«أكتوبر» يُكمل 50 عاما بعد ثلاث سنوات من الآن.. فهل نستعد بأفلام ومسرحيات وروايات وأغنيات وتماثيل من الآن؟!
منعت نفسى من تدوين الجملة الأولى هكذا: ديون ذكرى أكتوبر المعلقة فى رقابنا. أكتوبر لا يمكن أن يكون ذكرى أبداً. أكتوبر تجربة حياة كاملة. جيش مصر عَبَرَ القناة لأنه ضمير شعبه. والشعب وضع جيشه فى حبة قلبه. حبات قلوب المصريين والعرب والمسلمين.
خطأ أن نصف أكتوبر بالنصر المصرى. رغم أنه لولا جيش مصر العظيم ما كان. ومع هذا فإنه من باب ما اتصفت به الشخصية المصرية من كرم ومحبة للآخرين، أقول إن مصر انتصرت لكل العرب ولجميع المسلمين ولكافة أبناء العالم الثالث فى قارات الدنيا البعيدة. أمريكا اللاتينية وآسيا. وإفريقيا التى شاركتنا بعض دولها إخراج النصر الذى أربك الدنيا كلها. وأعاد حسابات علماء الإستراتيجية ودروس القتال، وأصبح يؤرخ به فى جميع معاهد وأكاديميات الدنيا من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب، ومن آخر الغرب حتى نهايات الشرق.
ما أريد أن أكتب عنه اليوم يصيبنى بحالة من التردد. يخطو القلم فى يدى خطوة إلى الأمام ثم يعود خطوات إلى الخلف. ليس لأننى أريد الكتابة عن أمر أشعر بحالة من التردد أمامه. ولكن لأن هناك غيرى كتبوا عن الموضوع. مع أن الكتابة عن أمر ما – وتكرار الكتابة مسألة مهمة – ترضى الوجدان وتريح الضمير. لكن المشكلة تبدأ من غياب ردود الأفعال فى الواقع حول ما نكتب عنه.
قضيتى هى غياب التعبير الأدبى والفنى عن أكتوبر الذى يكمل ٤٧ عاماً من عمره الآن. أى أن الطفل الذى ولد فى تلك السنة المجيدة يوشك أن يدخل إلى مقدمات كهولته الآن. لأحول قضيتى – بل أقول قضيتنا جميعاً – من المجردات إلى شيء يمكن أن نلمسه فى الحياة اليومية. لعله يختصر الطريق والمسافة إلى ما أريد الكتابة عنه.
أين فيلم أكتوبر الكبير؟! أين ملحمة أكتوبر الضخمة؟! أين رواية أكتوبر التى تأخذ الألباب؟! أين ملحمة أكتوبر الشعرية التى تذهب بالعقول إلى عنان السماء؟! أين التمثال الضخم الذى يُزيِّن ميداناً لا يقل عن ميدان التحرير الذى يعيد إلى الزمان ما جرى فى تلك الأيام العبقرية: ١٩٧٣؟! أين المسرحية أو العرض المسرحى الغنائى الذى يقول للناس كانت هنا بطولة من النوع النادر قبل ٤٧ عاماً مضت؟!.
أسئلة لا نهاية لها. ولو استسلمت لجمال الأسئلة لأنها تدور حول موضوع عبقرى لا يقبل التكرار فى حياة الأوطان والأجيال التى تسكنها ما توقفتُ أبداً. وقبل الإجابة لا بد أن أعترف بأن هناك محاولات. يكفى أن ننظر إلى ضريح الجندى المجهول فى مدينة نصر المواجه للمنصة. والذى صممه الفنان سامى رافع. وكانت المصور تتابع سامى رافع وقتها يوماً بيوم خلال إنجازه لهذا العمل الفريد. بل لقد زار سامى رافع المصور وهو ينجز مشروع عمره أكثر من مرة.
من المؤكد أنه كانت هناك اندفاعة بعد أكتوبر مباشرة فى إنتاج الأفلام السينمائية. سواء التسجيلية القصيرة، أو الروائية الطويلة. وكانت هناك عروض مسرحية. لعل ما بقى فى ذهنى منها العرض المسرحى الجميل: حدث فى أكتوبر.
من ناحية الأفلام السينمائية التى جرى تصويرها فى أعقاب الحرب وحتى منتصف تسعينيات القرن الماضى، جرى إنتاج عدد من الأفلام. وقبل الكتابة عنها والحكم عليها أقول إن واحداً من هذه الأفلام كان مأخوذاً عن رواية لى.
الفيلم هو: المواطن مصرى الذى أخرجه صلاح أبو سيف، مؤسس الواقعية فى تاريخ السينما المصرية وكتب السيناريو والحوار له محسن زايد. ولن أستسلم للتوسع فى الكتابة عن فيلم شاركت فى صناعته لروايتى: الحرب فى بر مصر.
ثمة أفلام أخرى جسدت ما جرى فى أكتوبر: الرصاصة لا تزال فى جيبى، المأخوذ عن رواية إحسان عبد القدوس. العمر لحظة، الذى جسد رواية ليوسف السباعى. أبناء الصمت، المأخوذ عن رواية مجيد طوبيا. الوفاء العظيم، حكايات الغريب، الذى كتب له القصة صديق العمر ورفيق الدرب المرحوم جمال الغيطانى. بدور، إعدام ميت، الطريق إلى إيلات، يوم الكرامة.
ما أقصده ليس فيلماً مثل كل الأفلام. ولكن ما أحلم به الفيلم الحدث الذى يؤرخ به للحدث. صحيح أن أكتوبر ليس فى حاجة لأى تأريخ له. ولكن العمل الفنى يبقى مهماً مهما كانت عظمة الحدث الذى يحكى عنه. هل ننظر لتجارب غيرنا؟ وكيف تعاملوا مع حروبهم؟ هل أذهب إلى الحرب العالمية الثانية باعتبارها أكثر حرب تم تجسيدها فى السينما والرواية والمسرح ولوحة الفن التشكيلى والتمثال؟ وقبلها حرب الروس دفاعاً عن بلادهم ضد المحتل الأوروبى، وكتب عنها ليو تولستوى – أعظم روائى فى روسيا وربما فى العالم – والذى جسد فيها دفاع الروس عن بلادهم تجاه الغزو الأوروبى، والقائمة طويلة.
أكتب الآن اعتماداً على الذاكرة. ثمة فيلم الطلقة الواحدة والأربعين الذى أنتجته فرنسا. وكل شئ هادئ فى الميدان الغربى الذى كتب روايته الروائى إريك ماريا ريمارك، فى ألمانيا. وكذلك فيلم: امرأة من روما، الذى لعبت بطولته النجمة المعروفة: صوفيا لورين، فى إيطاليا.
ما أقصده من عمل فنى أياً كان فيلما، أو أغنية، أو مسرحية، أو لوحة فن تشكيلى، أو باليه، أو أغنية مغناة، لا تكون عملاً عادياً يمر والسلام. لكن تصبح علامة مهمة تشير إلى الحدث. وتجعلنا بعد مشاهدة العمل أو التعايش معه ننطلق إلى الحدث الجوهرى الذى يتحدث عنه لكى نستعيده ونستوعبه ونعيشه من أول وجديد.
ربما كانت حربنا أكثر أهمية من حروبهم. كنا ندافع عن الأرض والعرض. ونسترد كرامتنا وإنسانيتنا. ونحترم تاريخنا، ونقول له إن الجيل الحالى لا يمكن أن يكون أقل من الأجيال السابقة. وأن إضافته التى تمت فى أكتوبر ١٩٧٣، لا تقل أهمية عن الحروب التى أنتجوا هذه الأفلام عنها.
الذى أكتب عنه اليوم وأحلم به عمل فنى يتجاوز حدود الزمان والمكان. ليس فيلماً يُعرض ويوضع فى الأرشيف. ولا مسرحية نراها وننساها. ولا لوحة نتوقف أمامها لحظة ثم تتوه من الخيال. لكنه عمل يتم إبداعه ليبقى أبد الدهر.
بعد ثلاث سنوات من الآن تكمل حرب السادس من أكتوبر ٥٠ عاماً من عمرها. وأتمنى أن نستعد من هذه اللحظة لإنتاج أكثر من عمل فنى لتُعرض فى هذه المناسبة التى لا تتكرر كثيراً فى حياة الشعوب. فهل نستعد من الآن؟! هل نفكر منذ هذه اللحظة؟! لا أريد تشكيل لجان، فاللجان قد لا تُنجز. والمثل المصرى يقول: إذا أردت أن تقتل أمراً شكّل له لجنة. ولكنى أراهن على الخيال الوطنى الذى تحركه علاقتنا ببلادنا. وهى أكثر بلاد الأرض التى لا تملك إلا أن تحبها. حتى لو لم تكن من أبنائها. فما بالك إن كنت قد شربت من مياه نيلها. وشعرت بالأمان لأن جيشها يحميك. فى كل لحظة تمر عليك فى حياتك.