رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


التوحيد..هوية مصر الدينية

11-10-2020 | 21:54


القرآن كتاب الله المجيد، ومن قبله كتب سماوية تتالت، لم يحظ بلد بالذكر بها جميعا كمصر. نعم.. في ديننا لا قداسة إلا لله، ولكن بلدا كمصر حري بنا أن نحتفي بها، ولم لا؟! وهي أرض علمت الدنيا جميعها التوحيد منذ بواكير فجر التاريخ. في البدايات عرفت التعدد فكانت تقدس 42 إلها حسب تعداد أقاليمها، فكان ثمة إله لكل إقليم ولكن بين حين وآخر كانت تعود للتوحيد على يد أحد الأنبياء المرسلين.


على أرضها مشى نبي الله إدريس داعيا للحق وكلمة التوحيد، وهو ثاني الأنبياء بعد آدم -عليهما السلام- وكتب التاريخ -ما أكثرها- التي تشير إلى أن أوزوريس أحد آلهة مصر القديمة هو نفسه النبي إدريس، فبنص القرآن أن إدريس ارتقى للسماوات العلا، وثمة احتمال أن ذلك كان على مرأى ومسمع من الناس فصار بذلك في الذاكرة المصرية إلها، ودارت حوله الأساطير، والتي أثرت بمكان في ثقافتنا الدينية إلى الآن، ولعل أبرزها عادة وضع حجر تحت رأس الميت في وجهنا البحري خاصة إلى الآن، فتلك العادة مردها لأسطورة أوزوريس القديمة. حتى لفظة الشيطان المكابر نفسها هي كلمة مصرية صميمة كما تشير أكثر من دراسة، ومردها الإله ست في مصر القديمة، ويؤيد ذلك أن الرمز الذي يتخذه عبدة الشيطان إلى الآن هو من موروثات العقيدة المصرية القديمة، ما يعني أن مصر عرفت التوحيد مبكرا، والصراع بين الخير والشر "أسطورة ست وأوزوريس" 

(فجر الضمير/جيمس هنري بريستد- التاريخ الجغرافي للقرآن/ سيد مظفر الدين نادفي- الرحمن والشيطان/فراس السواح- الأساطير المتعلقة بمصر/د.عمرو عبدالعزيز منير، وغيرها).


وعلى أرض مصر كذلك كانت خطا النبي إبراهيم –عليه السلام- وزوجته سارة، وابن أخيه لوط، وقصتهم معروفة مع ملك مصر، وموقفه من سارة وطمعه فيها إلا أن الله رد كيده عنها، وأهداها هاجر، وهذا دليل آخر على عراقة التوحيد في مصر، فما كان من ملك مصر أن يتراجع ويهدي هاجر لسارة إلا ليقينه بوجود إله واحد لهذا الكون وهو الذي حفظ سارة منه، ومن أرض مصر توجه إبراهيم بأهله إلى سوريا، وأمر لوطا بأن يتجه  عبر نهر الأردن إلى سدوم، ليدعو أهلها لعبادة الله وحده. (حسن المحاضرة/ السيوطي- البداية والنهاية/ ابن كثير، وغيرهما).


 ولا ننسى «إخناتون» عاشر ملوك الأسرة الفرعونية الـ١٨، والذى حكم مصر حوالى ١٧ سنة خلال القرن الـ١٤ قبل الميلاد ، واسمه «أمنحتب الرابع» ويعتبره بعض المؤرخين مؤسس أول دين قائم على فكرة التوحيد فى التاريخ المكتوب، حيث دعا إلى توحيد جميع الآلهة فى إله واحد وأطلق عليه اسم «أتون»، وجعله إلها عالميا لكل الشعوب، ورمز لهذا الإله بقرص الشمس، ورفض أن يتم تصويره فى أية هيئة كانت سواء بشرية أو حيوانية، مثلما كان يحدث مع آلهة مصر فى وقت سابق لحكمه، وفى محاولة منه للإجهاز على ما أسماه بعبادة آلهة متفرقة، اتهم «إخناتون» الكهنة بالسحر والشعوذة وجردهم من مناصبهم بما فيهم كهنة آمون، وأصبح هو الكاهن الوحيد للإله الجديد «أتون»، ثم نقل «إخناتون» العاصمة من مدينة طيبة إلى الصحراء فى منطقة تل العمارنة، وأطلق عليها اسم «أخيتاتون» وتعنى أفق أتون، وتُظهر رسائل العمارنة المكتوبة بالخط المسماري، عدم اهتمام الملك بالسياسة الخارجية وعدم حمايته لحلفائه الأسيويين أمام تنامى خطر الحيثيين، ومات «إخناتون» فى ظروف غامضة حوالى عام ١٣٣٦ ق.م، وباعتلاء «توت عنخ آمون» لعرش مصر أجهز على ديانة والده، وعاد إلى الدين المصرى القديم، وبعد أن خلفه حور محب قائد الجيش على العرش إثر وفاة «توت» فى ظروف غامضة حتى الآن، استطاع «حور» القضاء على ديانة إخناتون وأتباعه، ويربط البعض بين إخناتون وبعض الشخصيات الدينية مثل النبى يوسف وموسى للتشابه الكبير فى فكرة التوحيد، وتشابه بعض المزامير التوراتية مع الأناشيد التى كتبها إخناتون مثل المزمور ١٠٤، لكن هذا لا يزال غير مؤكد وقيد الدراسة.


وعلى أرض مصر كانت حياة أنبياء بني إسرائيل –عليهم السلام-: يعقوب ويوسف وموسى وهارون ويوشع بن نون وغيرهم ممن زخرت بهم كتب التاريخ وأفاضت في ذكرهم، ومن بعدهم كانت رحلة المسيح –عليه السلام- طفلا، مع أمه مريم العذراء ويوسف النجار والتي تنقلوا فيها بين ربوع مصر شمالا وجنوبا، والتي قد اهتمت بها الدوائر الثقافية والسياحية مؤخرا، فيما عرف برحلة العائلة المقدسة، وكل نبي من هؤلاء كانت خطاه على أرض مصر تسعى لترسيخ عقيدة التوحيد، ولا ننسى موقف النبي يوسف حين الغواية به ولجوئه لدين ربه الواحد محتميا، "إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".(سورة يوسف).

 

وكذلك الموقف العظيم الذي وقفه كليم الله موسى -عليه السلام- أمام فرعون في يوم الزينة، والذي انتهى بإيمان سحرة فرعون، ومن بعده  نجاة موسى وقومه وهلاك فرعون.  "فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ" (سورة طه).   

    

(قوة مصر في القرآن/صلاح الدين أبوالعينين-الإلمام/محمد بن القاسم النويري-القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم/موريس بوكاي- يهود مصر من الخروج الأول إلى الخروج الثاني/عرفة عبده علي-خروج بني إسرائيل من مصر والتيه/د.ميادة شهاب-سيناء عبر التاريخ/إبراهيم أمين غالي).


وقد ورد في سنن النسائي حديث رقم 450، وفي كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني بالجزء السابع الحديث رقم 3886 أن الرسول محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد زار مصر وصلى بطور سيناء في رحلة الإسراء والمعراج، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "فركبت ومعي جبريل فسرت، فقال: انزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر، ...ثم قال: انزل فصل، فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء..حيث كلم الله موسى -عليه السلام"، ومن أرض مصر كانت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله –صلى الله عليه وسلم، وكم من آية في كتاب الله العزيز تحفل بأسماء أماكن مصرية جرت عليها أحداث تنم عن سير وخطوات أنبياء الله –عليهم السلام.


(الوحدة الوطنية في مصر/صلاح رشيد-سيرة سيدات بيت النبوة/حامد البسيوني- تراجم سيدات بيت النبوة/ د.عائشة عبدالرحمن- فتح الباري/ ابن حجر العسقلاني).


مما سبق يتبين لنا أن مصر كانت من أقدم بلاد العالم معرفة للتوحيد، وأن التوحيد هو هويتها الدينية الحقيقية، وأنها وإن ابتعدت عنه أحيانا إلا أنها كانت تعود إليه من فترة لأخرى، ومهما تكلمنا عن هذا الأمر فمحال أن نوفيه حقه في هذا المقال، ويكفينا أن كتب التاريخ قديما وحديثا مما لا حصر لها، ومن قبلها الكتب السماوية أفاضت وأسهبت في شرح ذلك الجانب، فاللهم احفظ مصر واجعل هذا البلد سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.