كانت المسألة المصرية المحور الأساسي والبنية العميقة لأعمال جيل الرواد، ولن نبالغ إذا قلنا إن الحبكة الرئيسية لهذه الأعمال هي مصر في صور متعددة، فلم يستيقظ المصريون فجأة في مارس 2019 ليجدوا أنفسهم تحت نير الحكم العثماني والاستعمار البريطاني فيصرخون عاشت مصر حرة مستقلة، بل كانت هناك مقدمات بدأت في ثورة القاهرة الأولى، أولى الثورات الشعبية في العصر الحديث للمصريين، لتمتد وتكون نواة اليقظة الشعبية التى حملت محمد علي على أريكة الحكم المصري رغم أنف الباب العالي، وظلت تنمو حتى راحت تجني ثمار هذا الوعي في الثورة العرابية وما حققته من نجاح على المستويين السياسي و الاجتماعي، رغم إخفاقها عسكرياً، إلا أنها كانت بداية الدعوة الخالدة "مصر للمصريين".
وأكمل مصطفى كامل المسيرة، ومن بعده محمد فريد النضال الوطني وصولا لهذه اليقظة التى كان لها الأثر الكبير في نهضة الفكر المصري الحديث، فلم يكن النضال السياسي وحده سلاح المصريين في هذه المعركة منذ أن واجهوا مدافع بونابرت بصدور عارية وصولاً إلي رصاص الإنجليز في ثورة 1919، بل كانت الثقافة بكل تجلياتها السلاح الأقوى في هذه المعركة.
وسوف أتناول أربعة نماذج من رواد الفكر المصري الحديث على سبيل المثال، لقراءة هذه الفكرة، أي كيف تناول هؤلاء المسألة المصرية وقتذاك في أعمالهم رغم اختلاف أفكارهم وأصولهم .
سارق النار
البداية من هذا الشيخ صاحب الفكر المتقدم الذي تعجز عن حمله ثقافة اليوم رفاعة رافع الطهطاوي، والذي أصبح بمفرده مؤسسة ثقافية حين حمل على عاتقه إخراج مصر من ظلام الحكم العثماني إلى نور المعارف الحديثة، فكتب في كل المجالات، الاجتماع والسياسة والتربية والأدب والجغرافيا والعلوم العسكرية، لقد ذهب الطهطاوي إلى باريس باندفاع جامح لكسر أغلال التأخر التى كان يشعر أنها تقيد هذه الأمة، فراح ينهل من العلوم والمعارف ويسجل كل ما يشاهده في المجتمع الفرنسي، حتى أننا لن نبالغ إذا قلنا إن كتابه الأول الذي نشره عام 1834 "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" بمثابة وصف باريس في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فكما عكف علماء الحملة الفرنسية قبل ربع قرن من سفر رفاعة إلى باريس على دراسة أحوال المصريين، عكف هذا الشيخ المستنير بمفرده على دراسة أحوال المجتمع الفرنسي، وبداخله هذه الرغبة الجامحة في نقل أسباب التقدم إلي مصر المحروسة، فمنذ أن وطئت قدماه أرض الفرنسيس وبالتحديد ميناء مرسيليا عام 1826، محملاً بوصايا شيخه وأستاذه العالم المتنور حسن العطار، عاقدًا العزم ليس فقط على أن ينهل من المعارف الحديثة، ولكن أن يسجل مشاهدته في باريس، وأن يرصد أحوال المجتمع ليخرج في النهاية بتخليص الإبريز ليكون الكتاب بداية لتأسيس النهضة الثقافية الحديثة في مصر، واستحق صاحبه أن يكون بشير التقدم.
لقد عاش رفاعة الذي ولد في طهطا عام 1801 ما يقرب من ثلاثة وسبعين عامًا أنفقها بكاملها في سبيل تقدم هذه الأمة، فقد نزح إلى القاهرة عام 1817 للدراسة في الأزهر، وبعد تسع سنوات كان الشيخ القادم من أعماق الصعيد يركب البحر في طريقه إلى الحضارة الحديثة، في طريقه إلى العلوم الطبيعية التى غابت عن مصر أربعة قرون بعد أن أغلق العثمانيون كل أبواب التقدم في وجه الأمة المصرية وعادوا بها إلى عصور الظلام، وبعد عودته راح يصل الليل بالنهار على مدى أكثر من أربعة عقود في الكتابة والترجمة وإنشاء المدارس، والمجلات، فبعد عودته أنشأ مدرسة الألسن عام 1836، ويذكر المؤرخون أنه خلال عشر سنوات فقط تخرج فيها أكثر من مائة مترجم على أيديهم تمت ترجمة أكثر من ألفي كتاب في شتى المجالات راجعها الشيخ بنفسه، وحين أغلق عباس الأول مدرسة الألسن ونفى رفاعة إلى السودان، عكف هناك على ترجمة رواية "تليماك" واهتم بتربية وتنشئة شباب السودان، لقد كان مؤسسة قائمة بذاتها، فهو المترجم الأول الذي أسس مدرسة الألسن وترجم العديد من الكتب، وهو رئيس تحرير أول مجلة ثقافية مصرية وهي "روضة المدارس" وتولى رئاسة تحريرها من 1870 وحتى رحيله عام 1873، ومن قبل كان قد تولى رئاسة تحرير الوقائع المصرية عام 1842، وظل يشغل هذه الوظيفة حتى نفيه إلى السودان عام 1849، وبعد أن كانت تكتب بالتركية وتترجم إلى العربية في نفس العدد، وحين تولى رفاعة رئاسة التحرير، أصبحت الجريدة تكتب الموضوعات بالعربية ثم تترجمها إلي التركية، وهو أول من نادى بتعليم البنات وساهم في إنشاء أول مدرسة لهن، وجاء كتابه "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين" لدعم هذه الفكرة، فدائمًا لديه الرغبة في تجديد الحياة الفكرية في مصر، الحياة التى تم تجميدها على مدى أربعة قرون بفعل فاعل، فقرر أن يتصدى وحده لهذه المهمة، واستحق أن يكون أبًا للفكر المصري الحديث، فهو أيضًا أول من انحاز إلى الديمقراطية والليبرالية، وأكد على أهمية القومية المصرية وضرورتها الملحة في تلك المراحل.
رائد المسرح المصري
على رأس قبر رائد المسرح المصري يعقوب صنوع في مونبرناس في باريس مسلة مصرية صغيرة وصورة برونزية مستديرة تحت سعفة نخيل مع نقش محفور أسفل الصورة بعمره واسمه والأوسمة التى حصل عليها، وهو القبر الوحيد في هذا الجزء الذي لا يحمل نعيًا بالعبرية، لكنه وضع على رأسه مسلة فرعونية في إشارة لا تخلو من دلالة واضحة وقوية على حبه وإخلاصه لهذا الوطن؛ هذا ما يتعلق بموته، أما حياته فبذلها من أجل مصر مسرحيًا وصحفيًا ومقاومًا للاستبداد، عاش ومات يهوديًا على ديانة آبائه، بعد أن حفظ القرآن ودرس الإنجيل وعاش حياته يحترم الأديان الثلاثة، ولكن كانت مصر في المقام الأول، العقيدة والوطن، حيث كان لصنوع جرأة يُحسد عليها في الهجوم وخوض المعارك مع شخصيات قوية في الدولة المصرية وقتذاك من رأس الدولة الخديو إسماعيل مرورًا بنوبار باشا وغيره من الكبار وصولاً إلي أصغر موظف يمارس الظلم على المواطن المصري، فلم ينجُ أحد من لسانه فقام بتشخيص الجميع وفضحهم والسخرية منهم في اللعبات التياترية، سواء المصورة والمنشورة في الصحافة، أو التى قدمها على خشبة المسرح.
شخصيات يعقوب صنوع التى تدور حولها أعماله سواء الدراما الصحفية أو المسرحيات الصحفية المصورة المسماة بـ "اللعبات التياترية"، مجموعة من الشخصيات التى يستعيرها من الواقع ويمنحها أسماء وصفات رمزية، فالخديو إسماعيل شيخ الحارة أو فرعون، أو أبوالسباع صراحة، كما كان إسماعيل يطلق على نفسه، ونوبار باشا أصبح غبار باشا، وروتشيلد المرابي اليهودي سلطان الكنوز، وقدمه في لعبة خاصة يجب أن نتوقف أمامها كثيرا، فهي تدل علي وعيه ووطنيته، وحتى العائلة الخديوية لم تنجُ من لسانه ونقده، فالوالدة باشا " ممحونة هانم " وإحدى بناته خيالة هانم، بالإضافة إلى خلخال أغا وآخرين؛ ولذلك كان من الطبيعي أن تتعدد الأسباب التى أدت إلى إغلاق مسرحه، ليس فقط لخلافه مع الخديو إسماعيل بعد مسرحية "الدرتين"، حين استدعاه الخديو متهكما وقال له " إن لم تكن في صلابة العود بحيث ترضي أكثر من زوجة فلا ينبغي أن تثير نفورالآخرين"، إضافة إلى مناداته بالحرية والعدالة في مسرحية "الوطن والحرية "، التى سخر فيها من فساد القصر وكشف النقاب عن مظالم شيخ الحارة، وهاجم الأفغاني، رغم أنه كان من مريديه، وعلل رفضه للماسونية بأنه لا يستطيع الابتعاد عن السياسة، ففي شعارات الماسونية عدم التدخل في السياسة والديانة، وهاجم علي مبارك رجل السلطة القوي في تلك المرحلة، وقال إنه نهب الأطيان وخرّب الجوامع.
وبشكل عام جاءت اللعبات التياترية التى قدمها صنوع انعكاسًا للحياة الاجتماعية والسياسية للمصريين في ذلك الوقت ليجسد من خلالها معاناة الفلاح واستغلاله وطغيان الحكام، بل وتصدرت الأحداث التاريخية مثل الثورة المهدية أعماله، والأهم أنه حاول بشكل كبير الاستفادة من الظواهر المسرحية ومفردات التراث الشعبي المصري، والحكاية التراثية الشهيرة "هز القحوف في قصيدة أبي شادوف" نموذجًا في لعبة " الواد المرق وأبو شادوف " و"القرداتي " وبالوظة أغا وعدالته وجرسة إسماعيل" وغيرها، ليرسم صورة معبرة ليس فقط للفلاح المصري، معبرًا عن معاناته، بل للواقع المصري، إضافة إلى محاورات ونوادر "ولاد البلد".
الكاتب المصري
كان توفيق الحكيم يحبس نفسه في غرفة صغيرة في باريس، وبالتحديد في شارع بلبور يقرأ ويأكل رغيفاً محشوًا بالجبن هو كل طعامه اليومي، فقط يقرأ ويرتاد المسارح وحفلات الموسيقى في عشرينيات القرن الماضي، ويسأل نفسه ويسأل الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين والأدباء عن الشخصية المصرية، يفتح نافذته فلا يرى باريس التى يسكن فيها بل يرى مصر، ثم يكتب واحدة من أجمل القصص المصرية التى جمعت بين الفصحى والعامية المصرية الخالصة من كل الشوائب" العوالم " مشفوعة بإهداء" إلى الأسطى حميدة الإسكندرانية أول من علمنى كلمة الفن " في باريس، وكلما زاره الدكتور حسين فوزي قرأ له قصة العوالم وركب كلاهما القطار مع الأسطى حميدة وفرقتها، مع نجية الرقاقة وسُلم الطبالة ولابس البنش.
كانت قضية توفيق الحكيم هُوية مصر، وحين عاد من رحلته الطويلة كتب مسرحية "أهل الكهف" 1933، وهى أول حدث مسرحي مصري، والمرة الأولى التى يصعد فيها الأدب المسرحي المصري بكامل هيئته إلى خشبة المسرح، وهناك كان يبحث عن الشخصية المصرية، ورأى أن مصر الحية تتكون من حلقات عمرها الطويل من تيارات فكرية شتى في عهود متباينة من الوثنية إلى المسيحية إلى الإسلام، ويؤكد أن شخصية مصر في تكامل ملامحها ومسار تفكيرها عبر القرون، وأهل الكهف مأخوذة عن القرآن في موضوع مسيحي، وعن تفكير في الزمن الوثنى، فكان يحاول ربط حلقات هذه التيارات الفكرية في العصور الثلاثة ، ولم يختلف الأمر كثيرا في رواية "عودة الروح"، التى أكد فيها على قدرة هذا الشعب علي التقدم والنهوض، فهي قراءة عميقة في الشخصية المصرية بكل تجلياتها، الفلاح وابن البلد والأفندي ابن الطبقة الوسطي وابن البلد والفتاة التى ترمز لإيزيس.
وكان توفيق الحكيم يعي جيداً وضع مصر، أو المسألة المصرية في تلك الفترة، ليذكر بعد سنوات في كتابه "بين عهدين" ما حدث بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، أو الرجل المريض، حين ذهب زعماء مصر يسألون الإنجليز عن وضعهم، ويصف الحكيم هذه اللحظة كمشهد درامي، فسألهم الإنجليز عما يقصدون فقالوا : زوال الاحتلال البريطاني، فسألهم الإنجليز: وماذا بعد الاحتلال هل تعودون إلى الدولة العثمانية المنهزمة؟ فقال الزعماء: بل نعود إلى مصر، فدُهش الإنجليز وسألوا ما هي مصر؟ فإننا لا نعرف شيئاً اسمه القطر المصري .
شاعر الشعب
في شعر بيرم التونسي ليس فقط تاريخًا وجغرافيا، سياسة، عادات، تقاليد، بل تشاهد فيها الشوارع والحارات والبيوت، بل وسكانها من الداخل وملابسهم وطعامهم والأثاث والحيطان وأحزانهم وضحكاتهم، فقد رسم بيرم التونسي صورة حية، بل قل مئات الصور الوصفية، والمشاهد الدرامية للمجتمع المصري في كل جوانبه، رسمها بالكلمات من خلال انفعاله بتفاصيل الحياة اليومية، فمن يقرأ شعر بيرم التونسي يمكنه دراسة الأزياء التى كان يرتديها المصريون على اختلاف الطبقات الاجتماعية التى ينتمون إليها في ذلك الوقت، كما يمكنه أن يتعرف على أنواع الأطعمة وطريقة تناولها، وأيضاً العادات والتقاليد في الزواج والطلاق والأفراح والأحزان، حيث أخذ على عاتقه منذ أول قصيدة كتبها " المجلس البلدى " تسجيل أمراض المجتمع المصري، ورصد مشاكل المواطن وهمومه، فلم يترك وظيفة أو حرفة أو ظاهرة إلا تناولها في شعره . "شاعر في الشعر متين، يعمل أشعارًا لبرابرة، وصعايدة وفلاحين، وتلامذة وأزهرية وخواجات ومفتشين"، لم يكن بيرم يستطيع أن يعيش إلا في مصر، وظنى أن معاناته في فرنسا لم تكن من شظف العيش بقدر ما كان سببها الرئيسي البعد عن مصر، عن مصدر إلهامه، فحين كان يكتب عن باريس يتذكر شوارع مصر وشخصياته الشعبية، وشعره الأجمل عن مصر وعن هذه الشخصيات.
هذا هو بيرم التونسي، الذي كتب أجمل قصيدة قرأتها عن الوحدة الوطنية بين المصريين حين نشر شخص اسمه " قلدس جرجس" طعناً في الإسلام، فلم يهاجمه بيرم ولكن لقنه درسًا عظيمًا وقال له :" من عهد مالقرآن هبط نزل هنا عمرو ربط بيننا وبينكم يا قبط عهود وداد متسجلة، أبويا ناسب بسخروس واسم خالى جرجيوس وجد أمي فلتاؤس وأنا اسمى طه أبو العلا ".
ويشرح بيرم لهذا الشخص أواصر الوحدة بين المصريين ويخبره في نهاية القصيدة قائلاً "أنت صحيح راجل عويل يا نطع ولسانك طويل، تشتم نسايبك يا رزيل يقطع لسانك والغلا أي الغلاء !". وهكذا كل ما فعله بيرم أن أخبر هذا الشخص بأنه ليس في مصر سوى مصريين فقط.