أعتقد أن كل فترة طويلة مظلمة بائسة كانت تكسرها دائما فترة
قصيرة جداً مشتعلة بالنور، تحمل فيض من الفرح والأمل، "أكتوبر ٧٣" من
أهم نقاط الضوء في التاريخ الحديث لمصر والعرب، والفضل لتضحيات الإنسان المصري
البسيط وقوة إرادته -الجنود الأبطال الغلابة- دخلوا الجيش المصري في ظروف لا تتكرر
-بدون تمييز- لحرب النصر فيها رفيق الخيال.
ربما تمدد الظلام واستقر فوق تاريخ بلادنا مئات السنين،
يقول "نجيب محفوظ" في رواية يوم قتل الزعيم «نحن قوم نرتاح للهزيمة أكثر
من النصر، فمن طول الهزائم وكثرتها ترسبت نغمة الأسى في أعماقنا، فأحببنا الغناء
الشجي والمسرحية المفجعة والبطل الشهيد»..
يقول "إدوارد سعيد" إن الإلهام الأساسي لمؤلفاته الشهيرة عن
الاستشراق كان عبور وانتصار (أكتوبر ٧٣)، مشهد عبور الجيش المصري على الشاشات
الغربية (كان يعيش في أمريكا كمهاجر في ذلك الوقت) كان غير مألوف وغير متوقع،
فيقول إن «الدفعة المعنوية الهائلة لانتصار جيش عربى على اليَهُود كانت الدافع
الرئيسى وراء التفكير فى كتاب الاستشراق».
يعد "سعيد" أحد أهم المثقفين العرب، وواحداً من أهم عشرة
مفكرين في العالم تأثيراً في القرن العشرين. وهو من الشخصيات المؤسسة لدراسات ما
بعد الاستعمار، وكانت لمؤلفاته تأثيرات في مجال نظرية الثقافة والدراسات الثقافية
والجغرافيا البشرية وعلى دراسة التاريخ ودراسات الشرق، كما كان ذا تأثيرات عميقة
على كافة أطياف العلوم الإنسانية، ويخلص "سعيد" إلى أن الشخصية الغربية اعتبرت
الشرقيين غير عقلانيين، انفعاليين وضعفاء ومخنثين، على عكس اعتبارهم الشخصية الغربية
عقلانيةً وقويةً وفعالةً ورجولية.
الانهزام النفسي يهلك الإنسان والأمم في سكون وصمت، فلا
تسمع لهم ركزا، كأنه الإطمئنان إلى استصغار النفس واستذلالها وانكسارها أمام
أعدائها. والأمة المهزومة نفسيا لا تنتصر أبدا، فهم في أنفسهم أصغر وأحقر من أن
يقفوا في وجه أعدائهم، فالنصر حليف الجد والمثابرة، ولم ينتصر الإنسان المصري في
المعركة إلا بعد انتصاره نفسيا في معارك الاستعمار التي صارت أكثر دناءة؛ تستهدف
السيطرة على وجدان الشعوب، واستعمارهم ثقافيا قبل استعبادهم، فالهزيمة النفسية
مقدمة للهزيمة العسكرية، واحتلال الأرض يأتي بعد احتلال العقل والقلب، وساعتها
يتذوق الإنسان ذل الاستعباد الحقيقي بعد الاستعباد الفكري والثقافي.
لذلك لم يكن عبور القناة نحو الشاطئ الشرقي مجرد إنجاز
عسكري وبداية انتصار، بل كان شعلة من النور والأمل وسط الظلام واليأس، بدأ بثقة
الإنسان المصري في نفسه، وانتصاره على الخوف، وانتهى بانتصار أمة قديمة معقدة
التكوين، استطاعت كسر شوكة غرور الغزاة، وتحقيق المستحيل الذي أبهر العالم كله
واعاد تشكيله وصنع صورة جديدة للشرق.