يتشابه
سكان منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير في ثقافاتهم وعاداتهم المعروفة، وهو ما يجعلنا
نرمز إليهم أحيانًا بـ«سكان الحي الشرقي» نظرًا للتشابهات الكثيرة بين شعوب هذه
المنطقة.
ولعل
أكبر تشابه يجمع بينهم هو اهتمامهم بالفنون المختلفة، وتعتبر مصر من أهم وأول دول
الحي الشرقي اهتمامًا بالفنون، وخاصة فن السينما، والذي ينسب الريادة والأسبقية له
في الحي الشرقي لمصر، فهي أول دولة بالمنطقة يقدم فيها فيلما سينمائيا منذ بدء
اختراع السينما في العالم، حيث أن أول فيلم تم إنتاجه وعرضه في باريس وبعدها بأيام
قليلة تم عرضه في مصر بمحافظة الإسكندرية وهو المعروف للعالم كافة.
واهتم
المصريون بتطوير الصناعة وإنتاج طاقات فنية كثيرة، وما زالت مصر حتى الآن تتصدر
صناعة السينما في المنطقة، وعندما يفكر أي ممثل أو مخرج أو سيناريست أوغيرهم في
الأعمال التي تشارك في صناعة السينما الاحترافية، لا يفكر في شيء سوى مشاركته في
الأعمال المصرية حتى يدون له في تاريخه أنه عمل في أهم منظومة فنية بالمنطقة.
واستحوذت
مصر أيضًا على الريادة في تعليم الفنون بالحي الشرقي وجعلها مهنة لها مرجعية علمية؛
حتى يصبح الفنان ممتلكا لكل أدواته الفنية، ولم يقتصر ما يقدمه على الموهبة فقط،
وهو وما صنع اختلافًا ملحوظًا بين الفن في مصر وغيره من دول المنطقة، وذلك في عام
1969م حينما صدر القانون رقم 78 لعام 1969م بإنشاء أكاديمية الفنون بمنطقة الهرم
"المقر الحالي لأكاديمية الفنون"، والتي افتتحها ثروت عكاشة وزير
الثقافة آنذاك؛ لتصبح منارة الفن في الحي الشرقي، وتتوافد إليها المواهب من كل حدب
وصوب، ليتلقوا تعاليم الفنون على يد كبار العاملين في الصناعة الفنية بمصر.
ولم
تقتصر الريادة المصرية في الفنون على تواجدها وتنميتها أو تعليمها فحسب، بل كانت
رائدة في محاولة إزالة العدوان المجتمعي ضد الفن والفنانين، ومحاولة تعديل صورة
الفنان ومكانته في المجتمع الشرقي بشكل عام.
ففي
بدايات ظهور فن التمثيل، كانت هناك معاملة مجتمعية خاصة للعاملين بالفن، وكانت
معاملة مختلفة عن باقي الفئات المجتمعية، وينظر لهم نظرة دونية، ما جعل العائلات
الراقية تفزع عندما يفكر أحد أبنائها في احتراف الفنون، وليس ذلك فحسب بل وصل
الأمر لصدور تشريع قضائي ينص على عدم قبول شهادتهم بالمحاكم وجاء النص كالتالي: «الزمار
والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح الاستماع إلى شهادته»، وهو الأمر الذي تغير
بعد ذلك ليطفو على السطح شكل جديد للنظرة المجتمعية للعاملين بالحقل الفني.
تشكلت
النظرة المجتمعية الجديدة للفنون وممارسيها وصناعها على مبدأ إظهار الاحترام
والتوقير والنجومية للعاملين بالفن، بل أصبح يسن تشريع لبعض القضايا المجتمعية بعد
مناقشتها في الأعمال الفنية، مثلما حدث في تعديل قانون الأحوال المدنية وصدور
قانون 44 لسنة 1979م، والذي يدعم المرآة بشكل كبير، وذلك بعد مناقشة إحدى المشاكل
الزوجية من خلال فيلم «أريد حلا» للفنانة فاتن حمامة، والذي تم إنتاجه عام 1975م
وتم ترشيحه للحصول على جائزة الأوسكار.
يظهر
لنا ذلك أن فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت فترة الازدهار الفني وحصول
الفنان على مكانة اجتماعية أفضل من الفترات التي تسبق ذلك لتتغير النظرة المجتمعية
الدونية لنظرة فخر واعتزاز بالفنانين وما يقدمونه، ولكن سرعان ما انقلب الحال
لتظهر نظرة مجتمعية جديدة تحمل تضادا واختلافا وازدواجية شديدة لنظرة سكان الحي
الشرقي للفنون، وهي النظرة التي استمرت حتى الآن.
ففي
الفترة الحالية يطفو على السطح احترام المجتمع الشرقي للفنون وصناعها، ويلتقي
الجمهور بالفنانين ويحيطهم بحفاوة شديدة وأصبحت العائلات تتمنى أن يلتحق أبنائهم
بالوسط الفني، حتى يصبحوا مثل النجوم الذين يشاهدونهم ويتابعون بشغف شديد أعمالهم
الفنية التي يقدمونها من أجل إسعاد المشاهدين.
ولكن
هذه الظاهرة هي ظاهرة مخيفة لأن هذا الاحترام يُخفي في طياته نظرة دونية شديدة،
وهو ما ظهر جليا خلال الأيام الماضية عندما قام أحد قراء القرآن الكريم وهو الشيخ
محمود الشحات أنور بنشر صورة تجمعه مع الفنان محمد رمضان، ونحن هنا لسنا بصدد نقد
أعماله الفنية بل بصدد نظرة مجتمعية للفنان والفن بشكل عام، حيث انهالت التعليقات
على صفحة القارئ محمود الشحات بعد نشره للصورة التي وضح خلالها لقائه بالفنان محمد
رمضان داخل عزاء لأحد المشاهير، وجاءت التعليقات مستنكرة اهتمام الشيخ بالتصوير مع
أحد نجوم المجتمع، مع العلم أن لو أحد المعلقين على هذه الصورة بشكل سلبي شاهد
الفنان محمد رمضان سوف يجري نحوه ويحاول أن يلتقط صورة معه.
ويمكننا
أن نصنف هذه الازدواجية بأنها حالة لأنها أشبه بالمرض الخبيث الذي أصاب أغلب سكان
الحي الشرقي ولم تقف حالة الازدواجية عند حد الجمهور الذي أصبح يتعامل مع نجوم
الفن بنظرتين مختلفتين على الإطلاق، بل وصل الأمر لإصابة بعض العاملين بالوسط
الفني بهذه الازدواجية، نظرًا لأنهم من نسيج المجتمع الشرقي، فظهر خلال الفترة
الماضية الفنان يوسف الشريف خلال تصريحات له ليكشف عن إصابته بحالة الازدواجية في
رؤيته للفن، فرغم أنه واحد من صناع الفنون وذاع صيته في هذا المجال، إلا أنه صرح
برفضه لطريقة العمل ومحاولة اختراع طرق جديدة حلال -حسب تعبيره- وعدم ملامسة
زميلاته داخل المشاهد التمثيلية، وهو التقليد الغريب على فن التمثيل والذي تسبب في
وجود عوار في مسلسله الأخير النهاية والذي عرض في السباق الرمضاني الماضي.
ولم
يكن يوسف الشريف المصاب الوحيد بالنظرة المزدوجة للفنون من داخل الوسط الفني، بل
هناك الكثير والكثير من النجوم الذين أصيبوا بـ «ازدواجية الحي الشرقي» والحل
الوحيد لهذه الأزمة تبدأ من المبدع والذي يجب عليه في البداية الاعتراف بأهمية
الفن وقدرته على التغيير المجتمعي ثم محاولة تغيير هذه النظرة من خلال أعمال تظهر
قيمة الفن والفنانين ثم ينتقل الدور من المبدع إلى المثقفين والأدباء الذين لا نجد
منهم بشكل فعلي سوى القليل، فعليهم العمل على تغيير الصورة المجتمعية للفنون
وصناعها حتى يتثنى لنا الارتقاء بالفنون التي بدأنا العمل بها وكنا أصحاب الريادة
فيها كما ذكرنا من قبل والأن سبقنا العالم للإرتقاء بالفنون المختلفة.