رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


اكتشافات علمية ملتبسة

22-4-2017 | 10:11


د. نبيل حنفي محمود - كاتب مصري

تحفظ مصادر الأدب العربي الكثير من الحكايات والسجالات عن السرقات الأدبية، ومن تلك المصادر الكتب التالية "الإبانة عن سرقات المتنبي" للعميدي، "العقد الفريد" لابن عبد ربه، "الأشباه والنظائر" للخالديين. وقد جرت تلك السرقات إما باستعارة بعض المعاني أو بالسطو على بيت أو شطر بيت، ولم يخطر لي ببال قط أن تكون هناك سرقات مماثلة في مجال العلم واكتشافاته، حتى أتاحت لي مطالعاتي المتشعبة في علوم كثيرة رصد سرقات علمية جرت بأساليب عدة وفي عصور مختلفة، والمقالة الحالية تعرض بعضا منها، مما يستحق معه ما يرتبط بها من اكتشافات أن تسمي "اكتشافات ملتبسة".

في الجغرافيا

شهد العالم خلال نصف قرن امتد حتى مطلع عشرينيات القرن السادس عشر فيضا من الاكتشافات الجغرافية، وعن أثر تلك الاكتشافات ونتائجها تحدث الكاتب النمساوي: ستيفان زفايج فقال: "أخذ وجه العالم يتغير سنة بعد سنة، وشهرا بعد آخر، فما يكاد علماء الجغرافيا والرسامون ينتهون من خريطة جديدة، حتى يطرأ ما يدعو إلى تصحيحها، بسبب اكتشاف جديد، وفي خمسين سنة، وضعت القواعد الأساسية لجغرافية العالم وشكل الأرض". (ستيفان زفايج: ماجلان قاهر البحار)، ومن الاكتشافات التي شهدتها تلك الفترة: وصول الإيطالي كرستوفر كولومبوس وبتمويل من ملك إسبانيا إلى أمريكا عام 1492، اكتشاف البرتغالي فاسكو دا جاما وبتكليف من عمانويل ملك البرتغال الطريق إلى الشرق عبر الدوران في البحر حول إفريقيا عام 1498، اكتشاف البرتغالي فرديناند ماجلان وتحت العلم الإسباني مضيق ماجلان عام 1518. لقد وطدت هذه الاكتشافات وكثير غيرها مكانة البرتغال خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، حتى غدت كما يقول عنها ول ديورانت في موسوعة "قصة الحضارة": "وأصبحت الإمبراطورية البرتغالية – وهي أول إمبراطورية استعمارية حديثة – أوسع الإمبراطوريات رقعة في العالم" (المجلد12)، إلا أن تلك الاكتشافات انطوت على مغالطة تاريخية وتزييف واضح.

تؤكد مصادر التاريخ أن الربان الإيطالي كرستوفر كولومبس قاد ثلاث قوافل بحرية للتحقق من إمكانية الوصول إلى الهند بالإبحار من أوروبا غربا في المحيط الأطلسي، أبحرت القافلة الأولى عام 1492 لتصل إلى جزيرتي كوبا وهايتي، وانطلقت القافلة الثانية عام 1493 لتكتشف جزر جواديلوب وأنتيجوا وبورتريكو وجامايكا، بينما وصلت القافلة الثالثة إلى فنزويلا عام 1498، لذا يعد كولومبس –وبحق- مكتشف أمريكا، وبدلا من تسمية الأرض الجديدة باسم كولومبس، كأن يطلق عليها مثلا اسم كولومبيا، اتخذت اسم مكتشف آخر، هو الإيطالي أميريجو فيسبوتشي، الذي تزعم بعض المصادر أنه أول أوروبي وصل إلى القارة الجديدة، وهو ما أوردته موسوعة هاتشنسون (طبعة 1999) في مادة (أمريكا): "The name America is derived from Amerigo Vespucci the Florentine navigator who was folsely supposed to have been the first European to reach American mainland 1497" (ص31)، ويعني حرفيا: "الاسم أمرييكا اشتق من أميريجو فيسبوتشي البحار الذي افترض زورا أنه أول أوروبي وصل الأرض الأمريكية عام 1497". ولسنا نعلم الآن وعلى وجه اليقين الأسباب التي حدت بالبعض لإسناد اكتشاف أمريكا إلى فيسبوتشي دون كولومبس، ولكن الأمر المؤكد هو أن فيسبوتشي اكتشف ريوبلاتا وباراجواي في ظل العلم البرتغالي، عام 1503! (ول ديورانت: قصة الحضارة، المجلد 12)، لتذهب أكاليل الغار وتيجان المجد إلى أميريجو فيسبوتشي، بينما لم يلق كولومبس في حياته سوى العنت وسوء التقدير، حتى أنه سجن لفترة ومات فقيرا ويكاد يكون مغمورا (د. حسين سعيد "مشرف": الموسوعة الثقافية).

يبلغ نكران السبق وإسناد الفضل لغير أهله المنتهى في قصة اكتشاف مضيق ماجلان، وهو المضيق الواصل بين المحيطين الأطلسي والهادي عند أقصي الجنوب من أمريكا الجنوبية، والذي يقع معظمه في دولة تشيلي، وتحفظ معظم المصادر التاريخية قصة ذلك الاكتشاف، والتي تتلخص في توقيع الملاح البرتغالي فرديناند ماجلان اتفاقا مع شارلمان: ملك إسبانيا في 22 مارس 1518، تضمن تعهد الملك بتمويل حملة بحرية من خمس سفن يقودها ماجلان، لإثبات أن الطريق إلى جزر التوابل في الشرق عبر المحيط الأطلسي ونحو الغرب، أقصر من الطريق إليها بالدوران حول رأس الرجاء الصالح باتجاه الشرق، ولإثبات أن هناك ممرا مائيا يشق أمريكا الجنوبية ويصل بين المحيطين الأطلسي والهادي، وأعطي الاتفاق ماجلان وشريكا له يدعي فاليرو جزءا من عشرين جزءا من دخل ما سوف يكتشفانه من بلدان، وأعطاهما كذلك جزيرتين إذا زاد عدد الجزر المكتشفة عن ست جزر، وبالفعل اكتشفت السفن الباقية مدخل المضيق من جهة المحيط الأطلسي، وخرجت تلك السفن بعد إبحارها في المضيق إلى المحيط الهادي في 28 نوفمبر1520، ليحمل المضيق منذ ذلك التاريخ اسم ماجلان.

لم يتوقف أحد خلال العصر الذي شهد اكتشاف المضيق، ليطرح سؤالا بدهيا عن ماهية المصدر الذي استقى منه ماجلان معلوماته الأولية عن المضيق، ولكن رفيقا لماجلان هو أنطونيو بيجافيتا تطوع لإجابة هذا السؤال، حيث سجل ذلك في قصة حياة ماجلان التي دونها بقوله: "لم يكن أحد منهم (أي أعضاء الحملة) يصدق أن هناك ممرا، عدا ماجلان وحده، وقد استنتج ماجلان ذلك من خريطة وضعها من قبل مرتان بيهايم" (ستيفان زفايج: مرجع سابق)، ومرتان بيهايم الذي أقر أنطونيو بيجافيتا أنه واضع الخريطة التي اهتدى بها ماجلان إلى المضيق، هو رسام الخرائط في مكتبة قصر ملك البرتغال، ولا يعلم أحد على وجه الدقة مصدر معلومات بيهايم عن المضيق، وهو الذي لم يقم بأي رحلة بحرية في حياته، مما يدفع إلى الشك بأن ثمة آخرين مجهولين استقى منهم بيهايم ما ضمنه تلك الخريطة من بيانات خاصة بالمضيق، وهكذا ذهب الفضل في اكتشاف المضيق إلى ماجلان، وتوارى اسم بيهايم وانمحت أسماء من عرفوا بموقع المضيق من ذاكرة التاريخ التي لا تعرف الإنصاف في بعض الوقائع.

في الكيمياء

لم أتقبل الكيمياء – ولا أقول أبدا أحببتها – بين ما درست من مناهج التعليم الأساسي، وذلك رغم قول مؤلفي كتاب "إبداعات النار: تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري" إن "تاريخ الكيمياء هو قصة السعي البشري" نحو التقدم، كانت فلسفة الحفظ وجفاف المعلومات بين أهم أسباب نفوري من الكيمياء، وعندما تحررت من ربقة الامتحانات وكآبة الحصص المدرسية، وجاء ذلك مواكبا لاطلاعي على كتب من نوعية الكتاب المشار إليه، والذي اشترك في تأليفه كل من كاتي كوب وهارولد جولد وايت، وبلغ المدى الزمني لما تناوله من تاريخ الكيمياء قرابة مائة ألف سنة، توالت فيها المشاهدات والاكتشافات، التي ولدت منها الثورات العلمية، أدركت مؤخرا ما للكيمياء من سحر، ورغم إعجابي باكتشافات الكيميائيين للعناصر الجديدة والقوانين التي تنظم تفاعلاتها، إلا أنني توقفت – ويا للعجب– أمام اكتشافات ملتبسة حفظتها بعض الكتب التي أرخت للاكتشافات والثورات العلمية، ومنها اكتشافان ملتبسان.

 أولهما هو اكتشاف الأكسجين، الذي تقول المصادر إن هناك ثلاثة علماء لهم الحق في ادعاء اكتشافه، وعن هؤلاء الثلاثة تحدث توماس كون في كتاب "بنية الثورات العلمية": "وأول من له حق الادعاء بأنه قام بتحضير عينة نقية نسبيا من غاز الأكسجين هو الكيميائي والصيدلي السويدي كارل فيلهلم شيله Carl Wilhelm Scheele، غير أن بالإمكان إغفال جهده في هذا الشأن، نظرا لأنه لم يصدر إلا بعد الإعلان عن اكتشاف الأكسجين مرارا في أماكن أخري"، ويستطرد كون متحدثا بعد ذلك عن المكتشف الثاني: "وثاني أصحاب الحق في الادعاء خلال هذه الفترة الزمنية هو العالم ورجل الدين البريطاني جوزيف بريستلي، الذي جمع الغاز المنطلق بفعل تسخين الزئبق الأحمر، باعتباره بندا ضمن سلسلة بحوث عادية طويلة لدراسة الغازات أو الهوائيات المنبعثة بفعل عدد كبير من المواد الصلبة، وحدد في عام 1774 الغاز الناتج عن ذلك بأنه أكسيد النتروز، ثم وصفه في عام 1775 – بعد مزيد من التجارب – بأنه هواء عادي يحتوي على كمية أقل من الفلوجستون"، واختتم حديثه عمن لهم الحق في ادعاء اكتشاف الأكسجين بثالثهم: "والمدعي الثالث هو لافوازيه، الذي بدأ عمله الذي قاده إلى اكتشاف الأكسجين بعد تجارب بريستلي في عام 1774، وربما بناء على إشارة خفية أو إيحاء من جانب العالم الإنجليزي بريستلي، فقد كتب لافوازيه في مطلع عام 1775 أن الغاز الناتج عن تسخين أكسيد الزئبق الأحمر هو (الهواء ذاته دون أي تغيير)، فيما عدا أنه ينبعث أكثر نقاء وأكثر صلاحية للتنفس، ومع بداية عام 1777 وربما بفضل إلماحه ثانية من بريستلي، خلص لافوازيه إلى أن الغاز نوع متميز، وأحد العنصرين الرئيسيين في الغلاف الغازي، وهي نتيجة أبى بريستلي الموافقة عليها ولم يستطع قبولها". إن المتأمل للأحداث المرتبطة باكتشاف الأكسجين، سوف يخلص إلى صعوبة نسبة ذلك الاكتشاف إلى تاريخ محدد أو إلى شخص بعينه.

وأما الاكتشاف الثاني فيتعلق بما عرف في الكيمياء باسم الجدول الدوري، وهو جدول ترتب فيه العناصر وفقا لوزنها الذري، والوزن الذري هو النسبة بين وزن ذرة العنصر ووزن ذرة عنصر قياسيّ كالهيدروجين مثلا، فقد اكتشف كل من الإنجليزي جون نيولاندز والفرنسيّ الكسندر بيجويير دو شانكورنوا في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر وبشكل مستقل، "أنه إذا ما تم ترتيب العناصر وفق وزنها الذري، فإن ثمة نمطا متكررا يكشف عن فواصل منتظمة بين العناصر"، وعندما نشر كل من نيولاندز ودو شانكورنوا تصوريهما للجدول الدوري عامي 1862 و1864 على التوالي، لقيا رفض زملائهما والمؤسسات العلمية، حتى جاء الروسيّ ديمتري إيفانوفيتش مندلييف لينشر عام 1869 بحثه الرائد بعنوان: "عن علاقة خواص العناصر بأوزانها الذرية"، والذي قدم فيه حلولا لما فشل في حله كل من نيولاندز ودو شانكورنوا من مشاكل في جدوليهما، وتمثل أهم ما قدمه مندلييف من حلول في تركه فجوات بجدوله بغية شغلها فيما بعد بما لم يكتشف في عصره من عناصر. لقد رتب مندلييف العناصر في جدوله وفقا لأوزانها الذرية، ووضع العناصر ذات الخواص الكيميائية المتماثلة تحت بعضها في أعمدة داخل الجدول، مما جعل العناصر الأخف وزنا تأتي في قمة يسار الجدول، بينما جاءت العناصر الأثقل وزنا في الركن الأسفل جهة يمين الجدول، وعندما اكتشفت عناصر جديدة بعد إعلان مندلييف لجدوله، شغلت – وللعجب – ما تركه مندلييف في جدوله من فراغات! إن ما حظي به مندلييف من ثناء ومجد، لم يتحقق مثله أو بعضه لكل من نيولاندز ودو شانكورنوا، ولا حتى لشخص رابع هو عالم الكيمياء والفيزياء الألماني لوثار مايير، الذي توصل إلى نفس الأفكار التي تضمنها جدول مندلييف، وفي وقت معاصر لإعلان مندلييف عن جدوله، إلا أن مايير اعترف في وقت لاحق لنشر مندلييف لجدوله، بأنه، أي مايير، افتقر إلى حد ما إلى شجاعة الإعلان عن أفكاره. (جون جرينين: تاريخ العلم: 1543 ـ 2001).

من علم إلى علم

لم تكن الاكتشافات الملتبسة وقفا على علمي الجغرافيا والكيمياء، وإنما امتدت لتشمل علوما عدة، منها الميكانيكا والفلك والأحياء والهندسة الكهربية، وسوف تستعرض الفقرة التالية نماذج لما تم رصده من اكتشافات داخلها اللبس في تلك العلوم، ففي مجال الميكانيكا يذكر جيمس بيرك في كتاب "عندما تغير العالم"، أن جهود الإيطالي جيوفاني بنديتي قرابة منتصف القرن السادس عشر لإرساء نظرية القوة الدافعة ومفهوم الحركة الدائرية، وكلاهما ذو أهمية حيوية في تحديد مسار قذائف المدافع، قد سرقت ونسبت إلى فرنسيّ يدعي جين تيزنيار، ولم يتم تدارك الأمر وإعادة الحق في تلك الجهود العلمية إلى بنديتي إلا بعد أكثر من مائتي عام. وفي مجال الفلك تكشف المصادر التاريخية أن دراسة الألماني جوهانز كبلر الدقيقة لحركة الكواكب وما تمخضت عنه من قوانين، إنما ترجع إلى، وتقوم أساسا على، ما ورثه من بيانات وأبحاث أستاذه العالم الدنماركي الكبير تايكو براها (جيمس بيرك: عندما تغير العالم). وأما في مجال الهندسة الكهربية فإن أشهر الاكتشافات الملتبسة ترتبط بالعالم  الصربي الشهير نيقولا تيسلا، فقد عمل بالأجر عند المخترع الأمريكي توماس أديسون، حيث طور تيسلا نماذج المحركات الكهربائية البدائية التي ينتجها أديسون في شركته، فما كان من أديسون إلا ادعائها لنفسه، وعندما انتقل تيسلا بعد ذلك إلى شركة رجل الصناعة الأمريكي جورج ويستنجهاوس، عكف على تطوير نظرية التيار المتردد، الذي لم يكن معروفا في تلك الآونة، وما أن أتم تيسلا تسجيل براءة اختراعه للتيار المتردد، حتى نازعه علماء آخرون سَبْق ذلك الاختراع، مما جعل العامة ينسبون اختراع التيار المتردد – فيما بعد – إلى جورج ويستنجهاوس! (روبرت جرين: القوة).

إن المتأمل لما أثبت هنا من اكتشافات ملتبسة، سوف يخرج بحقيقة واحدة عنها، وهي أنه على الرغم من اختلاف أسباب لبسها بين انتحال الأفكار وتزامنها، إلا أنها – جميعا – نتاج ثورات علمية قادت خطوات البشر في طريق التقدم والحضارة.