من الرواية إلي مسرح الأوبرا .. انتوني كوين وهاني حسن صناع البهجة مع رقصة زوربا
كتبت : نيفين الزهيري
إن الانسان قلما يحس بالسعادة وهو يمارسها، فإذا ما انتهت سعادته ورجع ببصره إليها، أحس فجأة، وبشيء من الدهشة في بعض الأحيان.. بروعة السعادة التي كان ينعم بها" هذا هو ما يمكن أن يوصف به "زوربا" الذي أعاده راقص الباليه هاني حسن للحياة مرة أخري مؤقتا من خلال العرض الذي يحمل نفس الاسم وأعادت تقديمه دار الأوبرا المصرية بعد طلب الجمهور له، ليقدم خلال 4 أيام متتالية استمتع خلالها الجمهور من كل الجنسيات وشعر بحالة من السعادة حيث يعلن صراحة ومن خلال الرقص " أن كل ما ينبغي لكي تشعر بأن هذه هي السعادة، هو أن يكون لك قلب راض ونفس قانعة".
تمكن هاني حسن من أن يقتنص مشاعر الجمهور مابين السعادة والألم بما تحمله له الحياة، خاصة وأنه أصبح متمكنا من أدوات تقديمه لشخصية زوربا والتي في الغالب يتوحد معها علي المسرح ليقدمها وكأنه زوربا الذي قابله الروائي "نيكوس كازانتزاكيس" علي إحدى الجزر اليونانية، ليعشق تفاصيل هذا الرجل المحب للحياة ويقبل عليها بكل جوارحه ويعرف كيف يستمتع بها، يعيش كل يوم وكأنه آخر يوم له على هذه الأرض، يطلق لروحه العنان ويجعلها تعبر عنه بالرقص والصراخ وبكل ما يمكن أن يمليه عليه جنونه في تلك اللحظة، وهو وبنفس الوقت يمتلك قدرة عظيمة على التخلي عن كل القيود والتحرر منها، إنه شخص جعل من فطرته دليلاً له في حياته والتي بنى على أساسها فلسفته الخاصة في هذه الحياة.
والمدهش أن زوربا لديه من الحكمة ما هو أروع وأبسط وأصدق من حكم الفلاسفة رغم أنه رجل أمي ومدرسته الوحيدة هي الحياة وتجاربه فيها، إنه "زروبا" ذلك الشخص الذي يتمني العديد حول العالم أن يمتلكوا نفس مقوماته الشخصية التي دونها بحرفية شديدة الروائي "نيكوس كازانتزاكيس" لنعيش من خلال روايته-التي نقلها لنا من أحياء جزيرة كريت اليونانية التي عاش علي أرضها نيكوس وزوربا مغامرة فريدة من نوعها.
فزوربا هي شخصية حقيقية قابلها نيكوس في أحد اسفاره، وقد أعجب به اعجابا شديدا، فكتب رواية باسمه. الملفت في رواية زوربا، هو قدرة نيكوس على وصف شخصية زوربا بشكل مطوّل ومفصّل وعميق، حتى انك تشعر لوهلة أن زوربا هو الشخص الأعظم في هذا الكون. المميز في زوربا هو انه يحب الحياة بكل أشكالها، لا يذكر الحزن, بل يذكر الفرح دائما في لحظات حزنه الشديد، أو سعادته الشديدة، يرقص رقصته المشهور (رقصة زوربا).. في تلك الرقصة، يقفز إلى الأعلى لأمتار ويستغل كل ما هو حوله من بشر أو من أدوات وجمادات.
وتعد الرواية تجسيداً لفلسفة "كازانتزاكيس" الوجودية والتي تتمحور حول خيار المرء إما أن يجعل لحياته جدوى في عالم من اللاجدوي، أو أن يترك الأيام تسوقه نحو الموت دون أن يضفي أي معنى على حياته، ويتجلى هذان الخياران في الرواية ممثلين في الشخصيتين الرئيسيتين وهما المعلم وزوربا.
فحينما ننظر إلى المعلم باسيل، نجده شخصاً متعلماً، قارئاً، مثقفاً، هاديء الطباع، غير مغامر، يهدف إلى تحقيق السلام النفسي وتعلم الحياة من خلال الكتب. وعلى الصعيد الآخر نجد زوربا، عاملاً جاهلاًَ، ملحداً رث الثياب، فظاً وسوقياً، وزير نساء مولعاً بالمتع الجسدية، لكنه رغم ذلك قد تعلم درساً هاماً لم يدركه "المعلم"،وهو أنه كي تتعلم الحياة، ينبغي أن تحياها، لا أن تقرأ عنها، فهو يري في الرواية "إن كل شيء في هذا العالم له معان خفية . الرجال . الحيوانات . الشجر . النجوم , إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حل رموزها ليكتشف خفاياها .... فعندما تراها فإنك لا تفقه لها معنى, ولكن بعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي".
قد لا تكون شخصية كهذه مثيرة للإعجاب بالنسبة للبعض، لكن "زوربا" تمكن من أن يحرك فينا الكثير من التساؤلات حول القيود التي تتحكم في حياة كل منا، فبالنسبة لي عنى زوربا الكثير وتعلمت من فلسفته أن الإنسان الحقيقي هو من يقدر على التحكم برغباته وليس العكس، فسيظل زروبا بالنسبة للكثيرين هو بهجة الحياة ورقصتها.
إلا أن رواية زوربا اليوناني تعد واحداً من أشهر أعمال كازانتزاكيس على الإطلاق واسم هذه الرواية في الأصل (حياة ألكسيس زورباس) وموضوعها في غاية البساطة إذ تدور الأحداث عن شاب من أبناء المدينة وضع نصب عينيه أن يستكشف منجما للمعادن برفقة شخص يوناني التقاه صدفة ويدعى ألكسيس زورباس، والرواية هي حكاية اللقاء والمساعي والمغامرات التي قام بها زوربا وصديقه ابن المدينة،وقد ترجمت روايته زوربا إلى عدد كبير من اللغات ووزعت بملايين النسخ إضافة إلى أنها تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح من إخراج وإنتاج اليوناني مايكل كاكويانيس الذى أقبل علي تقديم الرواية التي كتبها كازانتزاكيس ليكتب لها السيناريو ويقدمها من خلال فيلم مدته 142 دقيقة عام 1964، وحصل وقتها علي 3 جوائز أوسكار عام 1965 من أصل 7 جوائز رشح لها، حيث حصل علي جائزة أحسن ممثلة دور ثان ومدير تصوير وديكور بينما كان انتوني كوين النجم العالمي مرشحا لجائزة أحسن ممثل عن تقديمه شخصية زوربا، وجائزة أحسن سيناريو مقتبس واخراج وفيلم، ورشح للعديد من الجوائز في البافتا والجولدن جلوب، بالرغم من أن ميزانيته بلغت مايقرب من 783 ألف دولار بينما حقق وقتها 24 مليون دولار، وقد تم تصويره بالكامل في جزيرة كريت اليونانية.
كثيراً ما كان أنتوني كوين يردد في أحاديثه وجلساته القول إنه زوربا «أنا زوربا» في دلالة معبّرة عن طبيعة تفكيره، وإشارة إلى حياته الفنية على صعيد التجارب المختلفة، فقد كان عاشقاً كبيراً للحياة، متطلباً نهماً للأشياء والنساء، حتى بدا كما لو أن ثمة تطابقاً مثيراً بينه وبين تلك الشخصية التي كتبها اليوناني نيكوس كازانتزاكيس في عمله الروائي الجميل "زوربا"، حيث قال كوين إن "التمثيل بالنسبة إلي هو الحياة، فأنا أعشق الحياة، لذا أعيش، وأعشق التمثيل، لذا أمثل. لا بد أن أتدفق بالحيوية".
وقال كوين " زوربا مثلت له الحياة الرقص ثم الرقص، ببساطة ان الحياة مجرد رقصة نملأ فيها دنيانا ونضج بها سعادتنا، السعادة التي لاتعني المال أو النساء أو اشباع الرغبات السعادة شيء اسمى من تلك المتطلبات الاساسية، السعادة تعبر عن اللا حدود لطموحاتنا واللاوجود لمخاوفنا وان ننظر للحياة من منطلق بسيط وان نحطم كل ما يشوب أجسادنا , زوربا جعل من الحياة امرأة نتغزل بمفاتنها ,وصديق نفضي له أهاتنا , ورشفة ماء تطفى رمقنا , وأخيراً لحن يوجب أن نرقص على ترانيمه".
فلقد تمكن كوين من أن يمجد الرواية التي كتبها "كازانتزاكيس" من خلال شخصية زوربا، ذلك الرجل الذي يبلغ الستين من عمره، ولكن قلبه مازال ينبض اقوي من الشباب، حيث لعب دور رجل من طبقة العمال محبوب من قبل الجميع, مرح لا يجزع مطلقا بسيط التفكير اجتماعي يحب الرقص لينسى همومه يدعى زوربا اليوناني, من امتع الأدوار السينمائية على الاطلاق لا مثيل له في تاريخ السينما، ومن خلال شخصيته والفيلم يجعلك تفهم طعم السعادة ومعنى حقيقياً للحياة بشكل مفصل، من خلال رقصاته التي صممها جيورجوس بوريفاس، والموسيقي المميزة التي أصبحت من أشهر المقطوعات الموسيقية والتي وضعها المؤلف الموسيقي ميكيس ثيودوراكيس.
بعد نجاح الفيلم لاقت موسيقى الزوربا شعبية هائلة في اليونان وسرعان ما أصبحت أحد معالم الموسيقى اليونانية وقد استخدمت في عدة مسلسلات وافلام أجنبية بعضها غير يونانى ولعل كان اهمها استخدام الموسيقى في احدى حلقات المسلسل الامريكى prison break، واعتبرت فلكوراً يونانىاً من أهم العلامات الفنية للرقص والغناء اليونانى، حيث تعتمد رقصة الزوربا على موسيقى الزوربا التى أبدعها المولف الموسيقى اليونانى ميكيس ثيودوراكيس، تؤدى الرقصة بوجود الراقصين في صف واحد بينهم مسافات معينة تحدد بمد كل راقص ذراعه ووضعها على كتف الراقص المجاور له، أما حركة الارجل فتكون تبادلية بحيث تتحرك الارجل لتوضع القدم اليسرى امام اليمنى مع التبادل أى ان توضع بعدها الرجل اليمنى امام اليسرى وفي اثناء ذلك يتحرك الصف بأكمله إلى اليسار واليمين وبسرعات مختلفة على حسب الايقاع الخاص بموسيقى الزوربا و قد يترك أحد الراقصين او بعضهم الصف ليؤدى عدداً من الحركات الاستعراضية الراقصة خارجه قبل ان يعود للصف مرة أخرى.
ومن الفيلم والطريقة التي صاغ بها ثيوردوراكيس "زوربا" أصابت مصمم الرقصات لوركا ماسين بعدوى الترحال ، ليقدم رقصات ممزوجة بين الرقص الحديث والكلاسيكي والشعبي لتحاكي موسيقى الفيلم الأصلي وموسيقى اليونان التقليدية المعروفة بالبوذكي، حيث عرف باليه "زوربا" النور للمرة الأولى مع مهرجان كركالا الموسيقي في روما عام 1971 حينما شاهده 200 متفرج ، قبل أن يعود لنفس المهرجان بنفس النجاح عام 1998 ، كما حقق زوربا أعلى معدلات الحضور في تاريخ مسرح "أرينادي فيرونا" عند عرضه للمرة الأولى عام 1988.
وطاف باليه "زوربا" مسارح 15 دولة ، شاهده خلالها مليوناً متفرج ، حتى وصل إلى المسرح الكبير في دار الأوبرا المصرية في الزمالك ، لتقدمه فرقة باليه أوبرا القاهرة ، والتي برع راقصوها في تجسيده ، إلى الحد الذي خطف الأنظار مع عرضه في مهرجان "شنغهاي" الصيني ، الذي شاركت فيه 32 دولة ، منها فريق البولشوي الروسية.
ولكن يظل هاني حسن هو زوربا المصري الذي عشق تفاصيل هذه الشخصية وأصبح يتوحد معها لتحدث منافسة قوية بينه وبين الفنان العالمي انتوني كوين، ولكن لا يمنع هذا من أن الاثنين قدما أداء ساحرا لروح زوربا الحمقاء الجميلة وموسيقى مرحة مستوحاة من الفلكلور اليوناني لميكيس ثيودوراكيس وصورة بديعة تفيض بجمال وقسوة مجتمع محلي ضارب بجذوره في الأرض والزمان كافية وحدها ،مهما تكن أفكار وتساؤلات نيكوس كازانتزاكيس، أن تثير خيال طفل صغير لم يعرف شيئا عن الحياة بعد .
فقبل كل عرض لزوربا يستعد راقص الباليه هاني حسن لتقديم هذه الشخصية التي عشقها وتوحد معها لدرجة أنه في عام 2013 قام الفنان التشكيلي اسامة السروي المستشار الثقافي المصري بروسيا بإهداء تمثال من البرونز لشخصية زوربا واسماه زوربا المصري لسوليست، وفرقة باليه اوبرا القاهرة هاني حسن الذى اهدى التمثال بدوره لدار الأوبرا المصرية ورئيستها الدكتورة ايناس عبد الدايم وذلك لوضعه في احد الأماكن البارزة بالأوبرا ليتمكن الزوار ورواد الاوبرا من مشاهدته.
فهاني يقول دائما إنه يعشق هذا الباليه، وبالتحديد هذه الشخصية التي يعتبرها مبهجة فهي لا تبحث عن السعادة بل تصنعها لتقدمها لمن حولها ببساطة وسلاسة دون أي تعقيدات بالرغم من أنه غير متعلم، ولكنه في الباليه لشخص في الاربعينيات من عمره، وليس في الستينيات كما في الرواية، وأضاف حسن، أن مصمم الرقصات لوركا ماسين قام بتقديم أول عرض للباليه علي نفس قصة زوربا اليوناني مستخدما فيه موسيقي الفيلم وقدمه علي مسرح أثينا وبعد ذلك بعشر سنوات انتقي ثيودوراكيس مختارات من أعماله المختلفة والتي وجدها ملائمة لقصة الفيلم وتقدم بها لأوبرا فيرونا لتقديمها كباليه متكامل.
واستكمل حسن حكيه قائلا ان إدارة الاوبرا وافقت علي ان يقوم بالتوزيع الاوركسترالي فاعتبره ثيودوراكيس تحدياً له فانعزل 8 اشهر لإتمام العمل الذي قاده بنفسه في اول عرض عام 1988، وقد حقق الباليه نجاحا كبيرا بفضل الموسيقي التي برع فيها ثيودوراكيس في المزج بين الكتابة السيمفونية وطابع الموسيقي الشعبية وخاصة رقصة "السيرتاكي" الشهيرة التي تؤديها آلة البزق الشعبية والتي يختتم بها الباليه لتصبح من أشهر الرقصات اليونانية في العالم، والتي ينتظرها الجمهور في نهاية كل حفل ليتمايلوا ويتراقصوا وهم يصفقون مع موسيقاها.
وأضاف: باليه "زوربا" تعرفنا عليه في مصر لأول مرة عام 2000 حينما زارتنا فرقة باليه أوبرا اليونان القومي، أما أداء فرقتنا المصرية له فكان عام 2004 عندما انتجته دار الأوبرا المصرية، حيث أخرج العرض الراحل عبدالمنعم كامل، ليقدم عملا متميزا قاد الاوركسترا فيه أكثر من مايسترو منهم نادر عباسي ومؤخرا كان ناير ناجي، وشارك في تقديمها العديد من نجوم الباليه منهم أحمد نبيل وممدوح حسن، وآنيا أهسين وكاترينا إفانوفا، ومحمد فضلون ومحمد حامد وإسلام الدسوقي، ورجوي حامد وزينب محمد.