رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


العم «حنا» يتبرع لبناء المسجد

19-4-2017 | 14:52


بقلم –  محمود الحضرى

فى ستينيات القرن الماضي، أتذكر جيداً أن لجنة من أهالى قريتي، نظموا حملة لجمع التبرعات لإعادة بناء المسجد البحري، وقامت اللجنة بالمرور على البيوت فى شوارع القرية، ونحن الصغار نسير ونتابع عمل هؤلاء، ودعواتهم لجمع التبرعات، كل حسب مقدرته.

 

الأمر هنا شيء عادى وطبيعى ويحدث فى كل قرى مصر وأحياء مدنها، خصوصاً الشعبية منها، ولكن كانت المفاجأة، عندما كانت اللجنة تمر فى أحد شوارع قريتى ميت غراب بمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، التى تجمع بيوتا للمسلمين والمسيحيين، وهى أمام أحد المنازل، وقف صاحبه عمى «حنا»، وهو يستمع لدعوات أعضاء اللجنة للتبرع، مخاطباً اللجنة «هو إحنا مش من حقنا نتبرع لبناء المسجد»، وأخرج من جيبه «خمسة جنيهات» متبرعاً بها، وهذا المبلغ كان مبلغاً معتبراً وكبيراً فى هذا الوقت، وله قيمته المادية، وكان العم حنا قادرا على التبرع به.

تذكرت هذه الواقعة، ونحن نعزى أنفسنا فى ضحايا عمل إرهابى خسيس راح ضحيته أبرياء، لا لسبب إلا أنهم كانوا يصلون فى كنائسهم، ليقتحم عليهم صلواتهم واحتفالاتهم شخص حتماً أنه معتوه فكرياً ودينياً، ليفجر نفسه بينهم، وقد تجرد من كل معانى الإنسانية، ولا أقول «السمات الإسلامية» وسمات المؤمنين، لأن أى مؤمن أو مسلم حقيقى لن يفعل هذا على الإطلاق.

المؤكد أن ما حدث ويحدث وربما سيحدث، هى جرائم يرتكبها أشخاص مسروقة عقولهم، تحت دعوات الجنة والنعيم الوهمي، ودليل على انحراف دينى واسع بين مرتكبى هذه الجرائم وهو ذاته الانحراف الدينى لدى من يربونهم فكريا ودينياً وثقافياً، ليسرقوا منهم عقولهم، ويزرعوا فيها عقولا أخرى تحمل الأفكار المسمومة والفكر التكفيري، وإن كان يرون أنه دفاعاً عن الدين.

المؤكد أن هؤلاء لم يعرفوا عمى حنا، والذى هو موجود فى كل بقاع مصر، فنموذج عمى حنا تعيشه مصر منذ قرون طويلة، وهو عاش ويعيش بين أهل مصر، التى لم ترَ يوماً إرهاباً مثل الذى تعيشه هذه الأيام، والذى ابتليت به البشرية بسبب حالة واسعة من الانحراف الدينى استناداً إلى أفكار خارجة عن سياق الدين.

وأتذكر ذات مرة فى بداية ظهور الجماعة الإسلامية فى سبعينيات القرن الماضي، أن الانحراف الدينى وصل إلى أعلى مداه، لدرجة تحريم العمل الحكومي، وقتل الحيوانات الضالة، بل أعلى من ذلك قتل الحشرات، بينما يرون أن قتل الإنسان حلالٌ شرعاً تحت دعاوى حماية الدين ونشر الشريعة وانتشار الإسلام، وهذا قمة فى الانحراف الديني.

ومن أجمل ما سمعته هذه الأيام حول هذا الانحراف فى المفاهيم التى يحملها تكفيريو داعش ومن على شاكلتهم، ومن يدعمونهم ويؤيدونهم، “أنهم لم يقرأوا عن مقاصد الشريعة الإسلامية فى حماية النفس ونصوصها فى الحفاظ على حرمة النفس، والتحذير من مجرد الترويع ولو على سبيل المزاح».

وكأنى أستمع لأول مرة عما نقله عبد الله بن عمر رضى الله عنه، فى حديث شريف، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول “ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيرًا»، .. فهل قرأ هؤلاء القتلة هذه الكلمات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،؟!.

وفى صلاة الجمعة الماضى بأحد مساجد الإسكندرية، أدمعت عينى خطيب المسجد وهو يقول، هل هذا القاتل لنفوس المصريين، والمدعى أنه ينتمى إلى الإسلام ويدافع عنه، مرت عليه هذه الكلمات التى وردت عن ابن عمر رضى الله عنه «إن من ورطات الأمور التى لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله»، وزاد فقال إن هؤلاء الجهلاء، لم يعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض قتل مبعوثى «رسولي» مُسيلمة الكذاب، رغم اعترافهما بالإيمان بما يقوله مُسيلمة، انطلاقاً من أن الإسلام حرم قتل الرسل، أو بلغة العصر «المبعوثين الدبلوماسيين».

التاريخ سيكتب صفحة سوداء فى تاريخ الدواعش والتكفيريين وكل الجماعات التكفيرية التى أحلت وأيدت قتل الأبرياء، وفى كل من أفتى بجواز تفجير الانتحاريين أنفسهم ليقتل الآمنين، بينما سيبقى تاريخ عمى حنا وأمثاله صفحة بيضاء فى تاريخ العلاقة بين أهل مصر، فما فعله العم حنا، فعله كثيرون فى أنحاء مصر، وبلدان المسلمين فى كل مكان، فالنموذج متكرر فى كل بقاع الأرض.

وسمعت قصصا متكررة لقصة العم حنا، عن هذه العلاقة بين أهل دولنا ومدننا فى سوريا، والأردن ولبنان، والسودان، والعديد من دول بلدان العرب وفى بقاع عديدة، ولن أنسى على الإطلاق أن يوم أن تبرع عمى حنا لمسجد قريتى كان فاتحة لتبرعات أخرى من أهلها لكل أعمال الخير، بخلاف المساجد، وفشلت محاولات عديدة لشق الصف الذى عاشته قريتى وقرى ومدن مصر بمسلميها ومسيحييها، وباء ما سعى إليه دواعش كل عصر وكل الأزمنة بفك الارتباط بين من عاش على هذه الأرض.

ويبقى قديم وجديد الأزمة الراهنة وتداعياتها، هو الحذر الأكبر من تلك الحملة الإعلامية، التى تجرى ضد الأزهر وشيخه، والانحراف بالأزمة عن إطارها القانونى والإجرامي، للدخول فى حملة شبه شخصية، فيما أن قضية التعليم الدينى مثله مثل التعليم العام بحاجة إلى رؤية جديدة، وإعادة الأزهر إلى دوره، فالحرب ضد الأزهر وشيخه لن تحد من الإرهاب ولن توقفه، ... القضية أكبر بكثير من هذا الاختزال فى مجرد عدم رضا البعض عن الأزهر سياسيا، فيما أنه حتماً ليس مؤسسة سياسية، بينما دوره الحقيقى دينى وروحي.

وفى النهاية سنظل ندعو للعم حنا وأمثاله، مع التمنى بأن تعود أيامك أيها العم، وهذا التسامح الذى عشناه لسنوات مع عزيز وشكرى ووجيه وغطاس ومترى ومجدى وفايز وفريد، .. وغيرهم، يوم كنا نحتفل بسبت النور، لكونه عيداً للمصريين، كل المصريين، فهذا ما تربينا عليه، دون الحاجة لبيان من الأوقاف أو الأزهر، ولا من أى جهة ..، وكل عام وأنت سالمون.