لم يغب مفهوم الهُوية المصرية في وجدان المصريين على مر التاريخ، وذلك لأن مصطلح الهُوية يعني في أبسط تعريفاته (السمات والمبادئ والمشخصات التي تميز الأنا عن الأغيار)، وبمعنى آخر هي خصال الذات، وقد انتقل هذا المفهوم في بنية العقل الجمعي المصري من دائرة الظهور إلى دائرة الكمون تبعًا للأوضاع الثقافية والحضارية والتاريخية والدينية والسياسية.
فالهُوية المصرية في كنف الفراعنة كانت ساطعة سطوع الشمس، وقد صبغ المصريون ثقافتهم بداية من اللغة إلى الآداب والفنون وحضارتهم وعلومهم، بل والفكر الوافد من الحضارات المجاورة بتلك الهوية التي تميزت بها عن سائر القوميات والشعوب،أما في عصور انكسارها حيث الاحتلال الروماني ثم الفارسي والعربي والتركي والإنجليزي، فقد انتقلت الهُوية المصرية من دائرة الظهور إلى دائرة الكمون، ورغم ذلك فلم يستطع الأغيار ولا الثقافات الوافدة طمس تلك الهوية أو تبديد مشخصاتها، بل العكس تمامًا فقد نجح المصريون في هضم الوافد بعد غربلته ثم تمصيره، وكان معيار انتقائهم من سائر الثقافات هو الثابت التليد من بنية مشخصاتهم (التسامح العقدي، التفكير الناقد المفعم بالسخرية والضحك، الصلابة والإصرار على بلوغ الهدف عند الشدائد، الإيمان بفلسفة الممكن والتحايل في التفكير والسلوك، الاعتزاز بالأنا ورفض الخنوع والانكسار، نقاء السريرة وجميل الطباع وعلى رأسها الحياء والعفة والقابلية دومًا للتعلم والابتكار والصبر على الشدائد).
وحسبنا ألا نستفيض في الإتيان بالأدلة التي تثبت ما قدمناه، فالهُوية المصرية لم تتبدل رغم اختلاط أعراق الفراعين ودمائهم بجنسيات شتى وبقوميات مختلفة وبأمم متباينة في المنبت والسلوك؛ وإنني أؤكد أنه من الخطأ الاعتقاد القول إن خطاب "نابليون (1767-1821م)"الذي خاطب به المصريين، هو الذي أيقظ شعورهم القومي أو أيقظ وجدانهم الوطني، ومن الخطأ أيضًا الاعتقاد بأن أسرة "محمد علي"هي التي أيقظت الجين الحضاري الكامن في عقل المصريين، بل على العكس تمامًا، فإن تقدم المصريين وإحياء تراثهم الغابر وتحديث أفكارهم وتجديد عوائدهم كان في حاجة لرأي عام قائد يخرج خطاب النهضة المصري الكامن في عقول أبنائها من دائرة الكمون والعزلة إلى دائرة الحضور والانفتاح الإيجابي مع شتى الأمم والثقافات، وتشهد بذلك كتابات المفكرين المصريين في أخريات القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر في مختلف العلوم والفنون والآداب المتاحة آنذاك، ولاريب في أن مقومات الفكر العربي الحديث والقضايا التي أثارها المفكرون المصريون حول (قضايا التراث والتجديد، والحرية والإصلاح) قد ساهمت مساهمة فاعلة في إيقاظ الشعور الوطني، وبات مصطلح الهُوية يظهر من جديد على ألسنة الطبقة الوسطى منذ منتصف القرن التاسع عشر وذلك مواكبا لحركة التنوير الأوروبي حيث المصطلحات ذات الصلة بقضية الهوية، مثل (القومية، الوطنية، الأمة، الدولة).
وسوف نحاول في السطور التالية التأكيد على أصالة مصطلح الهُوية في فكر إمام الليبراليين "أحمد لطفي السيد (1872-1963م)" الذي كان من أحرص معاصريه على إعلاء شعار مصر للمصريين وتخليص مصطلح القومية والوطنية من الأفكار الدخيلة التي حاولت طمس الهوية المصرية المستقلة في دوائر انتماءات دينية أو ولاءات قومية عرقية.
فلم يقم لطفي السيد القومية على وحدة الدين أو اللغة، كما أن الوطن في رأيه مركز المصلحة العامة بين أناس متضامنين، يشعرون دائمًا بحاجتهم الملحة إلى التعاون في دفع الضار وجلب النافع.
أما عن شخصية الأمة فهي عنده الأساس الأول لرقي كل أمة، يؤمن رأيها العام بضرورة استقلال شخصيتها عن غيرها من الأمم، فكلما زاد الوعي القومي كانت الخطى نحو التقدم أكثر ثباتاً، وكان مؤمناً بأنه ليس هناك من هو أحرص على مصلحة مصر إلا المصريون أنفسهم، وعلى ذلك فإنه من العبث تفضيل مصلحة الغير على مصلحتنا، فإن مصالح تركيا أو غيرها من أولئك الذين تربط بيننا وبينهم روابط دينية أو عرقية يجب أن تُنحّى جانباً، وخاصة إذا تعارضت ومصالحنا الوطنية.
أما شعار "مصر للمصريين" الذي حرص أستاذ الجيل على ترديده على مسامع الرأي العام، للتأكيد على دائرة الولاء والانتماء للهُوية المصرية، فيرجع إلي دعوة "اللورد كرومر(1841م-1917م)" المعتمد البريطاني إلى جعل الجنسية المصرية جنسية دولية، ووضوح نية الدول الأوروبية الاستعمارية تجاه الشرق، ورغبة الباب العالي في توطيد تبعية مصر لتركيا، الأمر الذي كان يستوجب ردًا من قادة الرأي في مصر، فقد اضطلع بذلك لطفي السيد، مؤكداً أن "مصر للمصريين" جميعهم، مسلمين ومسيحيين، عربًا وأجانب، شريطة أن يكون الانتماء قلبًا وقالبًا لمصر وحدها، ذلك أن الجنسية المصرية ليست مجرد رخصة أمان مؤقت لكل من تلفظهم أوطانهم أو يلفظونها هم.
وتصدى مفكرنا كذلك للفتنة الطائفية، وهي إحدى ألاعيب المحتل لهدم الهُوية المصرية والانتماء الوطني وذلك بقوله " إن الدين ليس الأساس الذي تقوم عليه الأكثرية والأقلية، ولكنه المذاهب السياسية، والأمة كائن سياسي يتألف من عناصر سياسية،فأي مذهب من المذاهب السياسية اعتنقه أفراد أكثر عددًا وأثرًا كان أكثرية، وكان الآخر أقلية، وعلى هذا يمكن فهم الأكثرية والأقلية في كل أمة، وليس للدين دخل في ذلك".
وعن قضية الهُوية المصرية، نجد أستاذ الجيل يقف موقفًا وسطًا بين العديد من الاتجاهات الفكرية والمذهبية والعرقية، التي سادت المناظرات الثقافية في مصر منذ العقد الثاني من القرن العشرين، إذ ذهب بعض رجالات الأزهر إلى تدعيم الولاء لدائرة الهُوية العربية الإسلامية، وعلى الجانب الآخر نجد من يروج للهوية الفرعونية، وعلى الجانب الثالث نجد من يدعو للعولمة والثقافة الكونية وحضارة البحر الأبيض المتوسط، وبين هؤلاء جميعًا نجد مدرسة "محمد عبده(1849م-1905م" و "حزب الأمة" يؤكد أن الهُوية المصرية لها مشخصات تجعلها في مركز الولاء والانتماء دون غيرها.
فلم ينكر أستاذ الجيل تلك الروابط الأصيلة بين المصريين والعرب المسلمين، ولم يتجاهل ذلك التفاعل الحضاري بين مصر واليونان من قبل، بل ولم يكن ليغفل هذا التقارب الفكري بين العقلية المصرية والعقلية الأوروبية الحديثة؛ ولم يروج للفرعونية إلا لينمي روح الانتماء الوطني لدى المصريين، وعليه فمصر عنده فرعونية، عربية، إسلامية، حديثة يجب أن تستلهم من ماضيها وتنتقي من حضارات غيرها ما يعينها على الرقي والتقدم.
لذا لم يفتأ لطفي السيد يُشيد بشخصية مصر كأمة متميزة، ويقول "لا شبه عند أحد منا في معنى كوننا أمة متميزة بمشخصات خاصة بنا، قد لا يشاركنا فيها غيرنا من الأمم، لنا لون خاص، وميول خاصة، ولغة واحدة، ودين للأكثرية واحد، ودم يكاد يكون واحدا يجري في عروقنا، وحدود طبيعية تفصلنا عن غيرنا، لا بحدود وهمية كما هو الأمر في بعض الممالك".
والجدير بالإشارة في هذا السياق أن هذا الرأي الذي صرح به مفكرنا كان تتويجًا لما انتهى إليه رأي الاتجاه المحافظ المستنير، أو إن شئت قل زعماء الإصلاح المصريين من أبناء الطبقة الوسطى، إذًا نجد مفهوم الهُوية المصرية بوصفها تشغل مركز الولاء والانتماء في كتابات "رفاعة الطهطاوي(1801م-1873م)" و"علي مبارك(1823م-1893م)" و"محمد المويلحي(1853م-1930م)" و "عبد الله النديم(1842م-1896م)" و"ميخائيل أفندي عبد السيد(1860م- 1914م)" و"حسين المرصفي(نحو1810م-1890م)" و"مصطفي لطفي المنفلوطي(1876م-1924م)"، وكان له عظيم الأثر في كتابات شبيبة المثقفين ــ آنذاك ــ وشيوخهم الذين قاموا بالرد على كتاب "مصر الحديثة للورد كرومر(1908م)"، ولعل أشهر من تأثر بوجهة هذا الاتجاه من المفكرين المعاصرين هو "زكي نجيب محمود(1905م -1993م)".
وحري بي أن أتحدث في عجالة عن "نظرية المؤامرة" و"حروب الجيل الرابع والخامس" ودور "دوائر الاستشراق السياسي الغربي" على وجه التحديد، في محاولاتها لتزييف وتبديد الهُوية المصرية، فعلى الرغم من معارضة الكثيرين لمصطلح "نظرية المؤامرة" فإنني أؤكد أن الأحداث الأخيرة قد أكدت للمعنيين بتحليل الوقائع والأحداث، وجودها كحقيقة، غير أن الجمهور ينكر ذلك بحجة تكرار هذا المصطلح على ألسنة المفكرين المحافظين لتبرير إخفاقاتهم وعجز خطابتهم عن تغيير الواقع إلى الأحسن وإصلاح ما فسد.
لذا نوضح أن "نظرية المؤامرة" على الهُوية المصرية قد بدأت في العصر الحديث عقب الحملة الفرنسية التي نقلت الكثير من البنية المعرفية والثقافة السائدة والموروث الحضاري والعقدي الذي كان له عظيم الأثر في تكوين المشخصات المصرية، للفكر الغربي.
والجدير بالإشارة أنه منذ العقد الأول من القرن التاسع عشر أصبح "لدوائر الاستشراق" مؤسسات بحثية لدراسة ثقافات البلدان الشرقية من جُلّ نواحيها، بداية من اللغة السائدة والعادات والمعتقدات ونهاية بالوعي والطبقات الاجتماعية والمناهج التعليمية والأوضاع السياسية والاقتصادية والآداب والفنون، وملوثات الثقافة والآداب الشعبية، وذلك إلى درجة تحليل بعض الباحثين الغربيين للحواديت والنكات ولغة السوقة، لإعانتهم لفهم طبيعة العقل الجمعي للفكر الشرقي، ولاسيّما الشعوب التي تنحدر من حضارات تليدة وسيّما مصر.
ومن مظاهر النظرية ـــالتي نزعم بوجودهاـــ (نظرية المؤامرة)، العمل على تفكيك البنية الاجتماعية المصرية، وذلك بعدة آليات أهمها، إضعاف الطبقة الوسطى التي تُشكِل العجلة الدافعة لتقدم المجتمع وتشكيل العقل الجمعي والحفاظ على ثوابت الهوية، وذلك منذ (1875م) حيث نُضج الخطابات التوجيهية، وظهور المدارس الفكرية، والمشاركة الإيجابية لقادة الرأي المصريين في الشئون السياسية والاقتصادية.
إضافة إلى وضع الخطوط الرئيسية للخطاب المصري الذي ينشد التجديد والإصلاح اعتمادًا على الذات، وتوحيد الولاءات في دوائر متداخلة تتبدل من المركز إلى المحيط تبعًا لتطور العقل الجمعي؛ فحاولت الفصل بين الباشوات المصريين وأصولهم الريفية، وذلك بترغيبهم في الزواج من الأجنبيات وتقليد الأغيار في حياتهم وثقافتهم، واصطناع طبقة أرستقراطية من المصريين متطلعة للحاق بالحاشية الخديوية ومسايرة الباب العالي العثماني، ومحاكاة الوالي وأسرته وحاشاته، وفي الوقت نفسه محاربة قادة الفكر من أبناء هذه الطبقة لإفساد خططهم في التنمية والإصلاح، واستقطاب بعض رجالات الدين للتشكيك في الحركات الإصلاحية والمشروعات التحديثية.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فحروب الجيل الرابع والخامس تسير في نفس الاتجاه، فتتعمد سحق بقايا ركام الطبقة الوسطى، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وإشعال نيران الريبة والشك في قادة الرأي والسلطة الحاكمة والتيئيس من الإصلاح وتغيير الواقع، وتشجيع كل الاتجاهات الجامحة والجانحة وتدعيم كل جماعات التطرف، بداية من التطرف الديني في الإسلام والمسيحية وانتهاء بالتطرف الثقافي والأخلاقي ولاسيّما بين الشباب، وكل ذلك لإضعاف الولاء والانتماء في الروح الجمعي المصري، وتزييف الوعي الحضاري وإفساد الذوق العام، ونقض الثوابت التي تستند إليها مشخصات الهُوية.
ولا غرو في أن السؤال عن قدرة هذا الجيل وما يتبعه من الأجيال المتلاحقة عن مدى قدرتهم في الحفاظ على مشخصات الهوية، وتخليص عوائدنا وقيمنا مما حاق بها من أضرار؟ قد أضحى مشروعاً!