مصر للمصريين.. الخطر الذي يحاربه الإسلاميون
رصد أحمد عبدالله رزة في كتابه «الطلبة والسياسة في مصر»، ظاهرة مهمة جدا أطلق عليها اسم «إسلام الأفندية»؛ حين تحدث عن الطالب الجامعي الذي تقمص شخصية المعمم الأزهري، تاركا العلوم الاجتماعية والتطبيقية التي يدرسها، منشغلا بالدعوة إلى الاسلام. ورصد رزة هذه الظاهرة في إطار حديثه عن جماعة الإخوان، ودورها في الحركة الطلابية، في رسالته للدكتوراه التي ترجمتها للعربية إكرام يوسف. لكن عبدالله رزة في كتابه رصد أيضا كيف تسببت جماعة الإخوان في قتل الحركة الطلابية أحيانا، بالعمل ضدها؛ كما حدث في انتفاضة 1946، حين تخلى طلبة الإخوان عن مظاهرات طلاب الجامعة ضد الاستعمار؛ لاعتراض الجماعة على تولى امرأة للجنة التي أسسها الطلبة، حيث انُتخبت الطالبة اليسارية ثريا أدهم لرئاسة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في ذلك الوقت، وكان تخلي الإخوان عن التحالف مع طلبة اليسار متسقا جدا مع رؤيتهم للمرأة، النابعة من تفسيراتهم الدينية لنظرة الإسلام للمرأة.
حديث رزة ليس بمعزل عن انشغالات تلك المرحلة، الخاصة بالصراع القائم بين الفكرة الدينية، والأفكار القومية والوطنية، والتي كانت الشاغل الأكبر في تاريخ مصر المعاصر، والمصاحب لظهور مصطلح مصر للمصريين، الذي اعتبره المؤيدون للخلافة العثمانية تمردا على مصطلح الخلافة الإسلامية. من هنا بدأت خيوط الأزمة، ممتدة آثارها حتى اليوم، والتي تلمسنا خيوطها، مع ظهور تنظيمات القاعدة وداعش، وذوبان مفهوم الوطنية والدفاع عن الأرض، في صالح الأممية الدينية، ومصطلح الجهاد في سبيل الله، الذي يجتمع تحت لوائه رجال من وطنيات مختلفة، في سبيل السيطرة على أرضا ليست بأرضهم. ولا ننسى مشهد حرق مقاتلي داعش لجوازات سفرهم، معتبرين مفهوم الوطنية بدعة تخالف وحدة المسلمين القائمة على الدين واللغة، وأن مفاهيم الوطن مسميات اكتسبها العرب أثناء فترات الاحتلال.
الحديث عن نشأة الجماعات الإسلامية يبدأ مع الاحتلال الفرنسي لمصر، واكتشاف حجر رشيد، والكشف عن ألغاز الحضارة الفرعونية التي كانت مجهولة للجميع حتى ذلك الوقت، خرجت الحملة الفرنسية من القاهرة لكنها تركت في نفوس الناس إحساسا مختلفا بقوميتهم ومصريتهم، دفعهم لاختيار حاكمهم رغما عن إرادة الباب العالي في اسطنبول، حين دفعوا بمحمد على لكرسي الحكم.
بعثات أرسلها محمد على لأوروبا عادت وهى تحمل معها بذور الفكرة الوطنية، وضح ذلك دكتور محمد صبري السوربوني في أطروحته للدكتوراه، بعنوان «نشأة الروح القومية المصرية»، والتي رأى خلالها، أن نشأة هذه الروح، تعود بجذورها إلى عصر محمد علي، الذي كان يخطط لتأسيس أسرة حاكمة ودولة عظمى مستقلة، ومن ثم، فإن عبقريته تمثلت في إدراكه للعلاقة بين إنشاء جيش عصري مصري، وبين أسس الدولة القومية. وهذه الرؤية وفقا لما قدمه السوربوني في أطروحته، حيث أعد محمد علي للبلاد جيشا لكي تنشأ فيها روح قومية وتستعيد عزتها وثقتها بنفسها.
هذه الرؤية القومية التي ظهرت بوادرها مع عصر محمد علي، وتأصلت أسسها في عصر إسماعيل، ظهرت في أجواء دولة ظل الاتجاه الإسلامي يسود مسرح الحياة الفكرية والسياسية فيها وبلا منازع منذ الفتح الإسلامي، حتى مجيء الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وأدى ظهور الفكرة الوطنية والقومية إلى أن تنشط فكرة الدولة الإسلامية؛ كنوع من رد الفعل كما أورد بالتفصيل الدكتور زكريا سليمان بيومي فى أطروحته للدكتوراه بعنوان «الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية ( 1928 – 1948)».
نظرة أشمل لهذه الفترة من تاريخ مصر الحديث توضح خلفيات دعوات جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، ورفاعة الطهطاوي، وغيرهم، والتي تبادلت الأدوار بين مطالب بوحدة إسلامية مثل جمال الدين الأفغاني، هذه الدعوة التي شجعها السلطان عبد الحميد الثاني، الساعي لتوحيد الشعوب الإسلامية تحت لواء الخلافة العثمانية حتى يتمكن من التصدي للغرب، وبين دعوات الوطنية والروح القومية، التي بدأت مع أول مصري يزور فرنسا (1826 – 1831) رفاعة الطهطاوي، وكان من أول كتاباته قصيدة وطنية بمدح الحاكم سعيد باشا سنة 1855، ثم جنوح الطهطاوي إلى فكرة القومية المصرية.
فكانت جميع الدعوات الفكرية والفلسفية في ملامحها على المجتمع المصري والعربي والإسلامي مع فترات الاحتلال، لكن بمرور الوقت، ومع ظهور أجيال متعاقبة، أصبح الجميع يدافع عن فكرته كل في مكانه، دون أن يدرك غالبيتهم أصل المشكلة
ظهرت حركة الاخوان المسلمون كرد فعل لسقوط الخلافة العثمانية مثل العشرات من الجماعات الدينية التي ظهرت في تلك الفترة وأيضا كرد فعل للدعوات القومية والوطنية التي بدأت تتحدث عن مصر كوحدة مستقلة بعيدا عن سيطرة الأتراك وأننا دولة لها تاريخ عريق امتد لما قبل الفتح الإسلامي لمصر بـ آلاف السنين.
جمعية الإخوان المسلمون التي أسسها الشاب حسن البنا عام 1928، ووضع القانون الأول لها سنة 1930، ليعتبر هذا التاريخ البداية الفعلية لجماعة أفرزت معظم الجماعات المتطرفة، بداية من تنظيم «شباب محمد» في الأربعينيات، وحتى تنظيم «القاعدة» و«داعش» في الألفية الثالثة. سواء بالدعم المباشر أو التغذية الفكرية والحركية للجماعات المتطرفة. ومنذ اللحظة الأولى كان هدف الجماعة واضحا؛ محاولة إحياء الخلافة الإسلامية، التي ماتت بسقوط الدولة العثمانية، وهذه المحاولة وضع لها البنا ثلاثة أجيال أو ثلاث مراحل لتطبيقها، الجيل الأول: «جيل التكوين»، وفيه يعمل على تجميع القواعد الإخوانية والجماهير التي ستعينه على بقية المراحل، والثانية: «جيل التنفيذ»، والثالثة: «جيل الانتصار».
والجماعة ليست عشوائية في تأسيسها أو صعودها، فالبنا في رسائله لم يترك صغيرة أو كبيرة خاصة بدولته الإسلامية التي يطمح إليها إلا وذكرها، وتقوم ردود أفعال الإخوان على حسب المرحلة التي يمرون بها، فمرحلة التكوين تفسر تحالف الإخوان مع الأنظمة الحاكمة في مراحلها المختلفة، منذ أيام الملك فاروق، مرور بالرؤساء، محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك. وذلك من باب التقية أو تماشيا مع المرحلة التي تقف على أعتابها، فمرحلة التكوين لا تحتمل صدامات مع الآخر، ومع الوضع في الاعتبار أن الجماعة تم حلها أربع مرات متتالية، وأودعت السجون لفترات طويلة، فإن المراحل الثلاثة بالتالي تم تكرارها مرات أربع، وفي كل مرة تكون الجماعة على أعتاب مرحلة التكوين تصبح مهادنة الأنظمة الحاكمة وحتى الحركات السياسية والفكرية الأخرى العاملة على الساحة مهمة، لأن التكوين لا يستلزم اشتباك أو سعي للانتصار.
يظهر بالتالي أن المعركة منذ اللحظات الأولى للجماعات الدينية المتطرفة وضعت نصب أعينها رفض فكرة مصر للمصريين ونشأة الروح القومية التي تعتز بهويتها، وهى أصل المعركة الممتدة حتى اليوم، بين رجال يدركون معنى الوطن، وآخرون يبذلون كل ما في وسعهم لمجرد أن تصبح مصر ولاية في وهم الخلافة التركية.