رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الكنيسة المرقسية بالإسكندرية فى يوم الأحد الدامى

12-4-2017 | 13:07


بقلم –  د. مينا بديع عبدالملك

عاش المصريون لحظات حزن وأسى على شهداء الكنيسة والوطن فى يوم العيد!! كيف تجرأ هؤلاء السفلة على تلك الأعمال الإجرامية بتوجيهات من قادة الفكر الشرير والمظلم. ماذا استفادوا؟ سوى تصدير الحزن والبكاء والأسف!! كم طفلا تيتم؟ وكم أسرة التحفت بالسواد؟ وتحول العيد العظيم إلى بركة من الدماء.

 

 

الكنيسة المرقسية بالإسكندرية لها مكانتها التاريخية بين كنائس العالم، وتاريخها يحمل الكثير من جهاد الأقباط وبالأكثر جهاد وتعب مؤسس الكنيسة القديس مرقس الرسول (١٥ – ٦٨ م) كاروز الديار المصرية ومؤسس كنيسة الإسكندرية. فقد وُلد يهوديًا فى أورشليم عام ١٥ ميلادية وسُمى “يوحنا”، وكعادة اليهود فى ذلك الوقت، اختير له بعد ذلك اسم لاتينى، أكثر اليونانيون من استعماله وهو “مرقس”. ولذلك يُسمى فى كتاب إنجيل العهد الجديد تارة يوحنا، وتارة مرقس، وأحيانًا يوحنا المُلقب بمرقس. كانت والدته “مريم” إحدى اللواتى تقدمن الصفوف فى فجر المسيحية فى أورشليم، وتحمل فى شخصها مثلًا عاليًا، عن نشاط المسيحيات فى ذاك الوقت، إذ لم تتردد فى جعل منزلها مركزًا مهمًا للنشاط المسيحى فى أورشليم. وكان منزلها هو المنزل الذى أقام فيه السيد المسيح “العشاء الأخير” أو “العشاء السرى” كما ورد فى التقليد الكنسى. هذا المنزل تقوم مكانه حاليًا كنيسة السريان الأرثوذكس فى القدس.

يذكر ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين فى القرن العاشر والمؤرخ المشهور، فى كتابه عن تاريخ باباوات الإسكندرية المعروف بسير البيعة المقدسة: (أن القديس مرقس، بعد أن بشر أهل الإسكندرية بالإنجيل، ذهب إلى المدن الخمس الغربية وعند رجوعه، بعد غياب دام حوالى سنتين، سره أن يرى القطيع الصغير الذى كونه بالإسكندرية، وقد نما وكبر وبنى لنفسه كنيسة فى ضاحية من المدينة تُدعى “بوكاليا”، قريبًا من البحر، وبجوار صخرة يقطعون منها الأحجار). ويذكر المؤرخ الكنسى والطبيب السكندرى د. منير شكرى (١٩٠٨ – ١٩٩٠)، أن تاريخ الكنيسة المرقسية بالإسكندرية يعود إلى نحو عام ٦٢م.

وهذا الاسم “بوكاليا” الذى يعنى “مرعى البقر” هو اسم قديم معروف فى تلك الأنحاء. ففى عهد الفراعنة كانت قرية “راكوتى”، قبل أن تشتهر باسم الإسكندرية، محاطة بأراض يقيم بها رعاة البقر، وكان عليهم أن يحرسوا أيضًا شواطئ الإسكندرية، ليبعدوا عنها الأجانب الذين يحاولون النزول اليها. وقد أقام المسيحيون الأوائل كنيستهم المتواضعة فى إحدى تلك المراعى القديمة التى تحولت إلى ضاحية للمدينة، ومازال اسم “راكوتى” مخلدًا إلى الآن، فقد أبت وطنية باباوات الإسكندرية عليهم أن يغيروا الاسم المصرى الصميم وأن يضعوا بدله فى أختامهم الرسمية اسم الفاتح الأجنبى، ومازال ختم البطريركية بالإسكندرية إلى يومنا هذا يحمل اسم “راكوتى” باللغة القبطية بعد أن أنشأ الإسكندر الإسكندرية منذ نحو ٢٣ قرنًا.

وكان الوثنيون ينظرون بحقد وغضب إلى انتشار الدين الجديد، بينما كانوا يحتفلون بعيد إلههم “سيرابيس”، وكان موافقًا ليوم ٢٩ برمودة (٧ مايو)، وفيه كان المسيحيون يحتفلون بعشية عيد الفصح، قبضوا على القديس مرقس وربطوه بالحبال وجروه على الأرض، بينما يتهكمون عليه بالنسبة إلى المكان الذى تواجدوا فيه، فكانوا يصيحون “لنجر الثور على أرض المراعى”، وعندما أقبل الليل أودعوه السجن. واستأنفوا وحشيتهم فى اليوم التالى. وعندما استشهد القديس مرقس فى ٣٠ برموده (٨ مايو) ألقوا بجثته لتُحرق فى مكان قريب من الشاطئ يُدعى “إنجيليون”، ولكن المسيحيين استطاعوا سحبها قبل أن تُحرق وذهبوا بها إلى الكنيسة التى كان يقيم فيها القداس الإلهى، حيث حفروا قبرًا ودفنوه جهة الشرق. وهكذا تم تكريس أول كنيسة فى مصر بدم مؤسسها وأول شهيد فيها.

كما ورد فى تاريخ البابا بطرس البابا ١٧ والمُلقب بـ “خاتم الشهداء” (٣٠٢ – ٣١١م)، إنها كانت مكانًا بسيطًا للصلاة، فى جهة بوكاليا، وبجوار البحر على الميناء الشرقى الكبير. وفى هذا المكان اقتيد البابا بطرس ليصلى صلاة أخيرة فوق قبر القديس مرقس، قبل أن يذهب ويستشهد فى الوادى القريب من المدافن فى شرق المدينة.

وفى العام التالى ٣١٢م فى خلافة البابا “أرشيلاوس” البابا ١٨، وسع هذا المكان بحيث صار كنيسة كبيرة سُميت كنيسة “بوكاليا”، ورُسم عليها كاهن يُدعى “أريوس” صاحب البدعة الشهيرة التى دحضها البابا أثناسيوس الرسولى (٣٢٨ – ٣٧٣م) ومجمع نيقية المسكونى كله، وهذه الكنيسة فضلًا عن كونها أقدم كنائس الإسكندرية وتضم بين جنباتها قبر القديس مرقس، فقد كانت أيضًا ذات أهمية لقربها من الميناء الكبير وفى وسط الحركة التجارية للمدينة.

وفى عام ٦٤١م أحرقت هذه الكنيسة، وانتهز بعض النهابين هذه الفرصة ورفعوا غطاء القبر، وأقدم أحد بحارة السفن الراسية فى الميناء على سرقة رأس القديس مرقس وخبأها فى سفينته، وعندما أراد الإقلاع بها، ظلت السفينة فى مكانها رغم كل ما بُذل من جهود لتسييرها، ولم يجد ربان السفينة بدًا من الاعتراف بالسرقة التى أقدم عليها، فذهب البابا بنيامين (٦٢٣ – ٦٦٢م) البطريرك ٣٨ ليتسلم منه بكل حفاوة هذا الأثر المقدس، وأرسل إليه الدوق “سانوتيوس” بهذه المناسبة هبة قيمة من المال، ليعيد بها بناء الكنيسة، ويُكمل ساويرس بن المقفع المؤرخ فيقول: (رجع البطريرك إلى المدينة، وصنع صندوقًا من الخشب وعليه قفل، ووضع فيه رأس القديس، وانتظر إلى أن تتهيأ الظروف لبناء الكنيسة)، إلا أن الظروف لم تتهيأ سوى فى عهد البابا يوحنا الثالث المُلقب بالسمنودى (٦٨٠ – ٦٨٩م) البابا ٤٠، فأتم بناءها عام ٦٨٣ وتنيح أثناء الصلاة فيها، وبنى أيضًا بجوارها دير يقيم فيه الرهبان لحراسة الآثار المقدسة فيها.

ويُقال إنه فى بداية عام ٨٣١م استعمل تاجران من البندقية المكر والخداع لسرقة جسد القديس مرقس ونقله إلى بلدهما فينيسيا (البندقية). وفى عام ١٢١٩ دُمرت الكنيسة مرة أخرى عن آخرها. ويذكر سفير البندقية أن الكنيسة كان قد تم إعادة بنائها عام ١٥١٢م، وفى عام ١٥٢٧م يذكر أحد زوارها يُدعى “بيير دو مانس” أن الرهبان كانوا يقيمون فى دار للبطريركية بجوار الكنيسة.

وفى عام ١٧٩٨م، أثناء الحملة الفرنسية، دُمرت الكنيسة مرة أخرى، وأعيد بناؤها فى حجم أصغر. وفى عام ١٨٧٠ جُددت مرة أخرى، وفى عام ١٩٥٢م فى حبرية البابا يوساب الثانى (١٩٤٦ – ١٩٥٦) البابا ١١٥، أعيد بناؤها – بعد أن كانت آيلة للسقوط - وقد زُينت بنقوش من الفن القبطى وصُنعت تيجان أعمدتها على غرار تيجان لبعض الأعمدة التى يحتفظ بها المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية مأخوذة من كنيسة القديس مرقس القديمة. فجاءت الكنيسة بحجم أكبر وفى ثوب قشيب.

وفى عام ١٩٦٨ فى احتفال الكنيسة القبطية بعودة بعض من رفات القديس مرقس الموجودة بفينيسيا فى حبرية البابا كيرلس السادس (١٩٥٩ – ١٩٧١) البطريرك ١١٦ وفى احتفال الكنيسة القبطية بتذكار ١٦ قرنًا على استشهاد القديس مرقس، طلب من الأستاذ بديع عبد الملك (١٩٠٨ – ١٩٧٩) المتخصص فى رسم الخط الفرعونى بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية بإعداد لوحة رخامية ضخمة تضم أسماء خمسين بطريركًا، مما تضمهم الكنيسة المرقسية وذلك باللغات القبطية والعربية والإنجليزية، وقد تم وضعها فى الجهة القبلية الغربية من الكنيسة بجوار الباب الذى يؤدى إلى مزار القديس مرقس حيث توجد رأسه المقدسة طبقًا لتقليد الكنيسة القبطية.

ومنذ أيام محمد على تدفع بلدية الإسكندرية (محافظة الإسكندرية) مبلغًا اسميًا سنويًا لأجل قنديل خاص كان يوضع فى الكنيسة التى كانت فى ذاك الوقت بجوار الشاطئ فيضئ للسفن.

ثم فى عام ١٩٩٠ قام البابا شنوده الثالث (١٩٧١ – ٢٠١٢) بتوسيع الكنيسة من الجهة الغربية بعد أن ضاقت بالمصلين.

ومهما يكن من أمر فليس موقع الكنيسة ورفات القديس هما كل ما فى الأمر. أن للتاريخ أيضًا ناحية روحية خالصة، فلنذكر فى يوم ذكرى العثور على رأس القديس مرقس الموافق ٩ نوفمبر، كيف تم استشهاده، وكيف صعدت روحه الطاهرة ليكون فى استقبال أولاده الذين سلكوا الطريق المُخضب بالدماء، الطريق الذى تبعته فيه صفوف متراصة متلاحقة، للأبطال الشجعان من أبناء الكنيسة القبطية الذين استمسكوا بعقيدتهم وشريعتهم ومُثلهم العليا حتى الموت.

هذا هو سجل الشرف الخالد. وهذا القديس مرقس أول من كتب اسمه – على أرض مصر – بدمه.