رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


.. ودائما هناك شهداء جدد من الشرطة تعيش ذكراهم!

12-4-2017 | 13:05


تقرير: شيرين صبحى

“ودائمًا كانت هناك جثث جديدة غذاء للقذائف، الموتى أشبه بتوابيت تتطاير أشلاؤها هنا وهناك، وجوههم الميتة تحمل تعبيرًا شنيعا سيلتصق بذاكرتك إلى الأبد، أحدهم كان ممدًا، جسده ممزقا وداميا، ينشج بصوت لاهث مذعور: «ابقوا معنا.. لا تذهبوا».. اقتباس من رواية «كل شىء هادئ على الجبهة الغربية» للكاتب الألمانى إريك ماريا ريمارك”.. اقتباس نراه ملائماً تماماً.

“مع السلامة يا نجوى”، “فى الجنة يا شهيدة”.. هكذا ارتفعت الأصوات الباكية مع تلويحة الوداع الأخيرة، قبل أن تغيب عن عيونهم للمرة الأخيرة، تلك النائمة داخل كفنها الأبيض، لتغيب تحت الثرى، بعد أن دون اسمها داخل سجل شهداء هذا الوطن.

استيقظت نجوى فى الصباح الباكر مثلما اعتادت كل يوم، ألقت نظرة أخيرة على بيتها الذى شيدت أركانه بالحب والتفانى والاحترام، ربما لم تدرك أنها النظرة الأخيرة، وأنها قبل ظهيرة ذلك اليوم الدامى ستصعد بروحها إلى رب السماء.

كانت نجوى تشبه كثيرا من السيدات المصريات، ذوات الوجوه الطيبة والأمومة التى تخبرك بها الوجوه قبل أن تعشش فى القلوب، لن تميزها عن أى امرأة عادية سوى بزيها الرسمى، وبالنسر الذى تجاوره ثلاث نجوم ذهبية فوق الكتفين القويتين اللتين طالما احتملتا ضربات السنين.

كان صباحا عاديا، لا ينبئ بأى اختلاف، سوى أنه أحد السعف المعروف بـ”الشعانين”، الذى يحتفل به المسيحيون ضمن أسبوع الآلام.. ذهبت نجوى إلى عملها، حيث تؤمن بوابات النساء فى الكنيسة المرقسية بمحافظة الإسكندرية.

كانت نجوى تتابع بعينيها اليقظتين من يريد دخول الكنيسة، أعطت توجيهاتها لأحد أفراد القوة بالكشف عن حقيبة إحدى السيدات، وفى اللحظات التالية تطاير جسدها وأغمضت عينيها الطيبتين إلى الأبد، لتصبح أول شهيدة من الشرطة النسائية فى مصر.

ولدت العميدة نجوى الحجار عام ١٩٦٣، والتحقت بكلية الشرطة وتخرجت عام ١٩٨٧، لتعمل فى العديد من المواقع الشرطية، حتى عملت أخيرا فى تصاريح العمل بالإسكندرية. وهى قرينة اللواء عزت عبد القادر، ووالدة الضابط محمود عزت معاون مباحث مينا البصل فى الإسكندرية، ووالدة الشهيد طالب الشرطة مهاب عزت الذى استشهد فى شمال سيناء، منذ سنوات.

مبكرا جدا، قبل أن يؤذن الله بفجر يوم جديد، وقبل أن تنجلى ساعات الليل، كانت الساعة لم تدق الثالثة صباحا بعد، لكن أسماء نهضت بهمتها المعهودة، غسلت وجهها المضىء كنسمة الفجر، وارتدت زيها “الميرى”، ألقت نظرة على طفلتيها الصغيرتين اللتين كانتا تغطان فى نوم هانئ وتبتسمان مع الملائكة، ثم التفتت إلى رفيق عمرها “نبيل” لتكحل عينيها بنظرة أخيرة وتوصيه على طفلتيها.

اضطرب قلب نبيل للحظات، كان يدرك أنها “ابنة موت”، وأن عمرها لن يطول ليقضيا حياتهما معا، كان يخشى بقلب الزوج والحبيب أن تكون هذه هى المرة الأخيرة، خاصة بعد تصرفاتها الأخيرة التى أشعرته أنها على وشك الرحيل.

كانت الساعة الثالثة والنصف فجرا، انطلقت أسماء برشاقتها وحسنها وبشاشتها، إلى قدرها الذى تمنته، وهو أن تنال الشهادة. فى الطريق حتما كان يشغلها زوجها وطفلتاها، رسمت أحلامها وطيرتها إلى السماء عسى أن تستجيب لها الأيام. ثم فكرت مثل معظم النساء، ماذا ستصنع لهم اليوم بيديها؟ وأخيرا حلمت بحضن عائلتها الدافئ عندما تعود فى المساء ليزول شقاء النهار.

ابتسامة حلوة ووجه بشوش، هو ما كانت تقابل به أسماء قدرها، وتلقى الصباحات السعيدة على زملائها، وكانت الزميلات دائما ما يسألنها، كيف تحقق معادلة التوفيق فى بيتها مع زوجها وأطفالها والنجاح فى عملها؟ كان الإخلاص هو زادها، وكانت الإجابات واحدة لا تتغير، أنها تراعى الله فى جميع من حولها، فيوفقها ويكتب لها النجاح فى شئونها.

وصلت أسماء إلى الإسكندرية، وعلى بعد خطوات من العميدة نجوى النجار، كانت تقف العريف “أسماء أحمد إبراهيم الخرادلى”، أمام الباب الرئيسى للكنيسة المرقسية، عند بوابات تفتيش النساء قبل دخولهن إلى الكنيسة. وفى لحظة واحدة غادرة، تحولت أسماء الحلوة الجميلة إلى مجرد أشلاء، لم يستطع أحد أن يميز ملامحها أو يتعرف عليها، حتى استطاع زوجها فى النهاية أن يتعرف عليها من ملابسها.

ولدت أسماء فى قرية أبو منجوج التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، أكملت تعليمها حتى حصلت على بكالوريوس خدمة اجتماعية، ثم قررت الالتحاق بمعهد مندوبى الشرطة، وبعد تخرجها تزوجت عام ٢٠١٢ من زميلها نبيل عياط أحد أبناء قريتها، لتنجب منه طفلتيها “رودينة” ٤ سنوات و”ساندى” ١٨ شهرا.

عندما وقع الانفجار يوم الأحد الدامى، سارعت إحدى صديقات أسماء بالاتصال بها، فلم يجب هاتفها، وقبل الظهيرة بساعة واحدة، حدثت زوجها لتخبره أن هاتفها لا يرد، وأن تفجيرا وقع فى الكنيسة المكلفة بتأمينها، طار نبيل إلى مكان الحادث، وهناك عثر على شنطة زوجته فقط، وعلى ساقين خارت قواهما من الخوف على زوجته، وصل إلى مشرحة مستشفى كوم الدكة، ليجد زوجته مجرد أشلاء لم يتعرف عليها سوى من ملابسها.

فى التاسعة صباحا، اتصلت أسماء بوالدها، ظلت تمازحه وكأنما قلبها يحدثها أنه الاتصال الأخير، وعندما عاد والدها من عمله فى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، علم بالخبر فأسرع إلى الإسكندرية للبحث عن ابنته بين المصابين، وعندما حل المساء وجدها وسط الجثث المجهولة.

“أسماء كانت ملاك يمشى على الأرض”.. هكذا تصفها حماتها التى كانت تحبها تماما كابنتها. أما والدتها التى قضت معها أسبوعها الأخير لترعى بناتها الصغيرات، فطلبت منها فى محادثتها الأخيرة أن تنتبه لنفسها، وكأن قلبها كان يحدثها بما سيجرى لابنتها، فأخذت توصيها “لو حصل تفجير ولا أى حاجة اجرى يا حبيبتى ربنا يخليكى”، لكن أسماء لم يشغلها التفجيرات، لتخبرها بكلماتها الأخيرة “أنا نفسى أموت شهيدة عشان أدخلك الجنة أنت وبابا”.

العريف أمينة.. زفاف إلى السماء

اعتادت العريف أمينة محمد رشدى أن تخرج من منزلها فى منطقة العطارين، بعد صلاة الفجر، لتذهب إلى مكان عملها حيث حراسة وتأمين الكنائس. تنعش قلبها نسائم الفجر فتستقبل يومها بالتفاؤل.

كانت أمينة تعد الأيام المتبقية على زفافها، ثلاثون يوما لا أكثر تفصلها عن حلمها أن تجتمع برفيق العمر لتبدأ حياة جديدة تملؤها الأحلام، لكن الثلاثين يوما كانت بعيدة بعد السماوات والأرض.

فى آخر رسائلها إلى صديقاتها طلبت منهن أن يتجمعن ليثرثرن ويروين حكاياتهن ويرتبن معها زفافها، ويخبرنها عن رأيهن فى الفستان الذى تنوى ارتداءه.. “يا بنات، عايزة أشوفكم كلكم هنا فى الإسكندرية، عايزين نتقابل قبل فرحى الشهر اللى جاى”.. لكن البنات لم يجتمعن إلا حول كفنها الأبيض.

تقول إحدى صديقاتها: “عاشت ملاك وماتت ملاك، وكل من تعامل معها أحبها، وكان نفسها تجمع كل صحابها قبل فرحها، ودايما كانت تكلمنا وتطلب نتجمع، وللأسف ما اتجمعناش إلا فى جنازتها”. فى نفس المكان واليوم الذى رحلت فيها الشهيدتان نجوى الحجار، وأسماء الخرادلى، كانت أمينة ثالثتهما، ليتحول جسدها الفتى إلى أشلاء متناثرة أمام الكنيسة، حتى إن والدتها لم تستطع أن تتعرف عليها سوى من خلال قدميها.