رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الرقمية وآليات بناء النص الأدبي التفاعلي

13-10-2020 | 21:30


ارتبط الأدب لقرون طويلة بالورقية إنتاجا وتلقيا، لدرجة أن مفهومه ارتبط بالنصية والكتابة "فأحد طرق تعريف الأدب هو أنه كل شيء مطبوع"، وعبر الورقية يكتسي الأدب بعْدا خاصا من حيث بنائه وكذا تلقيه فهو يعتمد على فضاء ثنائي البعد، حيث الحركة بين الطول والعرض، وهنا مدخل القراءة في النص الورقي، فالإنتاج الأدبي الورقي يمر في اتجاه خطي أثناء فعْل الكتابة، وهناك تقطّعات زمنية في الإنتاج، مما يجعل النص يخرج بحلّة بنائية خاصة ويحمل قيما جمالية تتناسب وتتماشى مع طبيعة البناء ثنائية البعْد، ومن هنا يتم تلقي النص وفق جمالية خاصة أيضا وتقاليد قرائية محددة تبني ذوقا خاصا بالمرحلة وطريقة الكتابة، لكن الأدب في الحقيقة أوسع من ذلك فهو "كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته إحساسات جمالية، أو انفعالات عاطفية أو هما معا".


 فمفهومه مرتبط بأثره أكثر من ارتباطه بالحامل والوسيط، ومن هنا يمكن توسيع مفهوم الأدب ليشمل كل كتابة تُحدث فينا أثرا، وعبر هذا التوجه يمكننا الانطلاق في قراءة الأدب في مجال التفاعل الرقمي، فهو نص مختلف من حيث البناء ويُحدث أثرا خاصا في متلقيه، بهذا فدخول النص الأدبي مجال التفاعل الرقمي الذي ساهمت فيه وسائل الاتصال والوسائط المتعددة والبرمجيات الخاصة، دخل مرحلة جديدة من حيث البناء (الإنتاج) والتلقي وعبر "توظيف النص المترابط - Hypertext -كبرنامج حاسوبي- في عملية الإبداع حدث ذلك التزاوج بين الأدب والتكنولوجيا، وهنا برزت تقنيات جديدة استوجبت جماليات مختلفة وإعادة تكريس ذائقة مناسبة بالإبداع التفاعلي الجديد. "فمتى كان الوسيط ورقيا كان المبدع والنص والمتلقي ذو طبيعة ورقية، وإذا كان إلكترونيا صُبغت تلك الأطراف بالصبغة الإلكترونية" ، ومن هنا ظهرت معايير جديدة لإنتاج النص بالوسيط الإلكتروني ليأخذ صفة التفاعلية، كما فرض هذا النص تلقيا خاصا وفق جماليات مختلفة،


 "فالنص الإلكتروني في صورته الفائقة هو ما يمكن أن نعتبره منعطفا حقيقيا في مسار المعرفة الإنسانية نتيجة لما يمنحه من إمكانات ربط هائلة.."


فهو أدب من نوع خاص إنتاجا وتلقيا، وهنا منحت التكنولوجيا ووسائطها الحرية في أبعد حدودها، بما فيها حرية المبادرة والاختيار والكتابة والتعليق، والإبحار...، فهذا الأدب منتج وموجّه عبر الوسيط الإلكتروني، استفاد من مختلف الصياغات التي ظهرت في النص الشبكي، والمتفرع بنسقيه السلبي والإيجابي الذي يمنح المتلقي فرصة المشاركة في بناء النص، فهو "الأدب الذي يوظف معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والإلكترونية، ولا يمكن أن يتأتى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الإلكتروني"، وهنا يبرز الوسيط الإلكتروني في عملية البناء والتلقي، فهذا الأدب لا يُقدّم ذاته إلا عبر برمجيات خاصة محمولة في الجهاز مما يسمح للنص بأخذ طريقه على الشبكة العنكبوتية أو الأقراص المدمجة، وعبر اتحاد الأدب (نصا) بالوسائط المتعددة (أصبحت جزءًا من النص) داخل البرمجيات الحاسوبية برؤية إخراجية خاصة يظهر النص الأدب التفاعلي بشقيْه السلبي والإيجابي (باعتماده تقنية النص المتفرع - Hypertext). وهنا تُطرح تساؤلات كثيرة حول الطبيعة المختلفة لهذا النمط الكتابي "فالاقتراب من الأدب في وضعه الرقمي، هو اقتراب من المتغيّر في الحالة التي تصبح عليها الممارسة الإبداعية، عندما تعتمد دعامة الرقمي. يعني انتقال سياقي وبنيوي ولغوي وأسلوبي في الظاهرة الأدبية"، وعبر هذه التحوّلات نحن بصدد الدخول في مغامرة مختلفة لها أدواتها الخاصة في الإبداع وطرائقها المختلفة في القراءة والنقد. وهنا نشير إلى مسألة مهمة في أن التحوّل في الإنتاج النصي يجعلنا أمام نص جديد تماما، حيث تعد بذلك الإبداعات الأدبية التفاعلية إبداعات "تولّدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطورت من أشكال قديمة، ولكنها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الإنتاج والتلقي"، عبر هذا المفهوم المختلف للإنتاج التفاعلي نحن أمام نص جديد يحتاج مقاربا جديدة.


أما عن أجناس الأدب التفاعلي فهي كثيرة منها الرواية والشعر والمسرح وغيرها من الأجناس الأدبية التي يمكن إدراجها في الجانب التفاعلي، فمثلا في الشعر التفاعلي نجد (القصيدة التفاعلية) التي تعد شكلا من أشكال إبداع الشعر في عصر الأنفوميديا عصر المعلوماتية، عصر الثقافة التكنولوجية،  والمسرح التفاعلي (المسرحية التفاعلية) التي تعد جنسا جديدا استفاد من هذه التقنيات والثورة المعلوماتية وهي بذلك "نمط جديد من الكتابة الأدبية، يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عدّة كتاب، كما قد يدعى المتلقي/المستخدم أيضا للمشاركة فيه، وهو مثال للعمل الجماعي المنتج، الذي يتخطى حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعية الرحبة"، إضافة للمسرح نجد الرواية التفاعلية التي تعد "نمطا من الفن الروائي، يقوم فيه المؤلف بتوظيف الخصائص التي تتيحها تقنية (النص المتفرّع) والتي تسمح بالربط بين النصوص سواء أكانت نصا كتابيا، أم صورا ثابتة أو متحرّكة، أم أصواتا حية....باستخدام وصلات تكون دائما باللون الأزرق، وتقود إلى ما يمكن اعتباره هامشا على متن"، أما عن مقوّمات الرواية التفاعلية، فهي متعددة تتخطى البعْد اللغوي كما في الرواية الورقية، ففي لغة رواية الواقعية الرقمية الكلمة هي جزء من كل حيث تتشابك مع مختلف العلامات غير اللغوية الأخرى كالصور والصوت والمشهد السينيمائي.. ، ويتم ذلك في الوسط الإلكتروني عبر برمجيات خاصة. بهذا يظهر اتفاق مختلف الأجناس الأدبية التفاعلية حول الوسيط الإلكتروني وعملية التفاعل الإيجابي وانفتاح النص، وهي من أهم شروط النص التفاعلي.


عبر استقراء المشهد الأدبي العربي نجد أن الأدب التفاعلي في تطوّر ملحوظ ولو أنه بطيء مقارنة بغيره إلا أنه يحاول شق طرقه ممارسة نصية ومحاولات نقدية، ففي الجانب الإبداعي نجد محمد سناجلة في الرواية والقصة خصوصا في أعماله شات وصقيع ونجد مشتاق عباس معن في نصه "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" أو نصه الثاني "لا متناهيات الجدار الناري" كذلك المغربي منعم الأزرق في قصائده الرقمية. أما على مستوى التنظير فنجد محمد أسليم، وسعيد يقطين، وفاطمة البريكي، وغيرهم.


لكن رغم الانطلاقة الفعلية لهذا النمط الكتابي الأدبي (ممارسة وتنظيرا) إلا أن التسارع يعد بطيئا مقارنة بالحاجة الملحة التي تفرضها الظروف الراهنة لتوسيع هذا النمط الكتابي، لهذا فمتابعة التطوّر المتسارع للنهضة العالمية وتأثيراتها تتطلب منا ألا نقف مراقبين بل نأخذ بأسباب السير السريع لمتابعة مسيرة الثورة المعلوماتية. ومن جهة أخرى لا زال الأدب التفاعلي يطرح تساؤلات كثيرة ويعرض إشكالات خطيرة على مستوى بنائه أولا ثم جمالياته وتلقيه، وهل يحتفظ في ظل تنوّعه على صفة الأدبية؟ وغيرها من التساؤلات. وبعيدا عن التنظير وأزمة البدايات قدّمت من خلال تجربتي عيّنة تجريبية حول مدونة للأدب والفن التفاعلي تعمل بشكل برنامج وهي متوفرة على النت مجانا وتحمل تجارب مختلفة في الأدب والفن التفاعلي، كالرواية والشعر والمسرح والفيلم وغيرها من الفنون.


يبقى العمل في البدايات يحتاج تربة لينمو وسواعد أدبية لترتقي به، فنأمل أن تكون الانطلاقة العربية قوية في المجال، وتصبح الصفحة جامعة وموحّدة للمبدعين عربيا وعالميا، وفي مختلف المجالات الفنية، إضافة إلى جانب الممارسة الفعلية للأدب التفاعلي في هذه المدونة فإننا نعتبرها قاعدة نصية مهمة ستساهم في إحداث تراكم نصي يعمل كقاعدة للانطلاق في عملية نقدية موازية، فالأدب التفاعلي في حاجة ماسة إلى نقد تفاعلي نابع من طبيعته موظفا منهجا مختلفا يتماشى والخصوصية الفلسفية والمعرفية للأدب التفاعلي، وعليه فالعملية ليست هيّنة على جميع مستوياتها الإبداعية، والنقدية وقبلها الفلسفية التأسيسية، وهو ما نعتبره أمرا ضروريا من أجل التأسيس ومنه "فتناول الإنتاج الأدبي الرقمي العربي بالتحليل والمساءلة، يعد واجبا حضاريا بامتياز" وهو ما سنحاوله خلال دراساتنا المقبلة، ونشرنا لثقافة التفاعل الرقمي على أوسع نطاق وفي جميع مجالات الأدب والفن.