لبنان والاحتجاجات الشعبية.. الاقتصاد سبب الأزمة وضحيتها..والخروج من المأزق الاقتصادي والسياسي الراهن يتطلب أن يقنع لبنان شركاءه الاقتصاديين بتقديم مساعدات عاجلة منخفضة التكلفة من أجل مساندة اقتصاده
إذا كان الاقتصاد وتردي الأحوال المعيشية هو الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي يشهدها لبنان منذ نحو خمسة أسابيع، فإن الاقتصاد هو الذي يدفع حاليا الفاتورة الأكبر لتلك الاحتجاجات التي أصابت البلاد بحالة من الشلل السياسي والاقتصادي؛ فقد أدت المظاهرات التي عمت مختلف البلاد إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين اللبنانيين، الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بتحسين هذه الأوضاع ووضع حد لانتشار الفساد في مؤسسات الدولة.
وقد ساهمت حالة الانسداد السياسي الحالية، وفشل الفرقاء اللبنانيون في التوصل لحل يرضي الجماهير الغاضبة ويقنعها بمغادرة الشوارع في حدوث مزيد من التراجع في مؤشرات أداء الاقتصاد اللبناني الهش، والذي كان يعاني بشدة قبل اندلاع هذه المظاهرات؛ وتمثل ذلك في تراجع لافت في سعر صرف الليرة اللبنانية، وارتفاع كبير في معدلات التضخم وانفلات في الأسعار.
ولم تفلح الإجراءات الاقتصادية الطارئة، التي اتخذتها الحكومة والمصرف المركزي اللبناني، في احتواء التداعيات الاقتصادية للأزمة الحالية في البلاد، والتي توصف بأنها أسوأ أزمة مالية تشهدها البلاد منذ الحرب الأهلية اللبنانية.
وبينما قدّر وزير الاقتصاد اللبناني السابق رائد خوري كلفة المظاهرات الحالية وما ترتب عليها من تعطيل لبعض مرافق البلاد بنحو مليار دولار أسبوعيا، أدى نقص العملة الصعبة إلى ظهور سوق سوداء في لبنان؛ فقد ارتفع سعر الدولار منذ بداية الاضطرابات إلى ما يزيد على 2000 ليرة، وهو أعلى بمقدار الثلث عن السعر الرسمي لليرة أمام الدولار وهو 1507.5.. ودفع النقص الحاد في العملة الصعبة والمخاوف من هروب رؤوس الأموال، البنوك التجارية لفرض قيود صارمة على عمليات السحب والتحويلات إلى الخارج.
وعلى صعيد متصل، عمّقت القيود المشددة التي تفرضها البنوك اللبنانية حاليا على معدلات سحب المودعين من حالة القلق لدى هؤلاء المودعين الذين باتوا يخشون على مدخراتهم، رغم تأكيدات الحكومة اللبنانية أنها آمنة.. كما تسببت الاحتجاجات الشعبية في حالة من الكساد الاقتصادي أجبرت العديد من الشركات على تسريح جزء من العمالة بها أو خفض الأجور وتشغيل العمال بدوام جزئي.
جاء ذلك وسط مخاوف من انضمام عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الخاص ومن المجالات الإنتاجية إلى لوائح البطالة التامة أو الجزئية في ظل حالة الركود التي يشهدها الاقتصاد اللبناني حاليا.
ويعاني لبنان حاليا من تراجع كبير في الاحتياطي النقدي الأجنبي، حيث بلغ 19 مليار دولار في العام الحالي مقابل 25.5 مليار دولار عام 2018؛ ويرجع الخبراء ذلك إلى تراجع ودائع الأفراد نتيجة عدم الثقة في الاقتصاد المحلي، إلى جانب تراجع الاستثمارات الخليجية.
ويأتي ذلك في وقت بلغ فيه الدين العام اللبناني 86 مليار دولار، أي ما يعادل 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو ثالث أكبر نسبة دين للناتج المحلي في العالم.. ويتعين على الحكومة اللبنانية سداد أقساط هذا الدين وفوائده بواقع مليار ونصف المليار دولار الشهر المقبل، وأربعة مليارات دولار العام القادم.
ووفقا لإحصائيات البنك الدولي، فقد تراجع النمو الاقتصادي في لبنان خلال العامين الأخيرين، حيث لم تتجاوز نسبة النمو خلال العام الماضي 0.2 في المائة، في مقابل 0.6 في المئة عام 2017.. كما انخفض معدل النمو في قطاع السياحة، الذي يعد أحد أكبر مصادر الدخل والعملة الصعبة في لبنان، إلى حوالي النصف في عام 2018.
وكان لبنان قد حصل على وعد بحزمة مساعدات قدرها 11 مليار دولار من المؤتمر الاقتصادي للتنمية، الذي عقد في باريس هذا العام، ولكن شريطة الالتزام ببعض الإصلاحات الاقتصادية وترشيد الإنفاق المحلي واتخاذ بعض الإجراءات التقشفية، وعلى رأسها زيادة الضرائب، وهي الإجراءات التي زادت من حالة السخط في الشارع اللبناني وساهمت في اندلاع المظاهرات.
ويرى محللون اقتصاديون أن الخروج من المأزق الاقتصادي والسياسي الراهن، يتطلب أن يقنع لبنان شركاءه الاقتصاديين بتقديم مساعدات عاجلة منخفضة التكلفة لها من أجل مساندة اقتصاده ودعم موقفه المالي وتنفيذ المشروعات بالقطاعات الحيوية، مثل الكهرباء وتوفير السلع الأساسية من الوقود والقمح، بما يساعد في نهاية المطاف في التخفيف من حدة الاحتقان الشعبي.. لكن الإشكالية هنا أن تحقيق ذلك يتطلب أولا تشكيل حكومة جديدة تعيد الاستقرار إلى البلاد وتعيد الثقة إلى الأوساط المالية والمانحين الدوليين في مستقبل الاقتصاد اللبناني، وهو أمر لا يبدو قريبا حتى الآن.
وفي مواجهة حالة الانسداد السياسي والاقتصادي الحالية، والتي تهدد بمزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، دعت الهيئات الاقتصادية اللبنانية، التي تمثل أغلب القطاع الخاص، إلى إضراب عام لمدة ثلاثة أيام اعتبارا من يوم غد الخميس بهدف الضغط على القادة السياسيين اللبنانيين لإنهاء خلافاتهم وتشكيل حكومة جديدة، ووضع حد للأزمة السياسية التي دفعت اقتصاد البلاد إلى طريق مسدود.
واتهمت هذه الهيئات، في بيان مشترك، القوى السياسية اللبنانية بعدم تحمل مسؤولياتها الوطنية وعدم "إظهارها الجدية اللازمة لإنتاج حلول للأزمة الراهنة".. وقالت "إن تحركها التصعيدي لن يهدأ حتى تشكيل الحكومة المطلوبة"، على أن يتم الإعلان عن الخطوات التالية.
إلا أنه من غير المعروف إذا ما كانت هذه الدعوة للإضراب العام ستلقى استجابة من جانب البنوك اللبنانية، والتي كانت قد استأنفت نشاطها الأسبوع الماضي بعد أن غلقت أبوابها بشكل شبه كامل منذ بدء الاحتجاجات في 17 أكتوبر الماضي.
وكانت الاحتجاجات الغاضبة وغير المسبوقة في لبنان قد أجبرت رئيس الوزراء سعد الحريري على تقديم استقالته في 29 أكتوبر الماضي، ورغم مضي نحو شهر على هذه الاستقالة والأوضاع المتأزمة فقد فشل الساسة اللبنانيون في الاتفاق على شكل الحكومة الجديدة والشخصية التي يمكن أن ترأسها، خصوصا في ظل إصرار الحريري على رفض تولي رئاسة هذه الحكومة حاليا.