بات العالم يعيش في أزمات أمنية متلاحقة وما يرتبط بها من قضية تسليح وصراعات لا تزال محكومة ببيئة أمنية دولية غير مستقرة، وسياسية وما يتعلق بها من شيوع حالة عدم الاستقرار التي يتولد عنها العنف والتخريب، واقتصادية وما تتضمنه من تعثر مسارات استدامة التنمية الشاملة، بل وصحية تتعلق بانتشار الأمراض المعدية والأوبئة المهلكة لاقتصادات العالم قبل إهلاك البشر، وأخيرًا أزمات بيئية تتعلق بمتغيرات المناخ وحدود الالتزام الدولي بالاتفاقيات المنظمة لها.
ولم يخل اجتماع دولي من مناقشة إحدى هذه الأزمات، فمن ميونيخ الألمانية حيث عُقد مؤخرًا مؤتمر "مؤتمر الأمن"، بمشاركة دولية واسعة، ومنظمات إقليمية ودولية، حيث عبرت الأمم المتحدة عن "قلقها" إزاء وقوع انتهاكات كثيرة لوقف إطلاق النار وحظر الأسلحة في ملف الأزمة الليبية.
وانتهى مؤتمر ميونيخ إلى الإعلان عن إطلاق لجنة متابعة دولية بشأن ليبيا، ولمتابعة هذا الملف الحيوي، بحث وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل أمس الاثنين تفاصيل الخطوات التي يمكن اتخاذها لمراقبة حظر السلاح في ليبيا، فيما يُفترض أن تستضيف جنيف بعد عشرة أيام جولة محادثات سياسية ليبية/ليبية، وخطة سلام للحل في ليبيا تقضي بتنفيذ 3 مسارات، أحدها عسكري يعمل على تثبيت الهدنة، والثاني اقتصادي يجتمع في تونس، والأخير سياسي وهو الذي ينطلق في 26 فبراير.
واتفق المجتمعون في ميونيخ على أن تعقد لجنة المتابعة الدولية للأزمة الليبية لقاءات دورية، وأن تتناقل الدول المشاركة بها رئاستها، وسترأسها إيطاليا بعد ألمانيا، على أن تستضيف روما الاجتماع المقبل، ثم الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي.
وفي سياق متواصل، حذر الوزير العُماني المسئول عن الشئون الخارجية يوسف بن علوي على هامش مؤتمر ميونيخ من أن خطر اندلاع مواجهة عسكرية في مضيق هرمز أكبر مقارنة بأي مكان آخر بمنطقة الخليج، لافتًا إلى العدد المتزايد من السفن الحربية الآتية من دول مختلفة التي تؤمنه، فقد دفع الخلاف بين إيران والغرب عدة دول لإرسال مجموعات عمل حربية للمضيق لحماية سفن الشحن الخاصة بها، على خلفية حوادث السفن التجارية الدولية في المنطقة.
وفي نفس الوقت ألقت الأزمات الأمنية التي يتعرض لها العالم بظلال كثيفة على ميزانيات الدول الاقتصادية وتحديدًا على موازناتها العسكرية المتعلقة بالتسلح والترتيبات العسكرية، وفي هذا السياق كشفت "المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية" في أحدث تقاريرها عن الإنفاق والموازنات العسكرية في 171 دولة، عن نمو مضطرد في الإنفاق الدولي على الدفاع في عام 2019 يقارب نحو 4% زيادة على الإنفاق في 2018، وهو الارتفاع السنوي الأكبر خلال السنوات العشر الماضية، حيث بلغ 1.73 تريليون دولار أمريكي، مقارنةً بـ1.67 تريليون في 2018.
ففي عام 2019، ارتفع الإنفاق الدفاعي في الصين والولايات المتحدة مجتمعتين بنسبة 6.6% مقارنة بما كان عليه في العام السابق، حيث زاد الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة وحدها بنحو 53.4 مليار دولار ليصل إلى نحو 738 مليار دولار، في تبلغ ميزانية المملكة المتحدة الدفاعية لعام 2019 (54.8 مليار دولار)، بينما بلغ الارتفاع في ميزانية الصين بنحو (10.6 مليار دولار) بفارق ضئيل عن ميزانية تايوان الدفاعية الكاملة لعام 2019 (10.9 مليار دولار).
وكشف التقرير عن عودة الإنفاق الدفاعي في أوروبا إلى المستويات التي كان عليها قبل الأزمة المالية (277 مليار دولار في عام 2008 - 289 مليار دولار في 2019)، مسجّلًا زيادة بنسبة 4.2% عن عام 2018، حيث تتركز زيادات الإنفاق في المشتريات والأبحاث والتطوير، كما سجلت الاستثمارات الدفاعية نموًا من 19.8% عام 2018 إلى 23.1% في 2019 في بعض الدول.
تحديات أمنية كبيرة
وكشف تقرير"المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية" أن ثمة تحديات يشهدها النظام الدولي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لعل أبرزها نهاية المعاهدة النووية للصواريخ المتوسطة المدى، والتي جاءت على خلفية الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وموسكو، إلى جانب إصرار إدارة ترامب (التي تراقب التطور العسكري الصيني عن كثب) على انتهاء صلاحية هذا الاتفاق الثنائي.
ومع ذلك وفي إطار التزاماتها بمعاهدة "ستارت" الجديدة، سمحت روسيا للمفتشين الأمريكيين بالكشف على "أفانجارد"، صاروخها الخارق للصوت في أواخر نوفمبر 2019.
وأشار التقرير إلى الحالة الأمنية غير المستقرة في الموانئ والمضايق البحرية، على خلفية التهديدات الإيرانية المستمرة بقدرتها على إغلاق مضيق هرمز ومناطق أخرى، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى محاولة بناء تحالف دولي تحت مسمّى التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية، ثم جاءت المبادرة الأوروبية لحماية أمن الملاحة البحرية لتؤكد أهمية هذا المجال.
ومع تعدد القدرات العسكرية في العالم بدءًا من سلاح الجيوش البرية والقدرات الجوية والبحرية والقدرات السيبرانية، باتت الدول التي تستخدم استراتيجيات مؤثّرة لا تصل إلى عتبة الحرب تمثّل تحديًا إضافيًا في هذا المجال.
ورغم تفوق أمريكا في مجال التسلح، وتصنيفًا للتحديات الأمنية حول العالم، قالت المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية إنه "في جو المنافسة المستمرة والمتطورة والمتسارعة، تملك الدول الغربية خيارات رد عديدة أبرزها دمج المزيد من التقنيات المتطورة أو إنفاق المزيد من الأموال على التسليح لضمان تفوقها أو المناورة بطريقة تعدد المستويات مع اعتماد استراتيجياتها الخاصة، هذه الخيارات لا ترتبط بالقوة العسكرية التقليدية فقط، بل بالقدرات السيبرانية وبيئة المعلومات المتنازع عليها باستمرار".
كما اعتبر تقرير"المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية"، أن قدرة الدولة -أي دولة- على قيادة صراع بواسطة أطراف ثالثة ومنحها تقدمًا استراتيجيًا على منافسيها الذين يعتمدون على قدرات تقليدية، يعد من أبرز أنواع التحديات الأمنية التي يتعرض لها العالم، وتكمن خطورة هذا التحدي أنه لا يمكن التعامل معه بالردود العسكرية التقليدية، وإنما من خلال ليس فقط تركيز الدول على تطوير القدرات العسكرية والاستخباراتية الصحيحة، بل أيضًا العمل على تعزيز جاهزية وقوة المعدات والقوات العسكرية، وحتى المجتمعات وصناعة القرار السياسي، والاستعداد للتعامل بكفاءة واقتدار مع التطورات في التقنيات العسكرية أو التقنيات المرتبطة بالمجال العسكري كذلك.
يبقى الحفاظ على أمن واستقرار كيان الدولة -أي دولة- المعضلة الأهم في حسابات المصالح الأمنية القومية العليا لدول العالم، بما يستلزمه ذلك من ترسيخ مبدأ الاقتصادات الدفاعية وارتفاع الموازنات العسكرية.