عبدالناصر وفلسطين.. المسكوت عنه في عالم نجيب محفوظ
الاقتراب من أديب نوبل يشبه السير فى
حقل ألغام، سلبًا أو إيجابًا، فالرجل سيرته وأعماله يعرفها القاص والداني، ويتحدث بها
الركبان.
نجيب محفوظ الذى تألق فى الرواية
العربية الطويلة، وكتب القصة القصيرة، وشارك فى صناعة السينما والوجدان المصرى
لعقود متعددة، الاقتراب من أدبه وفتح ملفات المسكوت عنه يحتاج انضباط بالغ.
فنجيب محفوظ الذي ولد فى 1911، أى أنه حينما قامت ثورة 1919 لم يكن قد بلغ عمره الثمان سنوات، ولكنه يصف نفسه بأنه
من براعم ثورة 1919م. فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها، وشبابها الذين اشتركوا
فيها، فأنا من البراعم التي تفتحت وسط لهيب الثورة وفي سنوات اشتعالها، ولم يكن
عمري حين قامت ثورة 1919م يزيد على سنوات سبع .
ورغم أنه ظل يردد انه ليس له علاقة
بالسلطة ولا بالسياسة ظل مؤيدا لثورة 1919م، وبعيدا عن الثورة التى عاينها وعاشها
وهو ابن أربعون عاما!!
محفوظ الذى قال إنه لا يحب السياسة
كان عضوًا فى حزب الوفد، وكان كما يقول ليبراليا، وبكى سعد غلول بعد موته لأنه زعيم
الأمة، والوفد بيت الأمة.
ولكن رأى فى عبد الناصر مشروع عظيم
وديكتاتورية لا تغتفر ربما لم يرتبط "محفوظ"، بثورة يوليو والرئيس
الأسبق جمال عبد الناصر، كما ارتبط بحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول، فرغم اعترافه
بإنجازات "ناصر" التاريخية .
ويقول فى مذكرات "أنا نجيب
محفوظ": "عبد الناصر غير الحياة من جذورها، لقد حرر هذا الشعب من الإقطاع،
وأصحاب رءوس الأموال المستغلين.. وأنا أعترف أن أكبر نصير للفقراء فى تاريخنا كان
جمال عبد الناصر"، وتابع: "المصيبة الوحيدة فى حكم عبد الناصر هى تأجيل
ممارسة الديمقراطية، لقد طلب من المصريين اعتزال السياسة فتحول المصرى من كائن
فعال منتم إلى سلبى متفرج".
وهو نفس الأمر الذي أكد فيه خلال لقاء تليفزيونى قديم مع الإعلامي مفيد
فوزى، أن الخطأ الأكبر الذى وقع فيه النظام الناصرى، هو الديكتاتورية، واصفًا
إياها بأم الكبائر، مشيرًا إلى أنها قضت على أى عمل جيد قام به الرئيس الأسبق،
وقضت عليه هو نفسه.
وقد ذكر فى مذكرات "أنا نجيب
محفوظ" بسبب الديكتاتورية مات عبد الناصر مرتين: مرة فى ٥ يونيو، ومرة في 28
سبتمبر.
وفى المقابل، يقول عن السادات "أما
بالنسبة لعهد الرئيس أنور السادات، فأنا أعتقد أن السادات، أدى خدمة جليلة لمصر فى
مجال دعم الديمقراطية، وتحقيق نصر أكتوبر رغم الموافقة على مسعى السلام"..
هكذا كان يرى تحدث الأديب الراحل عن الرئيس أنور السادات إذ أنه يرى أن السادات
حقق إيجابيات عديدة قائلاً أيضًا: "السادات إيجابياته أنه أعاد الشعور بالأمن
للمواطن واتجه اتجاهًا ما نحو الديمقراطية بتعدد المنابر والسماح بوجود الرأى
الآخر وحقق إنجازين فى رأى يجب أن تذكرهما مصر هما "أكتوبر والسلام".
ظلت المسافة بين محفوظ وجمال عبد
الناصر مسافة كبيرة، مسافة حددها محفوظ نفسه بسبب أن عبد الناصر أجل التطور الديمقراطي
وكان حاكم ديكتاتورًا.
وحينما نراجع دفتر أعمال محفوظ فى
أول أعماله بعد الثورة، سنجد أن أول هذه الأعمال كان (( أولاد حارتنا).
وفي هذه الرواية التي كتبها نجيب
محفوظ بعد توقف خمس سنوات عقب ثورة يوليو/تموز 1952 انتهج أسلوبا رمزيا مختلفا عن
رواياته السابقة.
وكانت أحداث الرواية تدور حول الأب
الكبير الجبلاوي مالك الحارة وصاحب الكلمة العليا فيها، والذي كان الانطباع بأنه
يرمز إلى الله، مع أولاده: أدهم هو تمثيل لشخصية آدم وإدريس هو إبليس، وجبل في دور
موسى ورفاعة كتمثيل لشخصية عيسى والقاسم يرمز لمحمد، وفي الفصول الأخيرة للرواية
يموت الجبلاوي حزنا نتيجة تمرد أبنائه عليه بمساعدة عرفة الذي يرمز للمعرفة.
اعتبر خصوم محفوظ موت الجبلاوي دليلا على عدم
إيمانه عندما أقدم في روايته على قتل الإله، بينما اعتبر مؤيدوه أن هذا دليل
براءته وأن الإسقاطات الرمزية في الروايات لا تعني تقمص كامل الشخصية، واستدلّوا
على ذلك من قيام قدري الناظر الذي يرمز للشر بقتل عرفة عندما حاول الهرب منه،
وقالوا كيف يمكن قتل العلم أو المعرفة حسب الذين يريدون قراءة النص حرفيا.
نشرت الرواية على شكل سلسلة في جريدة
الأهرام عام 1959، وحينما نقول الأهرام فإننا نقول محمد حسنين هيكل أي أن الأهرام
كانت جريدة الثورة ورئيس تحريرها هو الناطق الرسمى باسم الثورة واسم جمال عبد
الناصر .
ومع تطورات أحداثها بدأت اعتراضات
رجال الدين على محتواها. فالشيخ محمد الغزالي قال عن الرواية إنها إلحاد وعبث
بتاريخ الديانات وإنها تقول إن الله خرافة وطالب بمصادرتها. وألف الشيخ عبد الحميد
كشك كتابا يهاجم فيه الرواية لأنها نزعت القداسة عن الأنبياء وجعلتهم مصلحين
اجتماعيين، كما هاجم نجيب محفوظ "لما يحملون من حقد دفين على الإسلام".
ومع هذا لم يصدر أى قرار سياسى أو
رقابى يمنع من طبع او نشر الرواية فى مصر ولم يحال محفوظ الى اى جهة تحقيق او
مسائلة، وطبعت الرواية عام 1962 فى بيروت .
محمد سلماوى فى كتابه (فى حضرة نجيب
محفوظ) يقول أن عبد الناصر قام بحماية محفوظ من تشدد ”بعض شيوخ الأزهر“ بعد نشر
رواية (أولاد حارتنا) مسلسلة في صحيفة الأهرام عام 1959 وقال عبد الناصر ”لن أتخذ
أي إجراء ضد نجيب محفوظ“.
فهذا هو الدكتاتور الذى غيب الشعب
وغيب حرية الرأى!!
وفى مقابل ناصر الدكتاتور عند محفوظ
فهناك سعد زغلول الليبرالى نصير الحرية، ولنا أن نسأل سؤال كيف تعامل سعد زغلول مع
مثقفى عصره مثل طه حسين ؟
وللحديث بقية...