أثارت حوادث مقتل جورج فلويد، وريشارد بروكس، الأمريكيين المنحدرين من أصول أفريقية، على يد شرطيين أمريكيين من البيض، والعثور على جثة شاب أسود معلقة إلى شجرة في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، إشكاليات ترتبط بقضية العنصرية في المجتمع الأمريكي، وتحمل أبعاداً سياسية واجتماعية واقتصادية، وحسب مقولة مارتن لوثر كينج، الأمريكي الأسود، "لا يمكن للكراهية أن تطرد الكراهية: الحب وحده يمكنه فعل ذلك.... الرد على العنف بالعنف يضاعفه".
وفي أعقابها انفجرت أعمال العنف في مدينة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا، وامتد منها ليشمل المدن الأمريكية الكبيرة الأخرى، ليشكل حلقة ربما لن تكون الأخيرة في لائحة طويلة وتاريخية من أعمال الشغب والعنصرية في الولايات المتحدة.
وفي الثالث عشر من يونيو الجاري خرجت مظاهرات في مدينة أتلانتا الأمريكية، احتجاجاً على مقتل شاب أسود آخر يدعي ريشارد بروكس، بنيران الشرطة عقب نومه في سيارته وهي في طابور أحد مطاعم الوجبات السريعة، واحتشد عشرات المحتجين في موقع إطلاق الرصاص جنوبي وسط المدينة، وعقبها أعلنت رئيسة بلدية مدينة أتلانتا، استقالة رئيسة شرطة المدينة بعد الحادث.
جاء مقتل بروكس بعد أسابيع من احتجاجات أمريكية مناهضة للعنصرية عقب موت جورج فلويد، ليثير العديد من الإشكاليات بشأن قضية العنصرية في المجتمع الأمريكي ومسئولية الجمهوريين والديمقراطيين عنها والسجل الأمريكي من هذه الحوادث وكيفية معالجة هذه الإشكاليات المتجذرة في المجتمع الأمريكي والآليات المناسبة في هذا الصدد.
مسئولية مشتركة
وفقاً لدراسات وتقارير، فإن هذه الحوادث ليست هي الأولي من نوعها، فقد شهدت أمريكا العديد من هذه الحوادث، حيث تعود جذور المواجهات شبه اليومية بين الشرطة والأقليات في أمريكا، وخصوصا السود منهم، إلى قرون عدة، الأمر الذي نتج عنه ظهور منظمات عنصرية من البيض والسود على حد سواء، ومن أشهر منظمات للبيض، منظمة الـ"كوكلوكس كلان" والـ"ك ك ك"، ومن أشهر منظمات الدفاع عن السود جاءت تحت شعار (حياة السود مهمة)، وحركات يسارية متشددة مثل "أنتيفا" و"أناركيون" (فوضويون).
تشير تقارير إلى عدد من هذه الحوادث التي تكشف قضية العنصرية في المجتمع الأمريكي منها: شهدت مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا عام 1965، أعمال العنف وبلغت حصيلتها 34 قتيلا، وتوقيف أربعة آلاف شخص، واندلعت في مدينة ديترويت بولاية ميشيجان عام 1967 أعمال عنف بين الشرطة وعدد من السود أدت إلى مقتل 43 شخصا وجرح نحو ألفين آخرين وامتدت أعمال العنف إلى ولايات أخرى بينها إيلينوي ونورث كارولاينا وتينيسي وماريلاند.
وفي الرابع من أبريل عام 1968، وعلى أثر اغتيال مارتن لوثر كينج - أشهر المناضلين الأمريكيين السود - في مدينة ممفيس بولاية تينيسي، انفجر العنف في 125 مدينة، ما أدى إلى سقوط 46 قتيلا على الأقل و2600 جريح، وفي عام 2014، أدى مقتل الشاب الأسود مايكل براون، برصاص أطلقه شرطي أبيض في مدينة فيرجوسن بولاية ميزوري، إلى أعمال عنف استمرت عشرة أيام، بين السود وقوات الأمن.
وفي أعوام 2015، و2016، و2017، شهدت على التوالي: مدينة بولتيمور كبرى مدن ولاية ماريلاند، ومدينة شارلوت، كبرى مدن ولاية نورث كارولاينا، ومدينة شارلوتسفيل، بولاية فيرجينيا، أعمال عنف ومواجهات بين الشرطة والسود.
وبالتالي فإن مسؤولية الرئيس ترامب ومناصريه من الجمهوريين والمتشددين والمحافظين ليست حصرية، لأن الاتهامات توجه أيضا لمعارضيه وخصوصاً للديمقراطيين، المتهمين بالوقوف موقف المتفرج على أعمال التخريب والعنف المدني والسرقة.
وثمة من يتهم الديمقراطيين، بأنهم إنما يريدون في النهاية إلحاق الهزيمة بترامب فقط، ولو احترقت المدن وتعطلت الأعمال، وأنهم يعملون على استغلال الأحداث الجارية، لمضاعفة الضرر الذي لحق بأمريكا والأمريكيين، جراء كارثة جائحة "كوفيد 19"، حتى إن مبادرات الديمقراطيين في الكونجرس لإقرار اقتراح تعديلات على قوانين الشرطة، لا تبدو كافية، لأن تبنيها يتطلب تعاون الجمهوريين وتوقيع ترامب عليها.
تغيير منهجي مطلوب
يرى مراقبون أن معالجة ترامب لاحتجاجات السود عقب مقتل فلويد زادت حدة الاحتقان في المجتمع الأمريكي، وعمقت من إشكالية العنصرية بين البيض والسود، لأنه هدد بنزول الجيش إلى الشارع لمواجهة المحتجين، من خلال اللجوء إلى قانون عام 1807 يسمح بنشر الجيش في المدن الأمريكية لوضع حد للتظاهرات العنيفة.
فقرار نشر الجيش يحتاج إلى تفعيل "قانون الانتفاضة"، الذي استخدم في عقد الخمسينات لإلغاء الفصل العنصري، وبعدها في الستينات للتعامل مع أحداث شغب في مدينة ديترويت كبرى مدن ولاية ميشيجان. وكانت آخر مرة استخدم فيها القانون عام 1992 من أجل التصدي لما يُعرف بـ"أحداث شغب لوس أنجلوس"، التي أعقبت قرار تبرئة أربعة عناصر شرطة من البيض من تهمة استخدام العنف المفرط ضد رجل أسود.
وكانت رؤية ترامب أن تفعيل القانون يهدف إلى التصدي لمحتجي منظمة "أنتيفا" أي من "المناهضين للفاشية" اليسارية المناهضة لليمين المتطرف وهي جماعة يتهمها بالوقوف وراء أعمال التخريب التي أدت إلى عمليات النهب.
وقد دعت الدول الأفريقية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تنظيم نقاش عاجل حول العنصرية وعنف الشرطة في سياق الحراك العالمي عقب وفاة جورج فلويد، وجاء هذا الطلب في رسالة وقعتها 54 دولة تشكل المجموعة الأفريقية التي تنسق جهودها حول مسائل حقوق الإنسان.
ويبدو أن الإشكالية الكبرى تكمن في توافر السلاح بكثرة، سواءً بين رجال الشرطة أو حتى المواطنين. وعلى سبيل المثال، فإن معظم ضباط الشرطة البريطانيين لا يحملون أسلحة نارية وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تنزع أسلحة الشرطة الأمريكية، يرى البعض أنه بالإمكان العثور على سبل وسياسات أخرى كفيلة بإحداث التوازن في المجتمع.
وفي إشارة قوية إلى الإصلاح، وافق مجلس مدينة مينيابوليس الأمريكية بالإجماع على قرار يستهل عملية تستمر لمدة عام لتبديل نظام السلامة العامة للمدينة بهدف التقليل من أولوية جهاز الشرطة.
ولا شك أن هذا الواقع ، يتطلب تغييراً منهجياً، اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ويستوجب العمل على تحريك الدولة واستخدامها أدوات معقدة لعلاج القصور القانوني والتجاوزات الأخلاقية، في مشروع قد يستغرق عقوداً من العمل الدؤوب عبر أجيال عديدة لتحقيق هذا التغيير.