوهر الإسلام ذاته، وسوف نبدأ فى هذه الدراسة بالبؤر السرطانية الأولى لخلايا الإرهاب فى آسيا الوسطى.
لعلها تكون من أجمل مدن أوربا ومن أعرقها فى تاريخ الدولة الروسية، حين سميت تارة سان بطرسبورج العاصمة الثقافية والاقتصادية لروسيا عبر قرون تغوص فى عمق التاريخ الإمبراطورى (١٧١٢-١٧١٨) وتنطلق منها ثورة البلاشفة منذ أكثر من مائة عام (١٩١٧)، وهى نقطة البداية فى رحلة العودة للرئيس (بوتين) متجهًا إلى الكرملين ليصعد سلم السلطة ويستكشف ردهات ومواطن القوة والتأثير وليسعى من جديد لاستعادة أمجاد (بطرس الأكبر)، التى سميت باسمه تلك المدينة صاحبة الليالى البيضاء كل صيف، التى كانت ولم تزل نافذة مفتوحة على حضارة الغرب وفنونها وثقافتها، هذه المدينة بكل ما ترمز إليه من تاريخ وثقافة وسياسة واقتصاد كانت هدفًا لآخر ضربات الإرهاب فى الثانى من أبريل هذا الشهر، حيث لقى أربعة عشرة من المواطنين مصرعهم وأصيب عشرات آخرون، لكن ذلك كله فقط هو المعلوم أو المعلن من حقائق هذه الهجمة الإرهابية، لكن المجهول أو المبهم أكبر وأضخم وأعمق بكثير.
ـ تتفاوت الروايات، مرة تنسب الجريمة إلى طالب من كازاخستان ـ إحدى الجمهوريات فى آسيا الوسطى (وهى بالمناسبة مقر المباحثات الجارية فى عاصمتها (أستانة)، حيث تجرى المباحثات السياسية حول الأزمة السورية جولات متتالية دون حسم حتى الآن، ثم تنفى رواية أخرى ما جاء من معلومات لتنسب الجريمة إلى مواطن من (قرغزيا) أو (قرغزستان) جمهورية آسيوية فى آسيا الوسطى وصف أنه (انتحارى) يدعى أكبر زون جليلوف ـ تم التعرف عليه من رأسه ـ الجزء السليم المتبقى من جثته وليس المهم اسم (الإرهابى)، وليس المهم أيضًا أنه من (كازاخستان) أو من قرغزستان، أو أنه (روسى) اعتنق الإسلام، أو أنه من المسلمين الروس، كما تروى تفاصيل أجهزة الاستخبارات الروسية، التى كانت لديها معلومات مسبقة عن وقوع حادث إرهابى فى سان بطرسبورج، وإن كانت قد عجزت عن تحديد هويته الإرهابى أو الحيلولة دون ارتكاب الجريمة، ليس المهم هذا ولا ذاك، لكن الخطر الجسيم يكمن فى الصورة الأكبر والسياق الأوسع، التى تمتد آثارها أو انعكاساتها إلى ما يتجاوزها إلى منطقتنا وإلى مصر وإلى أوربا وما هو أبعد من أوربا، تلك هى ظاهرة الإسلام الراديكالى أو ظاهرة التطرف إسلامى أو الغلواء إلى حد ممارسة العنف ممثلًا فى حركات إسلامية راديكالية، ذات جذور عميقة فى آسيا الوسطى بجمهورياتها السوفيتية السابقة (كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وطاجاكستان وقرغزستان)، وقد كان كاتب هذه السطور سفيرًا معتمدًا فى جمهوريتين منهما وزار وتقابل مع رؤساء الجمهوريات فى تلك الدول ووزراء خارجيتها وكبار القادة المسئولين عن أجهزة الأمن الاستخبارات ومكافحة الإرهاب فى تلك الدول، وذلك خلال مسئولياته أيضًا سفيرًا لمصر فى روسيا).
وحتى أطرح معالم هذه الصورة الأوسع، التى تساعد على رؤية ما ظل مجهولًا أو مبهمًا من جوانب جرائم الإرهاب داخل روسيا فى عواصمها ومدنها وأقاليمها الأوربية الآسيوية معًا يتعين القول بداية بأنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتى ذاته بخمسة وعشرين عاما وإعلان الجمهوريات المستقلة فى آسيا الوسطى، ظلت إشكاليات الأمن والاستقرار تحتل مركز الصدارة فى أجندات تلك الدول، وحتى فى عصر ما بعد الاتحاد السوفيتى كانت قضيتا الأمن والاستقرار تلك، تسعى دول المنطقة لتأمينها من خلال هياكل الأمن الجماعية (منظمة اتفاقية الأمن الجماعى، ومنظمة شنغهاى للتعاون، (التى تضم الصين وروسيا ودول المنطقة) للتصدى للأخطار وردع التهديدات الجديدة الناشئة بعد تصاعد ظاهرة الإسلام الراديكالى فى آسيا الوسطى، التى ظلت معبرًا للتهديدات من أفغانستان، مضافا إليها صراعاتها العرقية ونزاعاتها الإقليمية الحدودية. وصراعاتها حول الموارد المائية.
كان نشاط الجماعات الراديكالية واتساع نطاقها، واشتداد عودها بعدما اكتسبت عناصرها تجارب من ممارسة القتال فى أفغانستان وفى سوريا وفى العراق (وان لم تتحدد بشكل قاطع ودامغ علاقات وصلات مباشرة بين تنظيمى القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وبين الهجمات الإرهابية الأخيرة وأنشطة الجماعات الإرهابية فى آسيا الوسطى، لكن المؤكد أن ما تمارسه تلك الجماعات الإرهابية فى سوريا وأفغانستان بمثابة الملهم للعناصر الإسلامية الراديكالية فى آسيا الوسطى.. تصاعد التوتر داخل أفغانستان وحولها، استمرار الحرب فى سوريا وتنامى الخلايا الراديكالية الجديدة فى آسيا الوسطى سوف يؤدى بالضرورة إلى مضاعفة التهديدات والمخاطر، التى تتعرض لها منظومة الأمن الإقليمى، وذلك على خلفية الموقف الجيوسياسى المتدهور نتيجة للقلاقل السياسية فى دول آسيا الوسطى وأولها أوزبكستان، حيث تجرى عملية لانتقال السلطة، ومن ثم تتوازى معها عملية خروج النخبة السياسية الحاكمة ودخول نخبة سياسية تحل محلها، وثانيًا فى قيرغزستان (موطن الانتحارى الذى ارتكب جريمة تفجيرات المترو فى مدينة سان بطرسبورج) تدور رحى معركة سياسية بين الحكومة والمعارضة استعدادًا للانتخابات الرئاسية هذا العام (٢٠١٧)، الأمر الذى أسفر عن انقسامات وصراعات داخل التخب السياسية والمجتمع وتنامى الاضطرابات الداخلية لتكون أرضًا جاهزة وصالحة للأفكار والتيارات الإرهابية ودعاوى الإسلام الراديكالى الموغل فى التطرف وبرغم ذلك فكل هذه المصادر والينابيع تدفع بتيارات الإرهاب والتطرف من داخل آسيا الوسطى ـ باتجاه روسيا، والقوقاز، ذلك الإقليم الثانى الجاهز لنمو وانتشار الإسلام الراديكالى ثم باتجاه أوربا والشرق الأوسط، ذهابًا وإيابًا، وذلك بعد أن تكون قد اكتسبت خبرات القتال والتدريب، وما يسمى «بتطعيم المعركة» فى لغة المحاربين لتنشر فى مدن روسيا وأوربا ومدننا ومدن العالم بلا حدود تحول بينه وبين تحقيق استراتيجية الدمار وتفكير العنف والتخريب والقتل باسم الإسلام المفترى عليه.
هذه الأخطار والتهديدات فى موقع استراتيجى فريد يؤثر تأثيرًا مباشر فى محيطه الأوسع أقصد فى آسيا الوسطى، وهى الخلفية الجيوسياسية للشرق الأوسط، والمدخل الشرقى الآسيوى باتجاه روسيا، وأهم محاور التحرك الاستراتيجى للصين (طريق الحرير) باتجاه أوربا وهى تطرح على الفور أسئلة ملحة عن كيفية التصدى لهذه الأخطار هل بتحديد العوامل، التى تشعل نيران التطرف، أم باتجاه تدابير مادية (عسكرية) فى مواجهة تلك الأخطار، وإن كانت التدابير بالطبع هى المسئولية الأولى والمباشرة للدول نفسها فى تلك المنطقة فى ردع تلك الأخطار وحل إشكاليات الأمن والاستقرار، التى لا تؤثر فى منطقة آسيا الوسطى فحسب، بل فى الدوائر الجغرافية القريبة منها والمحيطة بها (روسيا، والشرق الأوسط فى المقام الأول).
آسيا الوسطى بكل دولها، فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر٢٠٠١ وجدت نفسها على خط المواجهة فى مكافحة الإرهاب الدولى فكانت دول آسيا الوسطى بمثابة محطات وقواعد عسكرية ونقل وإمداد وتموين لتلك الحملة الأمريكية، لكن الموقف كله تغير جذريًا بعد بداية الانسحاب الأمريكى ليبرز من جديد الوجود الروسى والوجود الصينى واقترن ذلك بما يوصف بتغير (القيادات) (أو تغير الحرس) فى المنطقة، ولاسيما فى أوزبكستان، أكثر دول المنطقة كثافة سكانية بانتخاب رئيس جديد سبتمبر ٢٠١٦.
دون الإغراق فى تفاصيل الأوضاع السياسية فى دول المنطقة، فقد عرفت آسيا الوسطى دائمًا باسم منطقة «اللعبة الكبرى»، التى تجسد التنافس أو الصراع بين روسيا والصين والولايات المتحدة، وإن كانت الدول الثلاث فى حقيقة الأمر تحرص على درجة من التوازن الاستراتيجى خشية انهيار الأوضاع الآمنة نتيجة للصراعات فيما بينها وامتدادها إلى أخطر المناطق المؤثرة فى روسيا (فى القوقاز) أو إلى منطقة «شيبنج يانج» غربى الصين أو إلى منطقة جنوب آسيا والهند وباكستان، وكلها مناطق قابلة للانفجار وتزخر بالتيارات الإسلامية الراديكالية، كذلك، وبالنسبة للسياسة الأمريكية الحالية فى ظل إدارة الرئيس (ترامب) ليس من المرجح أن تزيد من اقترابها من المنطقة أكثر من الاهتمام بالأبعاد الأمنية والاقتصادية، كذلك الصين التى لا يتعدى اهتمامها الجوانب الاقتصادية المباشرة مع الحرص الأكبر من السياسة الصينية على وأد أى مظاهر للتطرف ـ الإسلام الراديكالى ـ وهى فى مهدها حتى لا تتحول آسيا الوسطى إلى منطقة اشتعال تؤثر فى الأمن الإقليمى، أما روسيا فهى القوة والجيوسياسية الأولى الأكثر تأثيرًا وتأثرًا بتيار التطرف والإسلام الراديكالى فى آسيا الوسطى، وإن كانت من الزاوية الاقتصادية لا تستطيع الدخول فى منافسة مع الصين (من حيث الاستثمارات أن المشروعات الاقتصادية الكبرى، لكل آسيا الوسطى تمثل قيمة استراتيجية كبرى لروسياـ خاصة بعد تدخلها العسكرى فى سوريا، الذى شجع ما سمى العناصر الجهادية فى استهداف روسيا واستهداف دول آسيا الوسطى ذاتها وغنىٌ عن القول بأن الاستقرار فى آسيا الوسطى يؤثر بشكل مباشر فى الأوضاع الأمنية فى روسيا، كما أنه فى المقابل يمثل (الدرع الواقى) ضد أى انتشار محتمل لصراعات الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وحيث ترتكز تنظيمات الإسلام الراديكالى فى سوريا والعراق.
لكن الصراع المسلح فى سوريا وحولها أدى بالضرورة إلى ما نشاهده من ظهور مرحلة جديدة هى الأخطر فى مراحل التطور بالنسبة لأخطار الإرهاب، الذى اعتنق ما سمى بالإسلام الراديكالى، الذى تجذرت أصوله فى آسيا الوسطى بفعل عوامل داخلية وخارجية، وحتى وإن كانت الدوافع الداخلية مردها إلى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية السياسية، مثل البطالة والفقر والفساد فإن الدوافع والمسببات الخارجية هى التى حركت الموجة الأخطر فى ظاهرة الإسلام الراديكالى أو الراديكالية الإسلامية، كما توصف أحيانًا وتمخض عنها كما نرى ونشاهد مظاهر عديدة من القوى الجيوسياسية واشتعال نقاط ساخنة جديدة.
لعل أولى نتائج هذه الموجة الكاسحة تلك الحرب الدائرة فى سوريا، التى هيأت ظروفًا تولدت منها وتعاظم نموها وانتشارها جماعات راديكالية متطرفة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، التى تمكنت فى سنوات قليلة من تغيير وجه ومساحة الخطر الإرهابى والجرائم، التى يرتكبها وهو ما فضح بكل سافر انكشاف النظم الأمنية على المستوى الإقليمى، بل وعلى المستوى العالمى، وتكفى الإشارة إلى أن الهجمات الإرهابية التى وقعت فى باريس فى يناير ٢٠١٧، ومن قبل فى نوفمبر ٢٠١٥ وفى احتفالات برلين احتفالات رأس السنة نهاية ٢٠١٦ قد دللت على أن العناصر (الراديكالية الإسلامية) ليست قادرة على ارتكاب جرائمها فى منطقتنا العربية فحسب فى المشرق العربى والشرق الأوسط عمومًا(تركيا فى نهاية ٢٠١٦ بمدينة اسطنبول فى هجوم المطار)، بل تعدت ذلك لتنتقل شمالًا وغربًا باتساع الخريطة الأوربية، بعد أن كانت (داعش) قد تمكنت عبر سنوات من الإعداد والتنظيم والتأهيل من تنشيط خلاياها النائمة وما يسمى (بالذئاب الشاردة)، وكانت فى معظمها كما تقطع التقارير الاستخباراتية فى دول آسيا الوسطى تحت تأثير الدعاية الراديكالية لتلك الجماعات المتطرفة، التى أعلنت مسئوليتها عن الهجوم الإرهابى فى (كازاخستان) فى يونيه ٢٠١٦.
لكن الظاهرة أو السمة الثانية البارزة المترتبة على الحرب الدائرة فى سوريا تتمثل فى ذلك العدد الكبير ممن نسميهم بالمقاتلين الأجانب المشاركين فى أعمال القتال والاشتباكات المسلحة على الأرض السورية، وعدد هؤلاء كما تسجل التقارير يزداد بشكل مستمر وتكفى الإشارة فى هذا الصدد أن وزارة الخارجية الأمريكية نفسها قد أعلنت فى يونيه ٢٠١٦ أن عدد المقاتلين الأجانب، الذين ينتمون لمائة دولة تقريبا يمثل ٤٠٠٠٠ أربعين ألف مقاتل يحاربون فى سوريا، وهذا العدد من المقاتلين فى سوريا يتجاوز بكثير المجموع الكلى للعناصر، التى انضمت للجماعات الإرهابية فى أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال فى أى عام طوال السنوات العشرين الماضية، والأخطر والأفدح أثرًا من بين هؤلاء المقاتلين من يعود إلى أوطانهم (لتنظيم) وارتكاب أعمال إرهابية بالغة العنف وشديدة التأثير (وهو نفس ما حدث فى مترو سانت بطرسبورج فى الثانى من أبريل ٢٠١٧ لأحد العناصر القتالية الوافدة من قرغرستان فى آسيا الوسطى.
الأزمة أو الحرب السورية دون جدال كشفت عن الانقسامات والصراعات ما بين القوى الكبرى حول القضايا الأمنية والسياسات العالمية، وامتدت آثارها إلى مختلف جوانب السياسة الخارجية ليست أقلها ذلك التوتر السياسى، الذى طرأ على العلاقات الروسية التركية فترة من الوقت إلى أن اعتذر (أردوغان) وتحول إلى محاولة التقارب بحكم الضرورات الاستراتيجية مع روسيا اللاعب الأقوى فى الأزمة السورية، كما أدت إلى تلك الفجوة الواسعة بين السياستين الخارجتين لكل من واشنطن وموسكو سواء فى عهد أوباما أو فى عهد ترامب، وتزداد هذه الفجوة اتساعا وعمقًا مع تدهور الأزمة فى سوريا، الأمر الذى يضع الأمن الإقليمى للشرق الأوسط والأمن الدولى، بالتالى على المحل بسبب صراعات القوى الدولية والإقليمية لحسم هذا الصراع عسكريًا أوسياسيًا (وهو ما يستلزم اليوم رصد تفاعل الأزمة السورية مع علاقات واشنطن وموسكو).
وإذا ألقينا نظرة أوسع على مناطق النفوذ والانتشار، التى تمارسها وتتأثر بها الجماعات الإرهابية فى آسيا الوسطى ـ محور نشاط الإسلام الراديكالى وينابيعه الأولى ومنطلقاته باتجاه الشرق الأوسط، وباتجاه الشمال والغرب يمكن أن نرصد وباختصار:
* الموجة الجديدة من الأنشطة الإرهابية تعود فى أصولها إذا تتبعنا خيوط المعلومات المستقاة من عناصر التنظيمات الجهادية فى كثير من دول آسيا الوسطى بدءًا من تنظيم الطالبان، التى رسخت مواقعها شمالى أفغانستان، التى توجد فيها بالمناسبة عناصر منضمة لتنظيم الدولة الإسلامية، كذلك حيث تجرى التنافس والصراع بين القاعدة والتنظيم ـ داعش ـ على اجتذاب المقاتلين أو المجندين الجدد، حيث تتاح لهم فرصة التزود والتلقين بالأفكار التكفيرية المتطرفة من ناحية، ثم التدريب القتالى العملى للتجهيز للعمليات فى (عواصم الكفر والإلحاد) روسيا ـ أوربا ـ الشرق الأوسط والولايات المتحدة.
وفى مقدمة تلك الحركات الحاضنة لجماعات الإرهاب الجديدة واجتذاب المقاتلين الجدد لحركة الإسلامية فى أوزبكستان وما تسمى بجماعة «أنصار الله»، وليس على تنظيمى القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، اللذين يمارسان نشاطهما فى سوريا ـ الشرق العربى وفى أفغانستان (وسط آسيا) إلا «إيقاظ» وتنشيط خلاياها النائمة عبر تلك المناطق، وهو ما يفسر مانراه اليوم وغدًا من عمليات إرهابية انتحارية، أو تفجيرية، وقد كانت كل من كازاخستان، وأوزبكستان وقرغزستان قد واجهت منذ عام ٢٠٠٤ (حركة اتحاد الجهاد الإسلامى) فى العاصمة طشقند فى أوزبكستان، وجماعة جيش المهدى (٢٠١٠) فى تيرغزستان وفى كازاخستان كبرى دول آسيا الوسطى شنت الجماعة المعروفة باسم جند الخلافة ٢٠١١ عددًا من الهجمات الإرهابية وكلها وثيقة الصلات بتنظيم الطالبان والقاعدة فى كل من أفغانستان وباكستان، حيث تتلقى التدريب والسلاح والتلقين العقائدى.
وفى هذا السياق يشير كثير من التقارير إلى أنه عبر السنوات الثلاث الماضية فقد تمكنت العناصر والخلايا النشطة فى آسيا الوسطى من إنشاء ما يسمى «بالألوية العرقية» فى سوريا والعراق، وهى منضمة فى الأغلب لتنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة فتح الشام (ذات الارتباط بتنظيم القاعدة)، وهنالك المئات ربما الآلاف من مواطنى آسيا الوسطى يقاتلون فى صفوف تلك التنظيمات، ومن هذه الأولوية ما يعرف باسم «كتيبة التوحيد والجهاد» من آسيا الوسطى إلى شتت هجومها صيف ٢٠١٦ فى قرغزستان، خاصة أنه فى وقت ممارسة الأنشطة الجهادية تلك فى سوريا، نرى جيلًا جديدًا من المتطرفين المقاتلين أتاح لمواطنى آسيا الوسطى تولى المراكز القيادية فى التنظيمات الإرهابية، وهو ما يستتبع ضرورة رصد ومراقبة وتتبع أصول وانتماءات العناصر الجهادية المقاتلة فى سوريا بصفة خاصة، والكشف عن الأساليب المتبعة فى ممارسة أنشطتهم وتحركاتهم وخلاياهم الجديدة لدرء انفجار تلك المخاطر فى محيطنا العربى.
ولعل أهم ما يشغل حكومات ودول آسيا الوسطى اليوم ما يمثله مواطنوها من عناصر جهادية قتالية عائدة بعد اكتساب خبرات الحرب الميدانية.
كما أن التطورات فى الشرق الأوسط خاصة فى مسارح القتال فى العراق وسوريا، ومصر تفرض إلقاء كثير من الضوء على الجماعات فى آسيا الوسطى (مثل جماعة الحركة الإسلامية فى أوزبكستان، والحرب الإسلامى التركى وغيرها، خاصة أن الحرب الدائرة فى سوريا قد ولدت موجة خطيرة جديدة من تيارات التطرف فى المنطقة كلها، بيد أنه على النقيض من جماعات المقاتلين الأجانب الآخرين فإن العناصر القتالية المنتمية لآسيا الوسطى تتميز بالصفات التالية:
* أنها تمثل اليوم جزءًا من الجماعات الراديكالية المقاتلة فى سوريا، فضلًا عن أنها تتجه للصراع فيما بينها، والحرب الدائرة فى سوريا لا تشن ضد الرئيس بشار الأسد فحسب، بل إن ثمة صراعا دام يجرى على قدم وساق بين عدة أجنحة عسكرية للسيطرة على مساحات من الأرض والموارد، والقوة فى نفس الوقت، وهذا الصراع قد انخرط فيه مقاتلون من آسيا الوسطى، من تنظيم الدولة الإسلامية، ومن القاعدة ومن جبهة فتح الشام وكلها تقف مواقف متصادمة فى تلك الحرب وتخوض المعارك ضد بعضها والبعض الآخر، كما أن عناصر المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى تكون مجموعات عرقية مستقلة أو ما تسمى (بالجماعات) تشكل ألوية مستقلة ومنفصلة بذاتها دون أن تنضم لمقاتلين من جمهوريات أخرى.
كذلك فإن معظم تلك العناصر تغادر أوطانها فى شكل عائلات كاملة (١٥٠ عائلة من طاجكستان وحدها ٦٣ عائلة من قيرغزستان وحدها وعند عودة بعض مقاتليها، فإنهم لا يلحقون بعائلاتهم، بل يتجهون إما إلى تركيا، وإما إلى مصر( سينا) وغيرها، ومثل تلك العناصر العائدة ـ ذات الخبرات القتالية العاليةـ تتحول بسهولة إلى الهدف التالى السهل لشبكات التجنيد من الجماعات الإرهابية، ومن ثم تطلق موجات جديدة من التطرف والتخريب.
أما السمة الرابعة فهى أن تلك العناصر القتالية من آسيا الوسطى تتولى مواقع قيادة داخل الجماعات الإرهابية، وطبقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، فإن المقاتلين المنتمين لآسيا الوسطى (ومثلهم المواطنون الشيشان من روسيا) يحتلون المناصب القيادية فى تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة فتح الشام، وهى تلك الجماعات التى شاركت فى الحرب فى سوريا، وهى الآن تحل محل الجيل الحالى من القادة فى المرحلة القادمة والقريبة.
ومن منظور شامل لبعض دول آسيا الوسطى تأتى كازاخستان فى مقدمة الدول المستهدفة من الحملات الدعائية الجهادية إذ إن تنظيم الدولة الإسلامية عرض عبر السنوات الثلاث الماضية، فيديوهات لمواطنين «كازاخ» قادمين إلى سوريا بالعشرات وقد تم تصويرهم «مقاتلين» ومعهم بعض الأطفال القصر فى نهاية ٢٠١٥ أطلق تنظيم داعش أحد الفيديوهات يصور طفلًا لا يتجاوز العاشرة، وهو ينفذ حكم الإعدام فى واحد من عناصر أجهزة الأمن الفيدرالى الروسى بهدف ترويع أعضاء تلك الأجهزة بزعم انتشار دعاية الخلاقة الإسلامية القادمة بين أجيال الشباب.
أما فى جمهورية (قيرغزستان) فإن خطر الإرهاب أكبر وأشد، حيث يتجه المقاتلون العائدون إلى أوطانهم إلى التخطيط لعمليات إرهابية واسعة النطاق لترويع السكان والسلطات، وكان معظم هؤلاء قد تلقوا تدريبهم فى المعسكرات فى سوريا واشتركوا مباشرة فى عمليات قتالية (طبقًا لأحدث الإحصائيات غادر قرغزستان (٥٧١) مواطنًا للقتال فى سوريا (منها ٦٣ عائلة بأكملها منها ١٠٠طفل قاصر).
وفى طاجكستان وهى أكثر دول آسيا الوسطى الإسلامية، التى شهدت زيادة ملحوظة فى عدد مواطنيها المتجهين للقتال فى الجماعات الإرهابية ـ تنظيم الدولة الإسلامية وازداد إلى خمس مرات ما بين عام ٢٠١٤-٢٠١٥ من (٢٠٠) مواطن إلى (١٠٠٠) مواطن، وقد غادر طاجكستان من مناطقها الجنوبية خاصة (مجاورة لأفغانستان وتضم نفس الأعراق الطاجكية من سكان أفغانستان)، وقد ألقت السلطات الأمنية فى طاجكستان فى النصف الأول من عام ٢٠١٦ القبض على (٣٦٨) عضوًا من التنظيمات الإرهابية ينتمون لتلك البلاد منهم (١٣٣) من تنظيم الدولة الإسلامية، (١٨) من تنظيم الإخوان المسلمين، (١٠) من تنظيم «الحركة الإسلامية التركية».
وفى تركمنستان، رغم صعوبة توافر المعلومات، فإن تحليل المصادر السورية يشير إلى عدد مواطنى تركمنستان (مجاورة لإيران) ويقاتلون فى سوريا بلغ (١٩٠) مواطنا مقاتلا كجزء من التنظيمات والجماعات الإرهابية مع تنامى الأعداد المتجهة لميادين القتال.
وتنفرد أوزبكستان بأنها لها تاريخ حافل بالجماعات الراديكالية، ومن أشهرها (الحركة الإسلامية فى أوزبكستان)، التى تتميز بالجاهزية القتالية وتتربع على عرش الجماعات الإرهابية فى آسيا الوسطى (بالإضافة لجمماعة أنصار الله وجند الخلافة) وتمثل الحرب فى سوريا المرحلة المتقدمة لتطور الحركة الإسلامية فى أوزبكستان، وها نحن نشاهد ما يسمى بالتشكيلات العسكرية الأوزبكية المنتمية لأوزبكستان) المعروفة باسم «كتيبة الإمام البخارى وكتيبة التوحيد والجهاد»، التى تدعم مواقعها باعتبارها الخطوط الأمامية للتنظيم الإرهابى المعروف باسم جبهة فتح الشام (أو بعبارة أخرى صريحة تنظيم خلايا القاعدة فى سوريا)، وهى التى ينتمى إليها المواطن الأوزبيكى المتهم بارتكاب الحادث الإرهابى فى قلب العاصمة السويدية استكهولم منذ أيام قليلة.
مجمل القول بأنه ثمة عدة ظواهر تكشف عن تصاعد خطر الإرهاب القادم من (الإسلام الرديكالى) فى آسيا الوسطى من خلال ما يسمى بالتنظيمات الجهادية.
أول هذه المظاهر أن الحرب التى يخوضها مواطنون من آسيا الوسطى فى صفوف تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق تفتح الأبواب على مصراعيها أمام الجماعات الإرهابية لاجتذاب عناصر جديدة عن طريق التلقين والتجنيد والدعاية من تلك المناطق وتوجيههم إلى مناطق العمليات فى الشرق العربى وشرق أوربا وغرب أوربا والولايات المتحدة.
وثانيًا أن المواطنين المقاتلين من آسيا الوسطى وبهدف تحقيق (الشرعية) والحصول على «الاعتراف» بوجودهم، فهم يحرصون على البلاء بلاء حسنًا فى القتال واستخدام أكثر أساليب دموية ووحشية إلى درجة استخدام المقاتلين الأطفال من دول آسيا الوسطى كما ظهر فى فيديوهات تنظيم الدولة الإسلامية فى تنفيذ أحكام الإعدام.
ثالثًا وبهدف تأكيد مواقعهم القيادية فى تنظيم القاعدة تنظيم الدولة الإسلامية تحرص باستمرار على ظاهرة التغيير فى القيادات (تغير الحرس، كما يقال).
رابعًا يرتبط تصاعد الخطر الإرهابى فى آسيا الوسطى بعودة المقاتلين ممن اكتسبوا المهارات القتالية وجاهزيتهم لشن الهجمات الإرهابية فى بلادهم. عوامل التاريخ، والدين والجغرافيا كلها جعلت من أفغانستان وحدودها مع دول آسيا الوسطى بمثابة الساحة الأكبر والملاذ الأوسع لاكتساب مهارات القتال والإعداد لاستراتيجية الدمار، التى تسمى زورًا وبهتانًا باستراتيجية الجهاد العالمى.
ودون العودة لسرد تفاصيل التنظيمات الإرهابية فى كل دولة من دول آسيا الوسطى الإسلامية على حدة، حيث نشأت وتطورت حركات الإسلام الراديكالى المتطرف نعيد الإشارة إلى أنها دون استثناء ذات صلات تنظيمية وعملياتية مباشرة بالحرب الدائرة فى سوريا، خاصة ثم فى العراق ثم فى مصر، حيث زرعت خلايا تنظيمات الدولة الإسلامية وخلايا التنظيمات الإرهابية المنتسبة لتنظيم القاعدة، ومن قبلها وبعدها تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر، الجذور الحقيقة للفكر الراديكالى المتطرف، الذى استشرى فى جمهوريات آسيا الوسطى.
لكن دور الدعاية الإلكترونية أو ما يسمونه بالدعاية الرقمية يمثل عاملًا حاسمًا فى عمليات التجنيد، التى تتم لاجتذاب المقاتلين لهذه التنظيمات من خلال المشاركات الشائعة عن طريق آلية (اليوتيوب)، التى تمكن من مشاهدة عشرات الفيديوهات عن أنشطة الجماعات الإرهابية، وقد تجاوزت نسبة مشاهداتها أكثر من ١٠٠٠٠٠ مرة (مائة ألف مرة).
ولذلك فإن ما نسميه بعملية التجنيد الافتراضى (عن طريق الإنترنت) تحول إلى أداة شديدة الفاعلية للتأثير والتوجيه وتزداد الصعوبات فى تتبع أصول هذه الآلية، كما تزداد الصعوبات فى اتخاذ التدابير المضادة لاتجاه الجماعات الإرهابية لتغيير شبكاتها الاجتماعية والاتجاه إلى (التويتر) للترويج لأيديولوجية الحرب والجهاد وهى جماعات تفوقت وتمكنت من امتلاك تلك الأدوات، وعمدت فى نفس الوقت إلى استخدام وسائل التشفير للرسائل عن طريق المحمول، وغيرها من وسائل تكنولوجيا المعلومات ومختلف مناهج العلاقات العامة (استخدام ٥٧٠٠٠) موقع إلكترونى فى دول آسيا الوسطى فقط لتجنيد المواطنين.
وإذا كان المعروف والمعلن من أنشطة شبكات الجهاد العالمى أو الإسلام (الراديكالى) فى آسيا الوسطى برغم كثير من المعلومات والتقديرات المطروحة فى هذه الدراسة لم يزل دون الحد الأدنى، فإن القدر المجهول أو المبهم هو الأكثر خطورة إذ لم يزل الجزء الأكبر كامنًا تحت السطح فى تنظيمات الإرهابية فى آسيا الوسطى، التى تفاجأنا كل يوم وفى كل عاصمة من عواصم الشرق والغرب بصدمات إرهابية تذكرنا بخطورتها على الآجال القصيرة والمتوسطة والبعيدة.
ولعل التصدى اليوم لمظاهر تيارات التطرف (والراديكالية) فى دول آسيا الوسطى يتحول إلى أولوية عليا ليس فقط فى أجندات دول تلك المنطقة، بل فى أجندات دول المشرق العربى، فضلًا عن دول شرق أوربا (روسيا) ودول غرب أوربا (برلين وبروكسل وباريس ولندن واستكهولم، بل والمجتمع الدولى كله وتأكيد الارتباط الواضح بأحداث الحرب الدائرة فى سوريا والعراق، ومن يدرى أين ستكون غدًا؟ وبين الإرهاب القادم من آسيا الوسطى، الذى قد لا يترك لنا وقتًا طويلًا للانتظار.