الخبير الإعلامي أحمد كمال أبوبكر يكتب.. مع العد التنازلي تمهيدا للطبعة التاريخية الفضية من معرض مسقط الدولي: أين تختفي ملايين الكتب في سلطنة عُمان
بدأ العد التنازلي في سلطنة عُمان لإصدار طبعة تاريخية فضية من معرض مسقط الدولي للكتاب، ففي شهر فبراير الحالي تنطلق دورته رقم 25 ليحتفل بمرور ربع قرن منذ تأسيسه، وخلالها سيحتفي كعادته بالفكر والابداع الذي يمثل مصر.
علي الصعيد الوطني العماني للمعرض أهمية بالغة بوصفه أول فعالية ثقافية دولية ذات زخم كبير تشهدها السلطنة بعد تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور سلطان عُمان مقاليد الحكم.
ويتوق المثقفون للمشاركة في المعرض ويترقبون افتتاحه بشغف ،وينتظرون منه الكثير،لاسيما وأن المشاهد الختامية لفعاليات العام الماضي كانت بمثابة براعة استهلال مهدت منذ شهور بعيدة لما سيحدث في دورة 2020 .
فلقد عبرت تلك المشاهد عن استعدادات مكثفة بدأت منذ مطلع العام المنصرم، خاصة علي ضوء ما اكد عليه الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام رئيس لجنة معرض مسقط الدولي للكتاب.
ووفقا لاسلوب الفلاش باك كانت كلمتة مسك الختام في الحفل الختامي لدورة 2019 ،فقد تضمنت مفاجأة محورها ان اللجنة الرئيسية للمعرض عقدت بالفعل اجتماعها الأول،منذ مطلع السنة الماضية ، للتحضير للنسخة التي يحتفي فيها باليوبيل الفضي لانطلاق دوراته،والتي تبدأ بعد أيام.
تدل كلماته علي الاهتمام الدائم بالتفعيل المستمر لنهج الرؤية المستقبلية،والتخطيط بعيد المدي.
وكانت اللجنة قد بدأت ، منذ خمس سنوات ،تنفيذ خطة استراتيجية انتهت بالفعل،ليشهد المعرض في الدورة الجديدة مرحلة تالية متقدمة من برامج تطويره وفق الاستراتيجية الموضوعة.
وفي عبارات جاءت في الصميم أوجز وزير الإعلام في كلمات معدودات مدي عمق فلسفة الفكر والتخطيط العلمي المنهجي الذي تم ترجمته الي واقع فعلي ما بين أروقة وأجنحة المعرض، فقال : كان الرهان علي تحويله إلى حالة ثقافية واقتصادية وأسرية متكاملة.
وعلى الجمهور أن يحكم إلى أي مدى نجح الرهان الذي تم طرحه قبل خمس سنوات.
ولقد بادر وزير الإعلام بتوجيه ذلك التساؤل في شفافية ،تجسيدا لأقصي مفاهيم الصدق مع الذات و تعبيرا عن وعي المثقفين وحرصهم علي بلوغ ارقي درجات الكمال والاتقان وعمق المشاعر الوطنية.
إن مجرد دعوته للجمهور للإجابة هي رمز للديمقراطية الثقافية ،ومبادرة لإثراء الحوار المجتمعي لكي يكون ابناء المجتمع الطرف الأصيل في شراكة حقيقية ، ولا يكتفون بدور المتلقي او المتفرج الصامت .
لم يكتف بذلك انما أصدر قرارا اخر تأكيدا علي جدية الحرص علي التواصل مع الرأي العام وتيسير اليات عرض وجهات النظر المختلفة، فتنفيذا لتوجيهاته ظلت صفحة موقع معرض مسقط الدولي للكتاب علي الانترنت مفتوحة ولمدة شهرين لاستقبال كافة الاقتراحات والملاحظات والمقترحات تمهيدا للعمل على أخذها بعين الاعتبار.
لم ينتظر المجتمع العماني طويلا ليعرف نتائج حصاد الجهود الطموحة التي تم بذلها للارتقاء بالمعرض خلال خمس سنوات ، وسرعان ما تبين أنه ما ايسر الإجابة على ذلك التساؤل ،من خلال استقراء مضمون جوهر دلالات عدة مؤشرات.
فالأمر الذي شك فيه ان المعرض حقق استحقاقات ونجاحات ساطعة كشمس الصيف.
وعلى سبيل المثال لا الحصر تحول الي مهرجان ثقافي حاشد يقدم فعاليات إبداعية راقية تتحاور خلالها الفنون والثقافات بمختلف اللغات، ما بين قاعات تحمل اسماء الاباء المؤسسين للوعي والفكر ، كالفراهيدي ، حيث تقام العديد من الاحتفاليات وجلسات العمل والندوات والمحاضرات ،وهو لم يعد مجرد مساحة شاسعة تغص بمنصات الكتب ،إنما تحول الي منتدي حضاري يعكس الاهتمام العميق بتحقيق التوازن ما بين الحرص علي التمسك بالتراث الوطني وبين تجديده ، فضلا عن مواكبة الحداثة الثقافية ،والاستفادة بكافة منجزات العصر التكنولوجية ،من خلال مشاركة العالم الاستفادة من أحدث تقنيات المعلومات والاتصالات ،وتوظيفها لخدمة الإنسان العماني ولفتح نوافذ مشرعة امامه لينهل من ينابيع العطاء الثقافي عبر الكتب سواء المطبوعة أو الإليكترونية، مع الانفتاح علي ثقافات العالم ،وكذلك التواصل مع مبدعيها ورموزها.
مضمار مارثون ثقافي للرياضات الذهنية والعقلية
لقد أصبح رواده يلهثون علي مدار ساعات الليل والنهار خلال مارثون ثقافي يمارسون طوال مراحله أرقي الرياضات الذهنية والعقلية، ويخوضون سباقات من اجل متابعة فنون العلم و المعرفة و الابتكار والإبداع مابين قاعات حافلة بالمناقشات والمحاورات وعرض الكتب ، علي خلفية أعذب النغمات والألحان الموسيقية والاحتفاليات المسرحية والعروض الفنية وفعاليات أخرى متلاحقة.
- في اتجاه مواز طرحت الخطط الاستراتيجية لتطوير المعرض اليات مهمة لإزالة اي لبس او التباس يتعلق بإشكاليات احتمالات حدوث تناقض ما بين الأصالة والمعاصرة فمازجت الكثير من الفعاليات بين عراقة الماضي ،وبين الحداثة في صياغة عصرية هي من قبيل السهل الممتنع.
التوازن التام ما بين العالمية وبين التمسك بالهوية الوطنية
انطلاقا من مسقط قدمت خطط تطوير المعرض نموذجا خلاقا اخر للقدرة الفائقة علي تحقيق التوازن التام ما بين التطلع الي العالمية ،وبين الاعتزاز بالهوية الوطنية والذاتية الثقافية التي تتحلي بها الخصوصية العمانية علي مدار عقود.
فرزنامة أعمال المعرض وخطط عمله تؤكد من جديد أن التعمق الصادق والمخلص في الاستمساك بكل مترادفات الابداعات الوطنية العريقة، هو أيسر وأقصر السبل نحو العالمية، وكأنه المنصة الرئيسية في قاعدة الإنطلاق إليها،وكذلك الأجنحة القوية للتحليق في افاق سماواتها المفتوحة .
إحدي محافظات السلطنة ضيف الشرف في كل دورة لتعميق مفاهيم العدالة الثقافية والجغرافية
ما أكثر الفعاليات المهمة التي ترسخ العلاقة ما بين طرفي متلازمة العالمية والوطنية.
علي سبيل المثال طرح الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام رئيس لجنة معرض مسقط الدولي للكتاب مبادرة رائدة غير مسبوقة ولا نظير لها في المعارض الدولية المماثلة ،وهي تتمثل في اختيار ثقافات وفكر احدي محافظات السلطنة لكي تكون ضيف الشرف في كل دورة ، وكانت محافظة البريمي هي ضيفة العام الماضي.
وتلك سنة حميدة تكفل ايضا متابعة تجديد التراث واطلاع الأجيال الجديدة عليه ،وكذلك تقديمه للوفود العربية والأجنبية المشاركة في المعرض .
وهي آلية تعكس ايضا تعميق مفاهيم العدالة الثقافية والجغرافية ،ما بين كافة المحافظات والولايات حتي الحدودية منها عند اقصي نقطة علي خريطة السلطنة.
والأهم أن هذه الفكرة الخلاقة تدعم التواصل الثقافي المجتمعي ما بين الجموع من المفكرين والمبدعين من الأشقاء العمانيين في كافة أنحاء السلطنة .
أما على صعيد التفاعل العالمي ،ففي كل سنة يتزايد عدد الدول المشاركة في المعرض ،كما يرتفع عدد دور كبريات دور النشر التي تمثلها وبالتالي تتضاعف أرقام عناوين الكتب المطروحة.
وفي رجع صدي متجدد حقق مكانة مرموقة علي المستويات الخليجية والعربية والدولية نتيجة التقدير العميق لجودة وتنوع الفعاليات والخدمات الثقافية التي يقدمها لاسيما للأسرة.
ولقد تم تصنيفه واحدا من أفضل المعارض في منطقة الخليج، وجاء في المركز الثاني في الوطن العربي ضمن قائمة أبرز المعارض من حيث الإقبال الجماهيري.
-ما يزال هناك المزيد من المؤشرات التي تقدم إجابات علي ذلك التساؤل الذي طرحه بشفافية الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني، من بينها أن المعرض أصبح يصنف من جانب مختلف الهيئات العربية والدولية المعنية بأنه من بين أكثر المعارض العربية من حيث معدلات ونسب القوة الشرائية .
والدليل المادي أنه في لحظة افتتاحه تكون المنصات والرفوف والمخازن شاسعة المساحة الملحقة بها عامرة بالكتب التي تحمل أكثر من نصف مليون عنوان. وفي ختامه تصبح دائمًا خاوية مما يثبت دوما وعمليا أن القوة الشرائية في معرض مسقط ما زالت في قمة عنفوانها وان الاقبال علي الكتاب المطبوع مازال قائما رغم التأثير السحري في المجتمعات العربية لوسائط المعلومات المنتمية إلى آليات الاعلام والثقافة الجديدة عبر تكنولوجيا الإنترنت .
كذلك يتزايد دوما الإقبال علي زيارته خاصة وأن عدد الرواد تجاوز المليون ، ولا تعرف السلطنة ظاهرة الطوابير المنتظمة إلا أمام أجنحته ،وكذلك عند التصويت في الانتخابات.
ـوتتميز أيضا برامجه بالثراء الشديد والتنوع لمخاطبة مختلف الفئات والشرائح العمرية .
وفي العام الماضي شهد كثافة في الفعاليات الثقافية التي زادت عمليا على 200 فعالية أعدتها اللجنة المنظمة للمعرض والمبادرات الثقافية للمجتمع المدني وكذلك أجنحة العرض التي فتحت مقاهي ثقافية ضمن أجندتها.
ثقافة الطفل ملف استراتيجي
من المؤشرات عميقة الدلالة توجيه المعرض عناية بارزة للبرامج المخصصة للأطفال ،التي تخاطبهم باسلوب عصري يجتذبهم للاهتمام بالقراءة وبالاطلاع منذ سن مبكرة ،تعبيرا عن توجه استراتيجي في السلطنة.
تتضافر مع ذلك مشاهد انسانية بالغة التأثير لا تخطئ العين دلالالتها الرمزية فهي تخاطب القلوب والعقول معا وتعكس مشاعر الرحمة والأبوة بأجل معانيها.
هدفها أيضا المزيد من التشجيع للأطفال وحفز هممهم .
علي سبيل المثال في احدي الندوات المخصصة للحوار عنهم ومعهم ،تخلي الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام عن مقعده في الصف الأول لواحد منهم، وانتقل الي الصفوف الخلفية .
لم يكتف بذلك إنما دعا كبار الشخصيات المشاركة الي ان يحذو الجميع حذوه ،وبالفعل سرعان ما تصدر الأطفال القاعة.
ارتفاع سقف الحريات
تعكس أيضا سياسات إدارة المعرض ارتفاع سقف الحريات، واحترام التعددية الفكرية ،فلا يتم اتخاذ أي إجراءات لحظر أو مصادرة اي كتاب ،تأكيدا علي كفالة حرية الرأي .
المساجد تردد نداء الله الخالد اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق
في إطار تكامل أدوار مختلف مؤسسات المجتمع ،شهدت ذروة فترة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الرابعة والعشرين تأكيدا جديدا علي أنه نجح بالفعل في توفير مناخ حالة مجتمعية متكاملة.
فقد ترددت خلاله وفي توقيت واحد عبر منابر جميع الجوامع في سلطنة عمان رسالة إسلامية ثقافية حضارية تحمل دعوة عقلانية الي القراءة، استجابة وتلبية لداعي الحق سبحانه وتعالي : اقرأ باسم ربك الذي خلق.
صدرت الدعوة في توقيت يتسم بحسن الاختيار اذ واكبت فترة إقامة المعرض، ففي ذروتها كان عنوان خطبة الجمعة الموحدة :
بالقراءة نرقى.
دلالة ذلك ان السلطنة تشهد تجديدا مستمرا للخطاب الديني ، في ظل شراكة مجتمعية بين جميع المؤسسات ،كما تتفاعل الهيئات الدينية مع اهتمامات الحياة اليومية ولا تنعزل عن مستجداتها.
لذلك كانت الخطبة مزيجا بين الدين والعلم والايمان ، وجاء فيها: إن تشجيع الأبـناء على القراءة أمر مهم للغاية ولا ريب أن تربية جيل قارئ تبدأ بالقدوة.
نتيجة لكل ذلك تتحول قاعات المعرض سنويا الي ايقونة لحوار راق عماني - عماني ، من جهة ولحوار الحضارت العربية والعالمية من جانب اخر في ضيافة مسقط.
سلطنة عُمان ضيف الشرف في أهم وأضخم المعارض الدولية
في أهم عواصم العالم تتردد بصورة عملية واقعية أصداء نجاحات معرض مسقط كنتيجة حتمية للإخلاص الشديد والتفاني في الحرص علي الهوية الوطنية،فقد أصبحت سلطنة عُمان تتصدر قوائم ضيف الشرف في أهم وأضخم المعارض الدولية، وكان أحدثها معرض باريس للكتاب،حيث وجهت رسالة حضارية تحت شعار «السلام في الكتب المفتوحة» ،وفي قلب مدينة النور والثقافة ،ومنهاوعبرها خاطبت المجتمع العالمي باستخدام أرقي اللغات الإنسانية التي تستوعبها جيدا كافة الشعوب المتحضرة والمتقدمة .
فمفرداتها كتب ونغمات وأبجدياتها ألحان .
إنها لغات الموسيقى والفنون والأفكار والإبداعات التي تحاور العقول وتخاطب الوجدان .
وقد ترأس وفد السلطنة الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام، حيث انتقي بعناية مفردات معينة في كلمة تحمل موجز رسائل ثقافية وسياسية عديدة عميقة المعني والدلالات تخاطب ضمير الأوربيين وقلوبهم وعقولهم .
فقد ألقى كلمة حملت عنوان "تحية من مسقط إلى باريس"، واختتمها قائلا إن الثقافة هي ملاذ الإنسانية ومستقبلها و"خشبة خلاصها ".
إنها تعلمنا الإصغاء إلى الآخر ومد يد التآخي وتعزيز الحوار وتعظيم القيم الإنسانية المشتركة .
هكذا نرى ثقافة السلام التي تنأى بنفسها عن الصراعات والحروب والنزاعات وتبنى على ما هو مشترك، وهذه هي العلاقات العمانية ـ الفرنسية حاضرا ومستقبلا.
نقرأ في كتاب واحد، كتاب السلام والعدل والمحبة والصداقة.
مصداقا لكلماته صدحت فضاءات الآفاق في فرنسا بعزف نغمات عمانية وبعروض الأوركسترا السيمفونية معزوفة للسلام.
علي ضوء كل ذلك يتواصل توهج إشعاعات المد الحضاري العمانى .
إنه ينطلق دوما عابرا للقارات وجسرا ما بينها من مسقط الى خارج حدود السلطنة، ومركزه تحديدا هذه المرة أجنحة وقاعات معرضها في دورته الفضية ، لتفيض خلاله أمواج العطاء الثقافى المتجدد. ◼