رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الفرعون والكاهن

14-10-2020 | 14:08


لابد أن مؤرخى الأجيال القادمة سيحتارون طويلاً إذا ما عن لأحدهم أن يقيم الأدوار التى لعبهامحمد حسنين هيكلعلى مسرح الصحافة والسياسة المصرية والعربية إذ المؤكد أنهم سيضلون الطريق إلىهيكلبين جبال من التفاصيل، وتلال من الأكاذيب، ومتاهات من أدوات المكياج..

ومشكلة البحث عنهيكلأن فصل الذروة فى عمره، كان مضيئاً بشكل يعمى عن الرؤية.. ففى تلك السنوات الثمانى عشرة - التى انتهت فى 28 سبتمبر 1970 - كانهيكلملء السمع والبصر، لا يغادر الخشبة، ولا تخطئه أعين المتفرجين.. لا تكف تليفونات مكتبه عن الرنين، ولا تخلو غرفة سكرتيرته الشهيرةنوال المحلاويمن الزائرين ملوك ورؤساء جمهوريات وساسة ووزراء ومناضلين وسفراء وكتاب ومفكرين وطالبى حاجات - ينتظر بعضهم بالساعات، بلا ملل، ولا شكوى، بل ويمتنعون باختيارهم عن التدخين لأنه يضايقنوال المحلاوي”.

كان باختصار يقف تحت كل أضواء الدنيا، كما يليق برجل كان يوصف - آنذاك - بأنه أقوى رجل فى مصر بل فى الشرق الأوسط، ولعل الوهج الزائد عن الحد، الذى كان يشع منه وحوله فى تلك السنوات العجيبة - هو الذى جعل أكثر الفصول إضاءة فى عمره، أكثرها غموضاً وأحقلها بالظلال ومناطق العتمة.

وليست أصول صنعة التاريخ، هى وحدها التى ستفرض على هؤلاء المؤرخين المساكين العودة إلى الفصل التمهيدى الذى سبق دخولهيكلإلى خشبة المسرح فى 23 يوليو 1952، وهو فصل استغرق عشر سنوات بدأت فى عام 1942، كانهيكلخلالها مجرد صحفى بين صحفيين، استهل حياته الصحفية - وهو فى التاسعة عشرة - محررا عسكرياً فىالاجيبشيان جازيت، ثم انتقل منها بعد عامين، ليعمل فىآخر ساعة”.. وبعد عامين آخرين - وفى عام 1946 - يشترى أولاد أمين - التوأمانعليومصطفي” - المجلة من أستاذهمامحمد التابعي، فينتقل الثلاثة - التابعى وآخر تلامذتههيكلوالمجلة - إلىدار أخبار اليوم، وهناك يستقرهيكلصحفياً بين صحفيين، لا هو أشهرهم، ولا هو أخملهم.. لكنه كان بالقطع أذكاهم.

تلك عودة - لا مفر منها - للماضى، سيقود المؤرخين إليها - فضلاً عن أصول الصنعة - الأمل فى العثور على قبس من نور يضىء عتامة أحداث سنوات الذروة، وهو أمل لابد وأن يقود هؤلاء المؤرخين التعساء إلى فصل الختام، الذى انطفأت بعده أضواء المسرح، وأنوار الصالة، ولم يبق سوى تصفيق بعض المتفرجين، وصفير الآخرين، وصمت الأغلبية التى عودتها المحن، أن تداوى بالنسيان كل الجراح!

ومن سوء حظ هؤلاء المؤرخين أن حظهيكلقد دفعه إلى المسرح ليلعب البطولتين الأولى والثانية، فى مسرحية واحدة، تنتمى لزمن واحد، فكانالمجان بريمييهفى الصحافة، وصديق الشجيعفى السياسة.. وما أن اسدل الستار على المسرحية، حتى اختلف الناس على الزمن ذاته، فقال الكارهون وطالبو الدم شائنين: هذا زمن الرعب النقى، والقهر الصفى.. وقال الوالهون غراماً: بل زمن العظمة التى لم تلد ولم تولد.. وفى ضجيج المناظرة، ضاعت أصوات خافتة، اغتصب أصحابها نصف ابتسامة، وذرفوا الدمع من عين واحدة، وقالوا:

- إنه زمن عبدالناصر، آخر الفراعنة الأفذاذ، ذلك الذى كان عظيم المجد والأخطاء، وليسهيكلسوى كاهن تعيس الحظ، مات فرعونه قبل الأوان، وتركه وحيداً بين جدران المعبد، وقد انفض المرنمون، وهرب المصلون، وتغير اتجاه طوابير الذين جاءوا يوفون بالنذور، ولم يبق سوى الكاهن الأعظم، يطلق البخور، ويتلو التعاويذ، وينشر الوثائق، ويعد أسانيد الدفاع.. فسبحان الذى بيده الملك، يؤتى الملك من يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شىء قدير!

وهكذا يتعقد الطريق إلىهيكلوتكثر فخاخه، وتتداخل الحدود بين معالمه وعوالمه.. مع أنهيكل” - كظاهرة تاريخية - ليس أكثر من تنويع على ثنائية مصرية شهيرة وكثيرة التكرر هى ثنائيةالفرعونوالكاهن”.. فهكذا كان حظنا، أو هكذا كانت عبقرية المكان الذى نحتله على خريطة الدنيا: أن يحكمنا دائماً فرعون قد يأتى فيملؤها عدلاً ونوراً، أو يأتى فيملؤها ظلماً وجوراً، لكنه فى كل الأحوال معبود بقوة القهر أو قوة الحب أو قوة النهر الذى فرض علينا دائماً أن نخضع لقوة مركزية جبارة، تحفظ الاستقرار، وتنظم تدفق المياه فى ملايين من قنوات الرى التى تخرج منه، حتى لا يجتاحنا الفيضان أو يقتلنا الجفاف، لذلك كان منطقياً ألا يستغنىالفرعونعنكاهنيعطى الروح لقوة القهر، وقوة الحب، ويبشر وينصر ويزين ويدافع ويهاجم ويحشد المصلين فى بهو المعبد.

وهكذا كانعبدالله النديمكاهنأحمد عرابيوترجماته إلى قلوب الناس، وكان بسيطاً كزعيمه، ومخلصاً وسيئ الحظ مثله،

وكانعباس العقادهو الكاتب الجبار للزعيم الجبارسعد زغلول، يدافع عنه ويشن الغارات على أعدائه، ويطلق نيران قلعة الجبار عليهم فتتناثر جثثهم على صفحات الصحف!

وكانمحمد التابعيهو صحفىمصطفى النحاس، حارب إلى جواره بالمانشيت والخبر والمقال القصير والتعليق الساحر.

وكانهيكل” - كما قال هو نفسه - آخر تلامذةمحمد التابعي”.. وخلال السنوات التى قضاهاهيكلمعالتابعي، ثم معأولاد أمين، كان يراقب بذكائه المشع، قوانين لعبةالفرعونوالكاهن، يدرسها عن قرب، ويحللها بعمق، ويحفظها ظهراً عن قلب، وكانمحمد التابعيقد لقن تلامذته أن الصحفى يمكن أن يكونصاحب جلالةحقيقية، وملكا يملك ويحكم، دون أن يغادر مقعد رئيس التحرير، لأن الصحافة صاحبة جلالة فعلية، فطالما أن الفرعون لا يستغنى عن الكاهن، ولا يعيش دونه، فمن واجب الصحفى أن يرتقى بمهمته - ومهنته - من مجرد نشر الأخبار إلى المشاركة فى صنعها.. ومن حقه أن يكون طرفاً فى تخليق الحدث، الذى ستقع على عاتقه مهمة تزيينه أمام الناس، أو تفسيره لهم.. وذلك ما كان يفعلهالتابعي، المعجبانى ، الذى يعرف قيمة وتأثير وسحر كهانته.. فكان يشارك فى تشكيل الوزارات وفى حل الأزمات، وفى تدبير الانقلابات.

وحين انتقلهيكلإلىأخبار اليوموعرف صاحبيها - “عليومصطفى أمين” - وجد نفسه قريباً إلى الجيل السابق عليه من تلامذةالتابعيوعاين عن قرب عالم الكهانة.. وعرف صورة منها فى فتوتها.. فقد كانأولاد أمينهم نجوم ذلك الزمن:  يمرحان فى إبهاء القصر الملكى، ويصادقان الحاشية، ويتصلان بالوزراء، ويستقبلان السفراء والزعماء، ويعرفان أسرار المفاوضات، ويحملان الرسائل بين أبطال المسرحية، ويطلعان على ما يجرى فى غرف النوم وما يدور بين الفراعين من صراع على اللحم والدم والعواطف، ويطلقان البخور بين أعمدة الهيكل، وربما يدهش كثيرون، لأن هذا الفصل التمهيدى من عمره قد انتهى، وهو مجرد عضو منتسب فى نادى الكهانة.. فانتصرت ثورة يوليو وهو لا يعرف من فراعينالعهد البائدسوى اثنين أو ثلاثة من فراعين الدرجة الثانية، كان بينهمعلى الشمسى باشاونجيب الهلالى باشا، لعله تعفف العاجز المغلوب على أمره.. ففى تلك السنوات، كان المعبد مزدحماً بديناصورات الكهان: أولاد أمين وأولاد أبوالفتح وتادرس نمر وفكرى أباظة وكريم ثابت.. وكان الصراع محتدماً بين ديناصورات الفراعين: الملك فاروق والسفير البريطانى ومصطفى النحاس وأحزاب الأقلية.

ولأنهيكللم يكن يوماً أحمق فإنه لم يقتحم الحلبة ليصارع على مرتبة الكاهن الأعظم، ربما لأنه أدرك بواقعية أنه يكاد يخلو من كل الأسلحة التى تؤهله لخوض الحرب، فهو لم يولد  - كأولاد أمين - فى بيتسعد زغلول، ولم يتعلم فى جامعةجورج تاونوجامعة شيفلدكما تعلما.. ولم تحمله الملكة الوالدة، وتهشكه، وهو شرف ناله التوأمان وهما رضيعان، ولم ينلههيكل، فكل مؤهلاته أنه ابن أسرة مستورة، تنتمى للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وكل شهاداته، هو دبلوم التجارة المتوسطة، ودبلوم فى القانون والإعلان، حصل عليه، بالمراسلة، من أحد المعاهد الأجنبية، ودرس سنتين بقسم الدراسات الاقتصادية بمدارس الليسيه الفرنسية.. ولعله لم يقتحم الحلبة أيامها ليحصل على مكانة الكاهن الأعظم، لأنه أدرك أن عرش الفرعون الأعظم خاليا، وكان معنى ذلك أن الصراع الذى يدور على موقع الكاهن الأعظم، هو مجرد حماقة، أما معناه الأعمق - طبقاً لقوانين التاريخ المصرى - فهو أن قمر الزمن قد شك أن يدخل فى المحاق.

وقد كان: هو قمر الزمن الماضى ليطمره المحاق، وزحف الفراعين الشائخون يتوكأون على عكاكيزهم، وفى معينهم زحف شيوخ وشباب الكهان، وقبلة الكل هو معبد الفرعون الجديد، فى ذلك المبنى الذى لا يزال - إلى الآن - يحمل اسم مجلس قيادة الثورة، وشعار للجميع: مات الملك.. عاش الضباط الأحرار.. وبينهم كانهيكلأصغرهم سناً، وأكثرهم ذكاء وطموحاً وأبعدهم عن شبهات هؤلاء الضباط الشبان الخشني الوجوه والملابس والكلمات.. ولأنه كان مجرد عضو منتسب فى نادى كهان الزمن المنهار، فإن الشبهات التى أحاطت بدارأخبار اليوم” - مركز الكهانة الرئيسى للفرعون المخلوع لم تلحقه مع أنه كان أحد كواكبها اللامعين، وفى اليوم التالى للثورة، كان كبيرا الكهنة - مصطفى وعلى أمين - يعتقلان بسبب وشاية لم يتثبت منها أحد، وكانهيكليذهب فى صحبة الأستاذالتابعيليتوسط للإفراج عنهما، ومع أن المياه قد عادت إلى مجاريها، وساد الوئام بين الفراعنة الجدد وبينأخبار اليوموكهانها، فإن الشبهات التى أحاطت بالكاهنين الكبيرين، كانت مؤشراً على أن فراعنة الزمن القادم، ينظرون بريبة إلى كهنة الزمن النهار.

سبحانك اللهم، تولج الليل فى النهار.. وتولج النهار فى الليل، وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى.. وترزق من تشاء بغير حساب!

سقطت معظم الحواجز التى كانت تقف بينهيكلوبين عرش الكهانة، الذى أصبح الآن - 1952 - خالياً!

كان الفراعين الجدد أولاد عائلات مستورة مثله، ولم يكن أحدهم قد نال شرف تهشيك الملكة الوالدة، وكان الكهنة القدامى قد خرجوا من السباق بعد أن قعد بهم الروماتيزم وقيدتهم الشبهات، فلم يتحركوا من مكانهم على الخشبة،

وكان الزمن القادم يبحث عن كاهنه وشاعره ومغنيه، أما المنافسون الحقيقيون، فقد كانوا الفرسان الذين شاغبوا على الزمن القديم، وشنوا الغارة ضده، وكان بينهم ثلاثة على الأقل، يعرفون كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة معرفة وثيقة، إبان سنوات الإعداد لها، ويصادقون عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم والآخرين، لمع من بينهم - فى العامين السابقين على الثورة - “إحسان عبدالقدوس، صاحب معركة الأسلحة الفاسدة، وأحمد أبوالفتح، بطل معركة قوانين تقييد حرية الصحافة، وحلمى سلامصاحب الحملة على فساد إدارة الجيش!

ذلك سباق لم يكن لهيكل مكان فيه.. فقد قامت الثورة وتقارير القلم المخصوص، تقول عنه إنهبلا لون سياسي”.. ومع أنه قد عمل فىالإجيبشيان جازيت” - ذات الصلة التاريخية بدار المندوب السامى البريطانى - وفىآخر ساعة” - المجلة الوفدية المتشددة - ثم فىأخبار اليومجريدة القصر، فإن دخل هذه الصحف كلها وخرج منها وقد حافظ علىنقائه السياسي، فظل بلالون”.، والغريب أن هذا السباق قد انتهى فجأة بعد عامين فقط من قيام الثورة، فإذا بهيكل - الذى لم يشغب على العهد القديم، ولم يصنف بين الثائرين عليه، يفوز بمنصب الكاهن الأعظم، أماأحمد أبوالفتحفقد أغلقت جريدتهالمصريوهاجر ليعيش فى المنفى عشرين عاماً، وتحطمت ذراع وضلوعإحسان عبدالقدوسإبان تلقيه لدروس فى الكهانة فى إحدى زنازين السجن الحربى.. وكانحلمى سلاميلهث هناك فى آخر الطابور، حتى جاء اليوم الذى قادته فيه الرغبة فى الانتصار علىهيكلإلى حماقة سارت بذكرها الركبان.

فى تلك السنة - 1954 - أثبت للفراعين الجدد، أنهمأولاد آمونحقاً، وأنهم يفضلون هؤلاءالذين بلا لونلأنهم سيخلقون لونهم الخاص من ناحية، ولأنهم - وهذا هو الأهم  لا يريدون شغباً يفسد عليهم الاستقرار الذى يريدونه، ليصنعوا مصر التى يريدون.

وهكذا بدأت سنوات المجد التى كان وهجهيكلخلالها يكاد يعمى الأبصار، واحتل الفتى الريفى القادم عنباسوسأقرب مكان إلى القمة.. وتخلق لأول مرة، وبشكل يكاد يكون مثالياً، حلم محمد التابعى فى أن يصبح الصحفى صاحب جلالة حقيقية.. فجلسهيكل” - آخر تلامذته - على مقعد بجوار عرش الفرعون الذى جاء من قريةبنى مرليملأها عدلاً ونوراً بعدماملئت ظلماً وجوراً”.

لم يحصلهيكل على كرسى الكهانة بالصدفة، بل تطبيقاً لقوانين التاريخ.. ولأن عبدالناصر لم يكن فرعوناً تافهاً فإن كاهنه كان مقتدراً وذكياً وموهوباً بالفطرة، ورث كل علوم الكهانة من عصر مينا، فلم يبدد ما ورثه، بل أضاف إليه وطوره، وعصرنه.. ولابد أن الذى ساعده على الإتقان، إحساسه الصادق بأن كهانته كانت - فى الأغلب الأعم - تدافع عن قضايا معظمها حق وعدل.. وسوف يمضى زمن أطول مما يقدر أكثرنا تفاؤلاً، قبل أن تتكرر ثنائيةالفرعونوالكاهنبهذا المستوى الرفيع، ذلك أنهيكللم يمارس دوره بمنطق الكهنة المأجورين، بل بروح العشاق المفتونين، فسخر كل مواهبه فى خدمة الفرعون الذى جاء من هناك حيث الكل فى واحد: يصوغ له الخطب والرسائل، ويؤلف له كتاباً فى الفلسفة وميثاقاً فى العمل الوطنى وبياناً فى 30 مارس، ويقرأ عليه الكتب وبرقيات وكالات الأنباء، ويلخص له الصحف والإذاعات، ويسفر بيته وبين ساسة العالم ودبلوماسييه وصحفييه ومناضليه وأفاقيه، ويخرج له قراراته الكبرى، بشكل يعجز عنه أكثر المخرجين المسرحيين اقتدارا، ويكتب عنه وله، كل أسبوع تراميم يوم الجمعة، فيزود المريدين بنشيد يترنمون به، وينحت له تلك الكلمات الإسفنجية التى تمتص دموع الكوارث، وترفع من لعلعة زغاريد الانتصار، فهو الذى سمى كارثة الانفصالنكسة، وهو الذى أطلق الاسم ذاته على هزيمة يونيو 1967، وهو صاحب التعبير الشهير الذى نشر على لسان المشيرعبدالحكيم عامرقبل الكارثة بأيام: نحن نملك أكبر قوة ضاربة ورادعة فى الشرق الأوسط.

ويقبل الليل فلا ينامهيكلبل يظل قابعاً بجوار التليفون الأبيض الذى يصل بينهما، فإذا رن جرسه الموسيقى.. بدأت مساورة الليل بين الاثنين.. وتواصلت لساعات، كما يفعل الرومانسيون من العشاق.

ولعلهيكلهو الوحيد ممن كانوا حول عبدالناصر، الذى ظل نجمه يعلو فى اطّراد، ولعله الوحيد الذى نجا من آثار المعارك الدموية التى كانت تدور فى كواليس القصور وبين مراكز القوى ومديرى المكاتب، مع أن كل الذين كانوا حول عبدالناصر كانوا يحسدونهيكلعلى مكانته لديه، ويكرهونه لذلك، ويرفضون - بدرجة من التعالى - فكرة أن يكون هذا الصحفى المدنى، أكثر قرباً لعبدالناصر منه، وكان ما يرفضونه، هو أحد أسباب تمسك عبدالناصر بهيكل، إذ كان أقرب ما يكون لوجه مدنى لثورة 23 يوليو، أمام الذين لا يستريحون - أو لا يثقون فى الانقلابات العسكرية.. ثم إنه كان نافذة أرحب على العقلية المدنية التى تفتقدها الأجهزة الحساسة المعاونة لعبدالناصر، وبهذه العقلية المدنية.. وبقربه من عبدالناصر استطاعهيكلأن يوقف كثيراً من المهازل والمظالم والكوارث، واستطاع - وهذا هو الأهم - أن يثبت أن المجتمع المدنى المصرى، لا يزال قادراً على أن يقوم بحكمة، ويدبر برشد، لذلك خاض ببسالة، معركة تجديد شبابالأهرام، فلم ينجح - خلال فترة رئاسته لتحريرها “1957 - 1974” - فى وقف خسارتها فحسب، بل نقلها إلى الربح ثم الازدهار، ورفع توزيعها من مائة ألف نسخة عام 1958 إلى 420 ألف نسخة عام 1974.

فى تلك السنوات جعلهيكلمنالأهرامأشبه بسفينة نوح، وحشد فيها ألمع ما فى الوطن من عقول ومواهب وكفاءات وآراء، وأضفى على العاملين بها بعض حصانته، ومنحهم - على مسئوليته - جانباً من الترخيص الممنوح له، فعبروا بشىء من الحرية، وفى أحوال ليست كثيرة عن آرائهم، حتى تحولت إلى مركز عصرى للكهانة يزدحم بالعلماء والأدباء والمفكرين والفنانين وأصحاب المذاهب ومن كل صنف زوجين اثنين.

لكنها رغم كل ذلك، ظلت كسفينة نوح - جزيرة صغيرة تائهة بين أمواج عالية كالجبال تحاصرها من كل الجهات لأنهيكللم يكن يستطيع - فى ظل موازين القوى التى كانت تحيط به، أن يفعل أكثر مما فعل، ولعله أيضاً لم يكن يريد، والواقع أنهيكللم يكن يوماً من هؤلاء الشبان الطائشين الذين يتوهمون أن الواقع يمكن أن تغيره مظاهرة، أو تعيد تشكيله خلية ثورية، وكان هذا أحد أسباب بقائه بلا لون سياسى حتى قامت الثورة، مع أن اللعب بالبالونات السياسية الملونة، كان الموضة السائدة فى مصر الأربعينيات.. وبين جيله من الصحفيين والكتاب.. إذ كان من ذلك النوع الذى يؤمن أن التأثير فى القمة أضمن وأسهل وأكثر إدراكاً للهدف، من الاعتماد على تلك الكتل من الجماهير غير الراعية، التى لا تعرف ما تريد، والتى يصعب الاطمئنان إليها، أما وقد جلس على مقعد الكاهن الأعظم، وأصبح أقرب ما يكون إلى التأثير فى هذه القمة.. فقد اكتفى بذلك.

وبعد أن مات عبدالناصر، قالهيكلإن العلاقة بينهما كانت علاقة حوار مستمر، لكنه لم يقل إن دائرة الحوار الكهربائية كانت مغلقة عليهما.. ولعلهما كانا الوحيدين اللذين يتحاوران فى ذلك الزمن البعيد المجيد.

وقد خرج فيما بعد بنظرية تقول إن عبدالناصر لم يكن فى حاجة إلى حزب يعتمد عليه، وينظم جيوش المريدين الذين تدفقوا بعشرات الملايين إلى حضرته، إذ كان لديه هذا الحزب، ممثلاً فى أجهزة إعلامه القوية التى كانت تقوم بما يقوم به الحزب، وتلك قمة كهانة هيكل، فالشعوب فى رأيه، خلقت لتسمع وتقرأ، لا لتتكلم أو تكتب، والكاهن هوحزبالزعيم أو هوشعبالفرعون.. أما عبارات ومصطلحات.. مثلالشعب العلموالشعب القائدوإرادة شعبنا التى هى بالنسبة لى أمر لا يرد”.. التى صاغهاهيكلوألقاها عبدالناصر، فلم تكن سوى دليل على تفوقهيكلفى كتابة الإنشاء!

وهكذا تحولت العلاقة بين الفرعون والكاهن إلى صداقة عميقة - واندماج فعلى.. وكانت الكهانة المقتدرة قد صنعت من الانتصارات التى توالت فى سنوات المد، أساطير أحاطت رأس الفرعون بأكاليل الغار وفى نهاية ذلك الزمن، بدا وكأن الفرعون قد دمج نفسه فى الكاهن، وأن الاثنين قد دمجا الوطن فيهما، وأن الذى جاء من هناك، حيث الكل فى واحد، قد انتهى إلى هناك، حيث الكل - أيضاً - فى واحد!

وكانت النكسة تزحف - كالقدر - بخطى حثيثة لتهدم المعبد على رءوس الجميع.

وجاء اليوم الذى مات فيه عبدالناصر قبل الأوان: خلا المعبد من الفرعون القوى القادر المعبود انفض سامر المريدين وصمتت أصوات المغوين، وبقى الكاهن وحيداً تحيط به عواصف من كراهية كل الذين حفظتهم مكانته من الفرعون الراحل، وفى ذكرى الأربعين لوفاة الفرعون - وهى تقليد فرعونى - كتب هيكل الشهيرعبدالناصر ليس أسطورة، الذى حكم فيه بأن الزعيم الخالد - هكذا كان عبدالناصر يسمى رسمياً أيامها - كان واحداً من البشر، وليس أسطورة من غيرهم، وأنه لم يترك معبداً، ولم يعين للمعبد كهنة..

وكان المقال واحداً من ذوى كهانةهيكلالمقتدرة، أراد أن يضرب به ثلاثة عصافير بحجر واحد، فينزع من مجموعةعلى صبريفضلاً كانت قد نسبته لنفسها بزعمها أنها تضم تلاميذ عبدالناصر ومريديه والأمناء على رسالته، ويرضى السادات الذى كان هذا الزعم فى جانب منه، يستهدف التقليل من مكانته، وأخيراً فإن المقال ينكر حق الكهانة على غيره، ليحتفظ به لنفسه، والواقع أنهيكلكان قد أدمن الكهانة، لذلك راهن علىأنور الساداترغم أنه كان أكثر الناس علماً بأن المسافة شاسعة بين الفرعون والمتفرعن ولم يكن أمامه مفر من أن يفعل ذلك، فقد كانت عواصف الكراهية التى يحركها على صبرى وجماعته، توشك أن تقتحمه، أما السادات، الذى كان طوال عهد عبدالناصر كامناً بين أعواد الذرة كأولاد الليل يتفرج على صراع السلطة، فلم يكن بينهما ما يدعوه للخوف منه، وكانت كهانةهيكلالمدربة، هى التى اقترحت على السادات، أن يختار الحريات العامة والشخصية والاعتقالات الكيفية وغير القانونية، موضوعاً للصراع مع على صبرى ومجموعته، الذى تفجر فى مايو 1971، بينما كان السادات يريد أن يعلن السبب الحقيقى للصراع، وهو سعى المجموعة لمشاركته فى السلطة، ورفضها وشكلها فى محاولات للتقارب مع أمريكا!

لكنهيكللم يهنأ طويلاً بالقرب من السادات، فقد كان الرجل الذى ظل منزوياً ومجهولاً وبلا مكانة طوال عهد عبدالناصر، يريد أن يثأر لسنوات الإهمال المتعمد، التى كان فيهاهيكلأقوى نفوذاً، وأعلى مكانة منه.. وكان يطمح أن يكون آخر الفراعنة، ولذلك أراد كهنة لم يرتبطوا فى وجدان الناس بأحد سواه، وخاصة بعبدالناصر.

ورفضهيكلبعناد كل محاولات السادات لتطويعه، أو مساواته بغيره من الكتاب والصحفيين، أو نقله إلى حيث يصبح وزيراً من الوزراء، أو نائباً لرئيسهم، أو مستشاراً للرئيس، وأصر على ألا يلعب غير الدور الوحيد الذى عشقه وأتقنه وبرع فيه، وحفز بسببه - اسمه - على أحجار التاريخ دور الكاهن،

وجرت فى النهر مياه كثيرة:

فى 3 سبتمبر 1981 وجد هيكل نفسه سجيناً فى إحدى زنازين سجن الاستقبال - حدث الذى لم يكن أحد يتخيله أو ينتظره أو يتوقعه.. وكان إلى جواره مباشرة، بعض الذين نازعهم ونازعوه سدانة المعبد، ممن كانوا يسمون بمراكز القوى، وفى 28 سبتمبر 1981، اعتذرهيكلعن الحديث فى احتفال كما - على سبيل التحدى - قد قررنا إقامته فى ذكرى وفاة عبدالناصر، وأخفى وجهه تحت الغطاء، واندفع فى بكاء.

وفى 6 أكتوبر 1981، سمعنا خبر مقتلالسادات، ورغم الأوجه المتعددة للخبر، فقد اختفى هيكل مرة ثانية ليبكى وحيداً فى ظلام الليل.

وكان صوت جميل يأتى من بعيد يتلو قول الله عز وجل،سبحان الذى بيده الملك، يؤتى الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شىء قدير