بقلم : د. عبد الله النجار
يوم مصرى مشهود سجله القرآن الكريم على نحو يبرز جانبا من جوانب العظمة والشموخ فى مصر وعلمائها، والمصريين جميعا، وقد سمى هذا اليوم فى القرآن الكريم (يوم الزينة) الذى انعقد الاتفاق عليه بين نبى الله موسى وفرعون مصر كفريقين متنازعين، أحدهما يتمسك بالحق والإيمان وهو نبى الله موسى، والثانى ينتصر لنفسه ومجده وحكمه والكرسى الذى يجلس عليه، وهو فرعون، وقد تحدد يوم الزينة بالاتفاق بين الطرفين ليقدم كل منهما ما لديه من الأدلة على صواب رأيه ورسوخ موقفه، ولقد كان الأمر فى نظر فرعون أمر سياسة وحكم ومصالح ولهذا اعتبر ذلك اليوم فاصلا فى حياته وتاريخ حكمه، وكان نظره إلى نبى الله موسى على أنه منافس سياسى له، لم يأت لنشر دين الله وتبليغ ما كلفه به ربه من أمر الوحى بل ليسلبه ملكه, وقد صور القرآن الكريم ذلك الموقف فى قوله تعالى حكاية عن فرعون وهو يوجه كلامه لنبى الله موسى: "قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى"، ومن هذا الحديث القرآنى يظهر مدى اختلاف النظر بين داعى السماء، وطالب الحكم والسلطة، وأن من يطلب السلطة لا يعنيه من أمر الدين إلا ما يوصله إليها، ولو أن موسى كان على غرار فرعون فى الهوى والمقصد ما سمع الناس عن أمر هذا اليوم شيئا، ولكان يوما عاديا من أيام الزمان، لكن اختلاف الحق والباطل وتباريهما فيه هو الذى أعطاه هذا المعنى الجميل، وهو الذى ارتقى به ليذكر فى القرآن الكريم.
وكان فرعون قد أغرى سحرته بالعطايا والوعود التى ترفعهم إلى مصاف الطبقة الأولى فى دولته، بل إنهم كانوا قد اشترطوا عليه أن يجزل لهم العطاء وأن يوفى لهم الأجر، وقد حكى القرآن الكريم عنهم ذلك فى قوله تعالى: "قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين, قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين"، وقد سبق أن أثار فرعون حماسهم ضد نبى الله موسى حينما صور لهم أمره على أنه إنما جاء ليخرجهم من أرضهم ويجعلهم بلا وطن، حتى قالوا له: "أرجه وأخاه وابعث فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين"، ومن ثم انعقد الإجماع الشعبى والحكومى العام للاجتماع فى هذا اليوم المشهود (يوم الزينة) الذى سيكون فارقا بين الحق والباطل، وبين الهداية والضلال, وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا اليوم بالوصف وهو الزينة لما يحدث فيه من اجتماع الناس والفرح فيه بارتداء الجديد وأكل ما اعتادوا عليه من لذيذ المطاعم التى تجود بها أرض مصر، وما يتصوره العقل لفعل الناس وعاداتهم فى أيام أعيادهم التى يخرجون فيها عن مألوف حياتهم ويرتاحون فيها من عناء العمل وثقل المهام، ومن لوازم الزينة أن تحفهم الورود وأن يستمتعوا برؤية الزهور وروائح النبات وهو يزهو بألوانه ويتألق بجماله ليدل على جمال الخالق العظيم وقدرته وكماله.
وقد حانت ساعة اللقاء فى ضحى يوم الزينة وبعد أن اجتمع الناس من مختلف أنحاء مصر ليشهدوا تلك المواجهة الحاسمة واللقاء الفاصل، وقد بدأت ساعة الصفر منه, حين ألقى السحرة ما يحملونه من العصى التى تفننوا فى صناعتها وملأوها بالزئبق حتى تبدو كهيئة الثعبان عندما تلقى على الأرض فتتلوى وتتحرك بفعل حركة الزئبق فيها، ولم يكد السحرة يلقون ما يحملونه من العصى حتى ألقى نبى الله موسى عصاه، فإذا هى ثعبان مبين يلقف ويأكل ما رموه من العصى التى خيل إليهم أنها تسعى، ويبدو أن الله قد جعل من ضمن الإعجاز فى هذا الثعبان أن يكون نهيما بالزئبق حتى يأكله فلا يتبقى منه شيئا، وهنا تغير الموقف من النقيض للنقيض، وآمن هؤلاء الذين جمعهم فرعون أن خصمه على حق، وأنه هو الذى يستحق أن يتبعوه، ولما رأى فرعون انحيازهم لموسى وهجرهم لفرعون رغم ما سبق أن وعدهم به، قال لهم كما حكى القرآن الكريم: "آمنتم به قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى", ولم يأبهوا لوعيد فرعون بهذا العذاب الشديد كما لم يأبهوا بوعده من قبل، وانتصر الحق على الباطل فى لحظة فارقة من لحظات هذا اليوم الفريد وهو (يوم الزينة) الذى تحدث عنه القرآن الكريم.
ويوم الزينة ليس هو يوم النصر الذى انتصر فيه الحق على الباطل فقط، ولكنه اليوم الذى ظهر فيه معدن المصريين، لا سيما أهل العلم منهم، فقد كان السحرة هم علماء زمانهم وخيره بلادهم، فهم حين أدركوا حقيقة الأمر وظهر لهم الحق، لم يأبهوا بوعد، ولم يلتفتوا لوعيد، بل آمنوا بالله إيماناً لا يخشون فيه إلا الله وملكوا شجاعة الرد على فرعون حينما قالوا له: "لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قاض"، أى أفعل ما شئت فنحن لا نخشى إلا الله وكان هذا اليوم تسجيلا لشجاعة المصريين وعزة مصر، فلتحيا مصر إن شاء الله.