الثورة الرقمية والتغير الباذخ.. سينما على إيقاع التكنولوجيا
في البدء كانت أسئلة تسعينيات القرن الماضي حول الثورة التكنولوجيا، أغلبها لها علاقة بتصيد الحنين والنوستاجيا، من نوعية هل انتهى عصر المافيولا؟ هل أصبح المصور والمخرج بديلا للمونتير؟ هل المونتير في هذا التحول الجديد يمكن أن يصبح وحده مخرجاً للفيلم؟..
واليوم يوجد السؤال الملح حول وضع دور العرض السينمائي وأساليب المشاهدة، كلها أسئلة مشروعة، لكنها لا يمكن أن تكون نفياً لمنطق التطور أو غض الطرف عن أن السينما شأنها شأن الحياة تيار متدفق، متصل الظواهر، لا يمكن فصل لحظته الراهنة عن ماضيه أو مستقبله، لذلك فإن أي محاولة للإجابة عن سؤال انتعاش التطور الرقمي في السينما وحركته السريعة مثلاً، تتطلب ضرورة العودة إلى ما قبل، من أجل فهم أفضل، كذلك تستلزم استشراف ما بعد، لأن الحاضر لابد وأنه سيمتد في المستقبل، فالظواهر تتفاعل مع مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة، بل والقانونية أيضاً، لتصوغ نفسها ببطء يصعب الانتباه إليه أو إدراكه في لحظة التشكل والتغير.
من هنا فإن هذا التطور في حقيقته امتداد بشكل أو بآخر لمنوال التطور التكنولوجي الذي لا يعقل أن نتجاهله، ولمزيد من الدقة فإن دخول عصر الكمبيوتر والإنترنت، والقصف الإعلامي المكثف الذي استهدف تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، وهي المفاهيم التي تحدث عنها من قبل عالم الاتصالات الكندي مارشال ماكلوهان وصاغها في عبارته الشهيرة "العالم أصبح قرية كونية صغيرة"، كما أشار إلى نبوءة انتصار الشكل على المضمون عبر دراسته المهمة "الوسائل هي الرسائل"، بمعنى أن جهاز التليفزيون في حد ذاته الرسالة التي يستقبلها الجمهور ويتعود عليها ويخضع لها، وليس المضمون الذي يقدمه التليفزيون، فإذا تعود الناس على الجهاز وألفوه فإنهم بعد ذلك سيكونون مؤهلين للاقتناع بأي مضمون يشاهدونه فيه، أو على الأقل سيكونون مستعدين للتفاعل مع هذا المضمون بالتأييد أو الرفض، لكنه في كل الأحوال سيكون ركناً مهماً في حياتهم وبرنامجهم اليومي.
بالطبع لم يكن هذا المثل التليفزيوني بعيداً عن السينما، كما لم يكن الترويج للعولمة بعيداً عنها كذلك، حيث انتقلت ظاهرة "المول" عبر المحيط لتجد لنفسها مكاناً في بلادنا منذ فترة، وانتقلت معها ما يسميه المفكر الفرنسي إيناسيو رامونيه "ثقافة المول" أو ما يسميه مواطنه ريجيس دوبريه بـ"الفيديولوجيا" وهو المصطلح الذي قال دوبريه إنه وريث "الأيديولوجيا"، بما يعنيه ذلك من انتصار للاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون (الفيديو) على حساب الأفكار والقناعات (الأيديولوجيات)، بل أنه أكد في كتابه "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" أن هذه "الفيديولوجيا" السبب الأساسي في سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي وإفساح الطريق لهيمنة أمريكا على العالم
هذا التأثير المفزع للصورة يرصده بنيامين باربر في دراسته المهمة "ثقافة الماك وورلد في مواجهة الديمقراطية"، مشيراً إلى أن "الفيديولوجيا" هي أداة الثقافة العالمية الأمريكية، للانقضاض على ثقافات العالم التقليدية من خلال أسلوب يشبه طريقة "الفيروس، فهي تلتهم ثقافات الآخرين من داخلها، فترى مثلاً أن الإيقاعات الأمريكية اللاتينية تتداخل مع "البوب" في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، وميكي ماوس يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس، وماكدونالدز يرتدي الملابس العربية والدجاج يذبح على الطريقة الإسلامية، المهم أن يؤدي كل شيء في نهاية المطاف إلى أمريكا والرأسمالية، وتتحول أيقونات الثقافة الأمريكية إلى أحصنة طروادة التي تتسلل ويتم تسريبها إلى داخل بنية الثقافات العالمية حتى تعجز عن مقاومتها، وتستسلم بطواعية للأمر الواقع الجديد
هذا المدخل الطويل نوعاً يعني أنه لا شيء يأتي من الفراغ ولا يذهب إليه، أو حسب تعبير الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل "ليس هناك أقوى من فكرة آن أوانها"، ومن الواضح أن الأوان كان قد آن لمرحلة ونقلة جديدة في السينما ساهمت فيها سياسات وممارسات محلية وكونية هي بنت الزمن واللحظة، ولم تكن مجرد صدفة عمياء أو ضربة حظ، أو مجرد قرارات وإنجازات مبعثرة تبدو بعيدة عن بعضها مثل التحسن المذهل الذي طرأ على معدات الصوت والتصوير والمونتاج وماكينات العرض، وثقافة التلقي التي خرجت بمشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام "المول" أولاً ثم المكوث في المنازل أمام منصات رقمية للأفلام ثانياً.
هنا يجب الإشارة إلى أن الثورة الرقمية في السينما بدأت عالمياً منذ التسعينيات، وهو أمر ليس مبهماً أو عويصاً؛ فمن يمكن أن ينسى مثلاُ "قتلة بالفطرة" (1994) إخراج أوليفر ستون، وإن كانت البدايات لم تتخذ أبعادها الحالية سواء جمالياً أو اقتصادياً، لكنها كانت الانطلاق إلى الآني المستحدث، ربما لم يكن التصوير فقط نقطة استهلال نافرة وبارزة، لأنه لا يمكن التغافل عن تأثره الأخاذ بالثورة الرقمية، بينما هناك عنصر آخر في الصناعة السينمائية هو "المافيولا" تراجع، حيث غادرها أهلها من فناني المونتاج إلى الكمبيوتر وأجهزة المونتاج الرقمي، أتذكر في هذه اللحظة رواية للناقد كمال رمزي عن واحد من عتاة المونتاج في مصر وهو المونتير عادل منير أنه في البدء كان متحفظاً تجاه المونتاج الرقمي ولم يتخيل فكرة الاستغناء عن المافيولا، لكنه فعل واعترف بأن هذا الجديد مذهل ومنجز بدرجة لا توصف، في نفس المسار تغيرت صالات العرض السينمائي كما تغير الكثير في صناعة السينما إثر هذه الفورة التي جعلت الخيال الإبداعي ممكناً وبتكلفة ووقت أقل إلى حد ما، هذه الانتفاضة التكنولوجية إذا جاز توصيفها كذلك، امتدت إلى مصر أيضاً في تسعينيات القرن الماضي، إذ لجأ مخرجون كبار بداية للتصوير بكاميرا رقمية، كوسيلة لخفض التكاليف، ذريعة من ذرائع المقاومة في مواجهة تعسف الشروط الإنتاجية التي فرضتها السوق التقليدية.
ربما كانت الصدفة هي ما جعلت من المخرج يسري نصر الله أول المتقدمين في السينما المصرية إلي ساحة الديجيتال بفيلمه "المدينة" (1999) سيناريو وحوار ناصر عبد الرحمن، راهن يسري نصر الله على التجربة، ما عبر عنه حينذاك في تصريحاته الصحفية قائلاً: "أتصور أن تجربة المدينة طرحت حلولاً جديدة على المستوى الجمالي والإقتصادي مناسبة تماماً لحال السينما المصرية، نحن نتحدث عن فرق هائل في التكلفة بين الديجيتال والـ 35 مللي، كما أن هناك مشاهد في الأفلام لا يمكن تصويرها جيداً إلا بالفيديو، مثل مشهد السباحة في النيل ليلاً، وهو من أجمل مشاهد (المدينة)، فلو أنني حاولت تصويره 35 مللي، لكنت إحتجت إلى إضاءة عالية جداً ودرجة حساسية للفيلم الخام مكلفة إلى حد كبير".
حدث ذلك بعد فورة أفلام الديجيتال التي اجتاحت العالم في الخارج، لاسيما مدرسة "دوجما95" الدنماركية مثلاً، تلك التي غيرت المشهدية التقليدية سواء في عمل الاستوديوهات أو أسلوب العروض، كما فتحت أبوابا مغلقة أمام سينمائيين آخرين في مصر غير يسري نصر الله؛ للتجريب في هذه المساحة، منهم أسماء البكري في فيلمها "العنف والسخرية" (2003)، حيث نالت مساحة من الاستقلالية قائلة: "بصراحة الديجيتال كان الوسيلة الأنسب لتصوير فيلمي الذي عانى من مشاكل إنتاجية كبيرة، فقد ذهبت به إلى جميع جهات الإنتاج العامة والخاصة في مصر ورفضوه، فلم أجد حلاً غير الديجيتال لتجاوز الأزمة والعمل دون القلق من التكلفة المادية، وهي خطوة جريئة خطاها الكثيرين من المخرجين في العالم كله ولاسيما أنها تعطي نتائج جيدة بتكلفة أقل، كما أنها تمنح المخرج الحرية في التحرك باستقلالية أكثر".
بينما مثلت تجربة محمد خان في فيلمه "كليفتي" (2004)؛ نوعاً ما طوق نجاة: "في ظروف السينما الحالية والهيمنة على التوزيع والإنتاج في وقت واحد، فلا مجال لأي موضوع طموح أن يجد له مكاناً على الساحة، ولا سبيل للخلاص من هذه السيطرة، إلا عن طريق الديچيتال الذي يعطي الحرية للمبدع في تقديم ما يريد، دون أن يكون تحت رحمة الإنتاج، فالديجيتال هو المستقبل، وأنا سعيد بتجربة كليفتي لأنها لا تعتمد على شباك التذاكر، ومن ناحية أخرى تسمح لي بتقديم تجربة أفخر بها في ظل الظروف الإنتاجية الحالية، لأنها حققت لي حرية كاملة بطريقة غير مكلفة"، وهي نفس الظروف التي أسهمت أن يتبع المخرج خيري بشارة مسار الديجيتال في فيلمه "ليلة في القمر" الذي لم يكلفه كثيراً، حسب تصريحه، ولم يستغرق التصوير سوى ثلاثة أسابيع وبضعة أيام، هذا غير التجارب المتتابعة في السينما المستقلة، كما في أفلام المخرج إبراهيم البطوط (إيثاكي، عين شمس، حاوي، وغيرهم) أو المخرج أحمد عبد الله (هليوبوليس، ميكروفون، وغيرهما).
إذا كانت هذه الأفلام عانت من عثرة الإنتاج، فلجأت إلى الديجيتال كحيلة أو حل، فإن ما يصطلح عليه بـ "أفلام بديلة"؛ وهو المفهوم الذائع لنوعية السينما غير التجارية السائدة، لا يزال يعاني إنتاجياً وكذلك في العثور على منافذ العرض، ربما نجد على أرض الواقع صالة "زاوية" هي أول دار عرض للسينما البديلة في مصر، تلبي احتياجاً حقيقياً للمغاير، أو أنها باتت الخطوة الأولى في درب يسعى إلى مشاريع لا تذعن للواقع التقليدي، وهو ما انتقل إلى منصات المشاهدة الإلكترونية، كمراوغة أخرى في عدم الامتثال، فتطالعنا منصة رقمية مثل "شوف فيلم" الذي أسسها المبرمج وجيه اللقاني، قررت التخصص في عرض الأفلام البديلة مصرياً وعربياً وعالمياً، أفلام تطرح سرديات سينمائية مختلفة تتحرى البعد عن التقليدية وإعمال التجريب بشكل أكبر، وهي استراتيجية مغايرة لمحتوى المنصات الرقمية الأخرى ذائعة الصيت عالمياً، تلك التي انتشرت وتعددت مؤخراً، كوسائل مستحدثة للمشاهدة السينمائية؛ مثل نتفليكس، أمازون، هولو، آبل تي في، موبي، وغيرها من قنوات للمشاهدة والبث المنزلي.
التعددية تعني أن هناك اجتياحا للتغيير في العالم كله، انكشفت ملامحه بعد تفشي وباء كورونا الذي فرض قوانين جديدة على الحياة أبرزها التباعد الاجتماعي والعزلة، لن تنتهي بانتهاء الوباء؛ ثمة تغيير حدث ومنح العالم هيئة جديدة، ليس قناع الوجه وحده ما أفصح عن التشبث بالحياة، إنما هناك الرغبة في التواصل مع هذه الحياة والانخراط في حكاياتها وصورها، لذا فإن العالم الرقمي والمشاهدة السينمائية الرقمية لن تخفت، بل سوف تزيد مساحاتها عما قبل، قد تكون العزلة المنزلية سبباً جلياً في اللجوء إلى قنوات البث الرقمي عبر شبكة الإنترنت، كوسيلة متوفرة لمشاهدة الأفلام بتكاليف قليلة، في نفس الوقت تظهر تظهر الأرقام الاستطلاعية أن سوق البث الرقمي يتسع بقوة كبيرة، قبل سنوات لم يكن متاحاً غير "نتفليكس"، لكن انضمت إليها قنوات أخرى تسعى لاجتذاب متفرجيها.
صحيح أن "نتفليكس" بازدياد عدد مشتركيها، لا تزال هي الأكبر بين كل المنصات المتاحة حاليًا، وأن هذا يأتي من خطة التوسعية التي شملت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا و 130 بلدًا إضافيًا حول العالم، وكذلك شراكتها مع الشركات المحلية في هذه البلاد، لكن هناك منافسة محتدمة في سوق البث الرقمي، تحاول من ناحية الحد من توسع نتفليكس، ومن ناحية أخرى اقتناص أكبر عدد من المشتركين، لكن النتيجة الساطعة هي أن هذا الحضور الجارف يحقق ما سبق أن أشرنا إليه وهو الامتداد الطبيعي للتطور التكنولوجي، والأهم أنه يتيح للجمهور الخيارات المتنوعة للتلقي والتواصل مع مقومات زمنه الجديد.