«حنة آرنت».. سيرة نشطة لامرأة استثنائية
يحتفي الوسط الثقافي اليوم الأربعاء بميلاد المناظرة السياسية والفيلسوفة
حنة آرندت فقد كانت بمثابة الشعلة النشطة من الفاعلية السياسية والناقدة القادرة
علي استعادة ما نُسي من الإنسان وحرياته، في مستويات فضح الضياع الذي أنتجه العصر
الحديث.
ولدت حَنة آرندت في 14 أكتوبر عام 1906 في هانوفر بألمانيا وتنتمي لعائلة
ذات أصول يهودية، اهتمت بالأدب والقراءة والمعرفة، فقدت والدها في سن صغيرة حيث لم
تتجاوز عقدها الأول؛ لذا كان دور الأم جوهريًا في تشكيلها وتنشئتها فقد حصلت علي ثقافتها
منها، فقد اطلعت علي التطورات السياسية في ألمانيا بما في ذلك ما يتعلق بالزمرة
السبارتاكوسية للحزب الاشتراكي الديموقراطي التي مثلت جماعة شيوعية ظهرت في
ألمانيا 1918 بزعامة روزا لكسمبرغ.
درست آرندت في جامعة ماربورغ وذلك تحت إشراف مارتن هيدجر، وقد انعكس تأثيره
عليها في عدة جوانب وخاصة بعد إرتباطها عاطفيًا به ومنها استعادتها الإرث اليوناني
وخاصة المفاهيم واشتقاقها ودلالاتها.
أنجزت آرندت أطروحة الدكتوراه بعنوان "مفهوم الحب لدي أوغسطين"
تحت إشراف كارل ياسيرز في عام 1929، تلك الرسالة التي رافقتها في رحلتها وهجرتها
من بلد لآخر بعد وصول النازية إلي سُدة الحكم الألماني في عام 1933 وبعد اعتقالها
ثم إطلاق سراحها بتدخل من هيدجر لتضطر آرندت لمغادرة ألمانيا وتبدأ حياة اللجوء
وتجربة الإنسان الذي لا وطن ولا هوية له لأكثر من ثمانية عشر عامًا.
انتقلت آرندت إلي فرنسا والتقت هناك "بجان بول سارتر، وبوالتر
بنيامين، وألبير كامو، وريمون آرون"، إلا أن النازي هتلر استطاع أن يدخل
فرنسا ويحتلها فانتقلت إلي الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1941 وقد تمكنت من انتزاع
الجنسية الأمريكية بعد مرور عشر سنوات لتصبح مواطنة أمريكية، وترسخت أقدامها في
نيويورك فقد استمرت بالتدريس والكتابة إلي أن توفيت في عام 1975.
وقد قدمت آرندت أفكارها من خلال كتابها أصول الشمولية والوضع البشري وكذلك
حياة العقل فقد ركزت على الأحداث السياسية في ذلك الوقت والتي كان لها بالغ الأثر
في تشكيل هويتها الثقافية.
يعد كتاب آرنت "أسس التوتاليتارية" الصادر في عام 1951 المنجز
الأهم الذي جعلها تحتل مكانتها في مصاف النُخبة الفكرية في القرن العشرين، حيث تري
أن التتاليتارية هدفها الأول هو القضاء علي الفعل الإنساني فسيطرتُها تتجه نحو
إلغاء الحرية الموصفة، بل تميل إلي القضاء علي كل ظاهرة عفوية بشرية عامة فالنظام
التوليتارى: هو غياب كل سلطة أو تراتبية من شأنها أن تُعين نظام الحكم فهي تعتمد
علي تحطيم المجال العام وتحويل المجتمع بكافة طبقاته إلي الجماهير.
يمثل كتاب "ايخمان في القدس: تقريرا حول تفاهة البشر" عام 1963
عملاً مهمًا لمن أراد أن يطلع علي أهم محاكمات القرن العشرين فحكايات تفصيلية عن
أبشع جرائم القتل الممنهجة وضياع معني الإنسانية والكشف في خضم ذلك عن أهم الأسباب
الرئيسية لحصول محرقة الهولوكست ودور المؤسسة الصهيونية في حدوث ذلك وقد أثارت
آرندت الجدل حول كتابها وخاصة بعد حضورها لجلسات محاكمة أدولف إيخمان وما قدمته من
شواهد وتقارير عنها وتصريحاتها التي خالفت الجو العام للمحاكمة التي كانت تري أنها
مجرد محاكمة مسرحية ليس أكثر.
لذا فقد أطلقت عبارة "تفاهة البشر" وصفًا لإيخمان النازي في زجه
لليهود في معسكرات الإبادة بصورة لا تتضمن شرًا أصيلاً في جوهره ولكن كان لتفاهته،
فدائمًا السلطة التوليتارية تجعل مرتكبي الجرائم بإيعاز منها دون الشعور بفظاعة ما
ارتكبوا، هكذا كانت التوليتاريات تعمل علي مسخ إنسانها وتحويله من فاعل إلي كادح
وجعله محصورًا بما يحتاجه لقوته دون ما يجب أن يفعله بوصفه حرًا علي حد وصفها.
قدمت أرنت مفهوم سلبي عن الحداثة وذلك من خلال كتابها الوضع البشري حيث
ركزت جُل اهتمامها علي الخسائر التي وقعت نتيجة هيمنة التقاليد والأنساق الدينية والاجتماعية
وكذلك سيطرة السلطة فهي تري أن الحداثة قد قيدت مجال الفعل والخطاب العام لصالح
العالم الخاص للتأمل والسعي وراء المكاسب الاقتصادية، ولم تكتف آرندت في تقديم
مفهومها عن الحداثة وتباعتها فقد قدمت رؤيتها عن المفاهيم الأساسية في هذا المجال
مثل: العنف، والثورة والديمقراطية، والسيطرة، الشمولية، القوة، الفعل وغيرها.
فيمكننا القول أنها تماشت مع مشروعها تطبيقًا وتمثيلاً فقد كانت قادرة علي فضح
الضياع الذي انتجه نظام العصر الحديث وخاصةً ما نتج عنه في السبيل السياسي من
التوليتارية وما نتجت عنها ومن ثم بدأ يتقلص المعني الحقيقي للإنسانية.
وقد تركت آرندت ورائها أثارًا جمة من المؤلفات التي أثرت الأوساط الثقافية
والسياسية في النصف الثاني من القرن العشرين ومن كُتبها: "ما السياسة، ما
الكذب، كتابات يهودية، وعود السياسة، تأملات في الأدب والثقافي، الحب والقديس
أوغسطين، المسئولية والحكم" وغيرها من الإرث الثقافي الذي جعل منها امرأة
استثنائية استطاعت أن تتحدي كبوات الزمن التي رافقتها منذ الصغر في شتي جوانب
حياتها من هجرة ولجوء وهوية وحب ومعرفة.