سعد زغلول.. الهُويّة والاستقلال
لماذا بقى اسم سعد يتردد طيلة مائة عام ولا يزال، وسيظل بإذن الله ما بقيت مصر ؟! لماذا أنصف سعداً خصومُه قبل مريديه ؟ لماذا خرجت الأمة تنادى يحيا سعد وعاش الوطن، ولم تخرج بنفس القدر مع عرابى أو مصطفى كامل بأدوارهم الوطنية الجليلة، أو ضد الاحتلال 1882، أو ضد الحماية 1914، أو ضد عزل الخديو عباس، حاكمها الشرعى، من عرشه عنوة، أو تضامنا مع دولة الخلافة التركية فى حربها مع بريطانيا ؟
لعل "بعض" الإجابة يضيئ لنا جانباً من شخصية سعد التى انصهر فيها تاريخ أمة رفيعة بحضارتها ومواريثها، عقائدها وتقاليدها، فنونها وثقافتها، حكمتها وبلاغتها، رحمتها وصلابتها، تبلورت جميعها فكانت سعد، فمن رآه فقد رأى فرداً وأمة، وما أصعب الحديث عن رجل هذا شأنه، لم يترك الكُتَّاب، طيلة مائة عام أو يزيد، شاردة أو واردة عنه إلا أحصوها.
كان الراسخ عن المصريين أنهم شعب خانع لا يعبأ إلا بلقمة العيش، فلا يثور إلا لدينه أو رزقه، أما انتصارات الحاكم وانهزاماته فهى شأنه وحده، ذلك كان رهان الاحتلال مستخفاً بإرهاصات الثورة وتأسيس "هيئة الوفد المصرى" 13 نوفمبر 1918ـ وهى تختلف عن "حزب الوفد المصرى 1924" ـ فظن المحتل أنها مجرد زوبعة بسيطة ستنتهى كما انتهى غيرها، أو أنها مطالب فئوية يقمعها الطغاة عادة ، بل إن سعداً نفسه لم يخطط للثورة ولم يحسب أن الأمة ستشعلها، فلم يعلم فى منفاه، مع ضعف التواصل ومنع الأخبار، باندلاعها إلا مصادفة يوم 3 أبريل 1919 كما روى حمد باشا الباسل فى مذكراته عن المنفى، ورغم ذلك وعت الأمة رسالة سعد فأخلفت كل التوقعات وصنعت مجدها وثورتها.
ويخطئ من يظن أن فكرة سعد توقفت على المطالبة باستقلال مصر عن الاحتلال، فلا معنى لمغادرة دبابة المحتل بينما أخذت معها السيادة وارتبطت مصالحه بأداء مؤسّسات دولة الاستقلال، ولكن الاستقلال ـ كما وعاه سعد فسعى لتحقيقه ـ يبدأ بالحرية واستقلال العقل، فالشعب الحرّ هو شعب سيّد حتى وأرضه تحت الاحتلال، أما الشعب المغيب فشعب تابع فاقد للسيادة وللقرار حتى لو خلت أرضه من المحتل، فلا معنى للأرض ولا للهُوية دون عقل حُرّ يعى معنى الاستقلال والسيادة ويملك أسباب بناء الدولة، وربما يُتَرجم ذلك فى النهضة الكبيرة التى صنعتها ثورة 19 ولازلنا نعيش زخمها حتى اللحظة.
تلك القناعة هى ما دفعت سعد للمس أوتار مشاعر الأمة باعثاً المفهوم الحقيقى للاستقلال المنشود، وكيف أنه الحرية والكبرياء والكرامة وتحقيق السيادة الكاملة للمواطن الحر على أرض بلاده ومشاركته في تقرير مصيرها وصناعة مستقبلها واتخاذ قراراتها، وأنه استقلال العقل ـ الإرادة ـ القرار ـ الهوية ـ المعرفة ـ الجيش وغير ذلك، استقلال كامل عن الأجنبى مع توحد كامل داخل منظومة الدولة التى يشارك المواطن فى صناعتها دون انسلاخ عن مقومات الوطن ولا عن هويته ووجوده التاريخى والحضارى، فكان مشروع سعد والثورة هو تحقيق السيادة العقلية للفرد، ومن ثم تحقيق السيادة الكاملة للدولة بتغذية الوعي الوطني الذى يدفع الفرد إلى التمييز بين محددين .. الدولة كعنصر ثابت، والنظام كعنصر متغير.
ولنقرأ قول سعد جامعاً كل ما سبق فيقول ( .. وأما فيما يتعلق بالاستقلال فنحن أمة لا حزب، ومن يقول أننا حزب يطلب الاستقلال يكون مجرما) .. أمة بكل زخمها ومقوماتها وحضار تها وما تحمله على كاهلها من تاريخ وقيم ومعارف.
هنا نقف على ذكاء سعد، ذلك الفلاحٌ القُحٌّ الذى ولد فى بيئة أحست بأثار الظلم، وإن لم يقع عليها، فنبتت جينات الكبرياء والاستقلال فى وجدانه مع لبن الفطام وعبقرية المكان حيث مصب النيل فى البحر أمام قريتنا الوادعة "إبيانة" أو كما نقول فى العامية "بيجيب من الآخر"، فجاء سعد على قدرٍ ليكون ابناً لوقته وأمته بالفعل، لم يشأ الله تعالى أن يتقدم أو يتأخر، جاء وقد تبلورت داخله شخصية الأمة فكان ترجماناً لضميرها، فاستخدم دهائه الفطرى ليوحد هذه الأمة ويحركها فى صالح مشروع الدولة الوطنية على عدة محاور، أهمها، حسب تصورى الشخصى، قناعته، أن انتصار الأمة وتحقيق أحلامها واستقلالها لن يتم بأية حال قبل إزالة الغبار عن هويتها، وأن بعث روح الهُويَّة المصرية هى السبيل الأولى لمقاومة المحتل وبعث نهضة مصرية تليق بأمة هذا شأنها، والأهم هو صناعة دولة وطنية بمفهومها الصحيح كعلاقة اجتماعية تربط دور الفرد وتفاعله مع الآخر ومع الدولة، وكيف أنها حق يكفله الدستور لكل مواطن دون تمييز بعرق أو دين، فكان أول نجاحات سعد هو نشر الوعى بمفهوم دولة الاستقلال الوطنى بين مستويات الجمهور البسيط بعد أن كان قاصراً على طبقة الفكر الثقافى النخبوى يتدارسونه دون شراكة مع الشريحة العظمى من أبناء الوطن المعنيين.
وكان وأد الفتنة الطائفية التى صنعها المحتل وأججها فى نفوس المصريين، على غير طباعهم، هى الخطوة الأولى لصناعة دولة المواطنة المستقلة المنشودة، فنجاحها معناه إرساء مبدأ الوطنية المصرية كأساس للمواطنة بدلاً عن العقيدة الدينية كما رسخ المحتل فى ذهن الأمة، فأعاد سعد إحياء تعريف الثورة العرابية للمواطن المصرى كما جاء فى المؤتمر التأسيسى الأول للحزب الوطنى فى طبعته الأولى 1878 ـ إن جاز التعببير، بأنه (كل من يحرث أرض مصر، أو يتنفس هواءها أياً ما تكن ديانته أو لونه أو عرقه)، وكان من الموقعين على بيان المؤتمر شيوخ الأزهر وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود.
لذلك كان حرص سعد على تشكيل "هيئة الوفد المصرى" من ممثلين عن كل شرائح الأمة لتكون بمثابة تنظيم شعبى وطنى لتحقيق هدف معين لا خلاف عليه، وليس حزباً سياسياً يطرح برنامجاً يقبل وجهات النظر أو الاختلاف السياسى فالتشرذم حوله، فكان من الطبيعى أن تتوحد معها أطياف الأمة على تباين أيدولوجياتها وديانات أفرادها، فلا يرفض الاستقلال إلا خائن.
هنا نجحت الخطوة الأولى والتفت الأمة بكل طبقاتها ودياناتها حول سعد قناعةً أن دعوته ليست دينية لفئة دون أخرى، إنما هى دعوة وطن غايته الاستقلال، فنرى سعداً يقول (لو لم يكن لي عند ربى إلا أننى جمعت بين الأقباط والمسلمين في وحدة وطنية لكفانى هذا ذكراً وفخراً )
بدأ التفاف الأمة حول سعد بفكرة التوكيلات العبقرية، رغم أنها مجرد صيغة معنوية غير منشئة لمركز قانونى، لكنها شكلت قوة أكبر من أى قانون أو جيوش، قوة أكبر من بريطانيا العظمى نفسها، قوة خلقت سعداً الزعيم وأجلسته على عرش القلوب إلى ما شاء الله تعالى، ذلك لأنه احتال للاستقواء برجل الشارع، فذهب إلى البسطاء الضعفاء يطلب تأييدهم، فإذا بهم عماليق أشداء شعر كل منهم، لبالمرة الأولى فى التاريخ، أنه ذو قيمة فى وطنه وأنه رقم فاعل فى منظومة صناعة مستقبل بلاده، وأن الباشا سعد يحتاج مساعدته هو تحديداً رغم أنه مجرد رعاعة من رعاعات الأمة الذين يفاخر الباشا بأنه زعيمهم وبأن أغلب أهله من صغار الفلاحين لابسى الجلابيب الزرقاء.
إنه الاحتيال الشريف المطلوب فى العمل السياسى، أعنى الاستقواء، عن حق، بالأمة بكل السبل، فالأمة هى صانعة الزعامات، إن وجدت من يستحق، وسعد لم يكن زعيماً قبل ذلك، لكنه الشعب هو من صنع عظمته وخلد ذكراه، بعد أن استشعر كيف أن الرجل لا يرى إلا ما تراه الأمة، وأنه آداة التوصيل الجيدة بين أحلامها وواقعها ومستقبلها.
يطول الحديث ويتشعب، فما علمنا بعد موسى من يدٍ ألقت فى وجه فرعون عصاها، لكن علينا استلهام مجد الماضى وأدواته عملاً على الأرض لا اجتراراً، والاستقلال هو مجد الثورة، ومنه تفرعت قضايا الدستور والوحدة الوطنية والجيش القوى والنهضة وغيرها، فى إطار يحكمه أن الدولة عقد ملزم بين الشعب وبين منظومة الحكم المنتخبة، عقد يؤسس لمشروع قومى يضمن استمرارية الدولة كمُنتِج جيد لمواطن مثقف حر قابل للتعامل بلغة عصره، مشروع تتحقق من خلاله السيادة العقلية للفرد، ومن ثم السيادة العقلية للدولة، فيتحقق الاستقلال فى مفهومه الأشمل، وتلك هى النقطة الأبرز والأكثر نجاحا لثورة19.
نهاية يبقى الأمل ما بقى أولئك الذين يكتحلون بتراب هذا الوطن معجوناً بمياه نيله، كما علمنى أبواى ما تعلماه من سعد وصحبه،غفر سبحانه لشهداء الثورة وزعمائها، وللحديث بقية عن "حوليات ثورة 1919"، ذلك إن أذن الله، تعالى، ثم سمح مضيفونا، وكان فى العمر بقية.