صداقة حميمة .. رغم تباين المواقع
أذكر أول لقاء لى مع محمد حسنين هيكل.. ربما لا يتذكره هو .. كان ذلك فى إحدى شرفات دار النيابة بباب الخلق عام 1957 .. كان هو ومعه جمال العطيفى، وكنت أنا ومعى نبيل الهلالى.. كنت قد صاحبت “نبيل” إلى النيابة لمشكلة متعلقة بنشر أحد كتب “دار الديمقراطية الجديدة” .. وهى دار نشر كنت مديرها ومالكها وقتذاك .. ولم أكن أعرف هيكل شخصياً.. ولكن كان يعرفه نبيل بحكم علاقة هيكل بوالده، نجيب باشا الهلالى، رئيس وزراء مصر فى مناسبتين قبل الثورة .. وكان يعرفنا جمال العطيفى.. نبيل كمحام، وأنا - بوصفه كان وكيل النيابة فى أول قضية حكم على فيها بالسجن لمدة عامين عام 1950.- وقد تصافحنا، وتبادلنا كلمتين، وافترقنا..
وكانت المناسبة الثانية لقاء فى مكتب هيكل بمبنى الأهرام القديم عام 1964.. لقد حرص هيكل على أن يتعرف بى وببعض زملائى وقتذاك بعد خروجنا من السجن.. وأقصد بالسجن هنا السنوات الخمس ونصف السنة التى قضينا أغلبها بسجن الواحات، ابتداء من أول يناير 1959، وحتى قدوم خروشوف إلى مصر ليفتتح مع عبدالناصر السد العالى.
بمجرد دخولى مكتب هيكل بمبنى الأهرام فاجأنى بقوله “قرأت المقال الذى أرسلته إلى الأهرام الاقتصادى”، وهو مقال جيد.. ولكن قررت أن أنزعه من المجلة بعد الطبع ولا أنشره..! وربما بدت الدهشة على وجهى، ذلك أنه أضاف : “لك صحف ودوريات بوسعك النشر فيها ولكن ليس لك أن تنشر فى الأهرام الاقتصادى” وهذه عبارة لم أفهمها وقتذاك.. ولكن، تعددت المناسبات لفهمها فيما بعد.. لقد كانت هناك مجلات ودوريات لليسار ومجلات ودوريات لليمين، ولم يكن مقبولا خلط الأوراق.
وكنت قبل ذلك قد خصصت الأشهر التى تلت خروجى من السجن عام 1964، لأركز جهدى كله على دراسة.. كان هذا متاحاً لى وقتذاك.. ذلك أن الإفراج عنا كان بادئ الأمر “إفراجاً صحياً” فقط.. ومن شروط “الإفراج الصحى” الوجود فى مكان الإقامة ابتداء من غروب الشمس.. فرحت استثمر هذه الإقامة الجبرية كى أنصرف إلى هذه الدراسة.
والحقيقة أن الدراسة كانت تعبيراً عما ساورنى من مشاعر ومشاغل حول معنى خروجنا المفاجئ من السجن، قبل انقضاء مدة العقوبة بالكامل، وبعد أن ظللنا طوال سنوات نعامل فى السجن معاملة شديدة القسوة.. بلغت فى ظروف كثيرة حد التعذيب البدنى المنتظم.. وحد قتل بعض زملائنا.. لماذا هذا التحول.. وكما هو حال أى مهموم يريد أن يوصل أسباب همه، أسقطت فكرة منيعة وضعى “الذاتى” على الواقع “الموضوعى” كما تصورته وقتذاك.
لقد عرفت “الواقع الموضوعى” وقتذاك، على أن العالم بصدد أن ينتقل من مرحلة حاصرت فيه الرأسمالية الاشتراكية، إلى مرحلة أصبحت تظهر البوادر الأولى لمحاصرة الاشتراكية للرأسمالية.. فحركات التحرر الوطنى قد تعاظم شأنها فى العالم الثالث.. وأصبح هذا الأخير يتحول من رقعة من العالم تتبع الاستعمار العالمى وتشكل “قوة احتياطية” للرأسمالية العالمية إلى أرض محررة مترامية الأطراف بسبيلها أن تشكل “قوة احتياطية” للاشتراكية العالمية.. وبهذا المعنى، فكان على القوة الاشتراكية أن تسند القوى التحررية فى بلدان العالم الثالث، والعكس بالعكس .. وكان هذا، على حد استنتاجى ، تفسير خروجنا المفاجئ من السجن، رغم كل العقبات التى اعترضت هذا التوجه.
وكانت الدولة، وقتذاك، تبحث عن مستند تستطيع الاستعانة به لتبرير قرارها بالإفراج عن الشيوعيين، فى نفس الوقت الذى كانت تستقبل فيه خروشوف، زعيم الشيوعية العالمية.. هل كان هناك فعلا ما يدعو إلى مصالحة بين الشيوعيين المحليين وبين عبدالناصر؟.. وهل قرار الشيوعيين بـ “حل الحزب”، وهو قرار اتخذ بعد أشهر من الإفراج، كان تعبيراً صادقاً عن توجه الشيوعيين فى اتجاه مساندة عبدالناصر، أم مجرد مناورة تخرجهم من مأزق السجن الأبدى؟.
وجاءت الدراسة التى كتبتها لترد - دون أن أقصد - على هذا السؤال.. وهكذا أصبحت من الشيوعيين الجديرين بأن تلتفت إليهم الدولة .. كان هيكل قد طرح السؤال على شخصيات يسارية بارزة ومنهم د. إبراهيم سعد الدين.. وكان إبراهيم سعد الدين قد قرأ الدراسة، فاتصل بى فوراً وطلب منى نسخة ليقدمها لهيكل.. فى الوقت نفسه، كانت نسخة أخرى قد وصلت إلى كمال رفعت، أمين الدعوة بالاتحاد الاشتراكى، وكان هو قد استند إليها ليطالبنى بكتابة مقالات لمجلة “الكاتب” .. وهكذا جاءتنى دعوة من لطفى الخولى لكتابة مقال لمجلة “الطليعة”، نشر فى عددها الثالث.. وقد حرصت على أن أكتب عن موضوع بعيد.. كتبت عن حادث 4 فبراير 1942، محاولا تفسير لماذا أعادت بريطانيا العظمى، الدولة الاستعمارية، الوفد إلى الحكم، وحاصرت قصر عابدين بالدبابات لإجبار الملك على الرضوخ.
وكان مقالى هذا، على ما يبدو، قد عجب هيكل.. وعرض على أن ألتحق بالأهرام فوراً.. ولكن كان خالد محيى الدين قد عينه عبدالناصر وقتذاك رئيساً لمجلس إدارة “أخبار اليوم”.. وكانت تعليمات عبدالناصر له ألا يستعِن بيساريين إلا فى حدود ضيقة فاغتنم فرصة عرض هيكل لى، وقال لى إن لطفى الخولى موجود بـ “الأهرام” ويتولى فيه مسئولية صفحة الرأى.. واقترح خالد أن أتولى المسئولية ذاتها فى “الأخبار” .. مضيفا أن تعيينى فى “الأخبار” سوف يكون مناسبة لضم عدد من الزملاء معى إلى الصحيفة، بينما ليس هذا متاحاً فى “الأهرام”، حيث سوف أعين وحدى.. فقررت تلبية دعوة خالد.
وأعتقد أن هيكل دهش لتصرفى هذا.. ذلك أنه لم يكن متصوراً فى ذلك الوقت رفض مثل هذا العرض من جانبه.. ومرت السنوات وأنا أجمع بين إسهاماتى فى “الطليعة” وعملى فى “الأخبار”، مسئولا عن مقالات صفحة الرأى التى كانت تنشر فى الركن الأيسر من الصفحة الثالثة..
وفى يوم فوجئنا باستقالة خالد محيى الدين من رئاسة مجلس إدارة “أخبار اليوم” وجاء هيكل ليتولى مؤقتا رئاسة مجلس إدارة مؤسسة “الأخبار” بجانب رئاسته لمجلس إدارة “الأهرام” .. وحرص هيكل على أن يترك إدارة الأخبار اليومية للعاملين الأصليين فى المؤسسة .. وظللت أعمل فى “الأخبار” فى ظل رئاسة هيكل للصحيفتين معاً، حتى تقرر فى يوم ما تعيين محمود أمين العالم لرئاسة مجلس إدارة “أخبار اليوم”.. وقتئذ أصر هيكل على أن ألبى دعوته للالتحاق بالأهرام، ولبيت الدعوة.
وأذكر أن هيكل قد قال لى ذات يوم يستبقينى فى “الأخبار” بعد أن أبعد كثيرين ممن ألحقوا بالصحيفة فى ظل رئاسة خالد، أن كل ما يطلبه منى هو ألا أكن منضما إلى تنظيم سرى.. وهنا لم أجب إجابة كاملة.. ذلك أن الحزب الشيوعى كان قد حل نفسه، ولم أعد بالتالى منضما إليه.. ولكن ألحقت فى “الأخبار” بتنظيم سرى آخر هو “التنظيم الطليعى” الذى أنشأه عبدالناصر فى قلب الاتحاد الاشتراكى .. وكانت التعليمات الصادرة إلى ألا أفاتح أحداً فى شأن هذا التنظيم.. وكنت فى ذلك الوقت مازلت متشبعاً بعقلية الانضباط الشيوعى الصارم.. وعذبنى ألا أفاتح هيكل فى موضوع أصبح يخصه بعد انضمامى إلى “الأهرام”.. غير أن التعليمات قد صدرت إلى من موقع “أعلى” من هيكل.. وتحديداً من مكتب سامى شرف.. وكنت أعلم أن هناك خلافات فى الدوائر المحيطة بعبدالناصر، القريبة إليه.. ولكن كان هيكل دون سواه من هؤلاء، القريب إلى..
وأذكر أن نهج بناء “التنظيم الطليعى” قد أرشدنى إلى شعار ابتدعته وقتذاك، ولكن غيرى ومنهم هيكل قد كتبوا عنه قبل أن أتيح لى أن أكتب عنه، وهو ما أسميته “تأميم الصراع الطبقى”.. كنت أرى فى التنظيم “الطليعى” تعبيراً ناطقاً عن عملية “تأميم” لم تقتصر على المصانع والمصارف والأرض الزراعية، وإنما امتدت للصراع الاجتماعى ذاته.. كان التنظيم منقسماً إلى فرع للاشتراكيين العلميين، وقصد بهؤلاء أنصار الاشتراكية الماركسية، وإلى فرع لأنصار الاشتراكية العربية، وقصد بهؤلاء الاتجاه القومى، وإلى فرع لأنصار الاشتراكية العربية، وقصد بهؤلاء الاتجاه القومى، وإلى فرع لأنصار الاشتراكية الإسلامية وقصد بهؤلاء الإخوان المسلمين الذين تابوا والتحقوا بركب عبدالناصر.. لقد أراد عبدالناصر أن يجعل من الصراع الطبقى بكل روافده قوى تتصارع وتتفاعل تحت مظلة سيطرته، وهذا ما قصدته بـ “تأميم الصراع الطبقى”.
صحيح أن التنظيم الطليعى لم يطلب منى إطلاقاً أن أنشط لحسابه داخل مؤسسة “الأهرام”.. وظللت منضماً إلى الخلية التى كانت تجمعنى مع عدد من صحفيى مؤسسة “أخبار اليوم”.. ولم تكن الجلسات منتظمة، بل كادت تنعدم بعد تولى محمود العالم رئاسة مجلس إدارة “الأخبار”.. وأخذ هذا التنظيم يغيب عن اهتماماتى تدريجيا حتى جاء صراع السادات مع مراكز القوى، وقد تعرضت مراكز القوى التى كانت تتولى أمر التنظيم الطليعى لأزمة حادة.. كان هيكل ممن اصطفوا إلى جانب السادات ضد قيادات مراكز القوى.. وطبعاً كنت، بحكم موقعى، من أنصار عدم تصعيد المواجهة بين الجانبين.. وأذكر أننى فاتحت هيكل فى هذا الموضوع ذات يوم.. قلت إنه لا مفر من مصالحة بدلا من التصعيد.. واستمع هيكل إلى.. ولكنه لم يجب.
ثم جاءت إقالة على صبرى.. وما وصف بـ “الثورة التصحيحية” فى 15 مايو 1971.. وهنا وجدت نفسى، والضمير يؤنبنى، أذهب إلى مكتب هيكل لأقول له إننى قد ارتكبت خطأ جسيماً فى حقه، فأنا عضو بالتنظيم الطليعى، ولم أكن قد أبلغته هذا من قبل.. وفوجئ هو وذهل.. وفاجأه بالذات أن للتنظيم الطليعى وجوداً داخل “الأهرام” دون علمه.. واعتقد أنه حرص على معرفة من من صحفيى “الأهرام” كان عضواً بالتنظيم غيرى.. والحقيقة أن اعترافى لم يكن خالصاً لوجه الله.. فإننى كنت أدرك أن هيكل سوف يحاط علماً بأعضاء التنظيم إن آجلا أو عاجلا.. وأردت أن أبلغه قبل أن يعلم هو من غيرى.. وقدر هو هذه الخطوة من جانبى، حتى لو لم تكن خالصة مائة بالمائة.. ولكن أشعرته أيضاً على ما أتصور بخيبة أمل، لأنى قد خفيت عنه الموضوع طوال سنوات..
وأذكر ذات يوم وكنت مازلت المسئول عن افتتاحية “الأهرام” التى تكتب تحت عنوان “كلمة الأهرام”.. أن طلب منى هيكل أن أكتب أن كل أعضاء التنظيم الطليعى لم يكونوا متورطين فى مؤامرات مراكز القوى.. وكتبت افتتاحية بهذا المعنى.. وأعتقد كثيرون أن الفضل فى كتابتها قد عاد إلى، وأننى قد تحديت هيكل بكتابتها.. ولكن الحقيقة هى أن هيكل كان هو الذى كلفنى.. وأذكر أن أحد كبار الشيوعيين هو مبارك عبده فضل قد هنأنى على الافتتاحية.
كان أهم حدث ينسجم مع اتجاهاتى بعد التحاقى بالصحافة، هو مؤتمر انعقد عام 1966 فى فندق البرج بالزمالك.. مؤتمر جمع مجلة “الطليعة” التى كانت قد أصبحت عضواً بلجنة المستشارين بها، وبين مجلة “السلم والاشتراكية” التى كانت تصدر فى براج والتى كانت تعتبر لسان حال الأحزاب الشيوعية المشايعة لموسكو فى مختلف بلدان العالم.. كان هذا المؤتمر تكريساً للمصالحة بين الشيوعيين وبين نظام عبدالناصر.. وقد تمت المصالحة فى إطار مجلة “الطليعة” التى كانت تتبع “الأهرام”، وهيكل شخصياً.. ويرأس تحريرها لطفى الخولى.
تلا هذا الحدث حدث كبير مماثل فى العالم التالى، هو مؤتمر ضم فى الجزائر القوى الاشتراكية من مختلف أرجاء الوطن العربى، وقد دعيت للمشاركة فى إعداده .. سافرت مع زملاء غيرى من الصحافة المصرية إلى الجزائر يوم 14 مايو 1967 لأكون ضمن المنظمين لهذا المؤتمر.. وقد التقيت فيه لأول مرة بوجوه كثيرة أصبحت من الوجوه المألوفة فى الساحات العربية بعد حرب 1967.
غير أن الأحداث كانت تجرى بسرعة.. وقد اختتم المؤتمر فى يوم 24 مايو، وصدر إلى عدد منا قرار بألا نعد إلى مصر، وإنما أن نذهب إلى أوروبا، وأن نبدأ بفرنسا لننتشر فى عدد من العواصم الأوروبية. والتصدى للدعاية الصهيونية فى الأيام التى سبقت 5 يونيو 1967 مباشرة.. وذهبنا إلى باريس.. ولم يكن هناك ما يستدعى مبارحتها.. كما وجدنا أنه من غير الممكن العودة إلى مصر، لأن مطار القاهرة كان مغلقاً .. فمكثنا شهراً كاملاً فى باريس نفعل ما بوسعنا للذود عن القضية العربية فى مناخ معاد مذل.. وهكذا أسفر مؤتمر الجزائر عن نقيض ما رمز له اجتماع “الطليعة” مع مجلة “السلم والاشتراكية” بفندق البرج بالقاهرة.. رمز الاجتماع الأول لانتصار التلاحم بين القوى الاشتراكية.. وجاء الثانى قبيل الهزيمة التى نالت من الحلم فى الصميم.
كان هيكل يتسم فى نظرى بقدر كبير من الاعتداد بالنفس.. ولم يعد بعد هزيمة 67 يستطيع أن يجمع بين حرصه على كبريائه وتحمل آثار الهزيمة النكراء التى ألمت بنا جميعاً.. كنت مع لطفى الخولى وأحمد بهاء الدين وغيرنا محبوسين فى باريس عقب الهزيمة، ولم يكن بوسعنا العودة إلى مصر بسبب إغلاق المطار.. اتصلنا بهيكل تليفونيا، لطفى وأنا، من السفارة المصرية بباريس.. وكنت أسمع صوت هيكل فى المكالمة القصيرة التى جرت بيننا، وكنت أحاول أن استشف من صوته حجم الكارثة التى أصابتنا.. أراد هو أن يعطى الانطباع بأنه ليس هناك شيء تغير .. ومع ذلك، وكما علمت فيما بعد، كان لهيكل دور كبير فى إقناع عبدالناصر بضرورة أن يتنحى، وأن يتحمل بصفته القائد المسئولية بالكامل.. ومع كل حبه لعبدالناصر، كان مقتنعاً بأنه لم يكن أمام الرئيس والزعيم خيار آخر.
ومع ذلك كان هيكل هو الذى ابتدع كلمة “النكسة”، لتحاشى كلمة “الهزيمة” المحبطة للهمم.. لقد طرح الوضع القائم وكأنما هو شىء مؤقت.. ولكن .. كما ثبت فيما بعد.. إننا مازلنا نعانى من آثار النكسة والقرن قد انقضى.
لقد ألحقنى هيكل بـ “الأهرام” فى عام 1968.. وأذكر بعد التحاقى بالأهرام، وقبل أن تتحدد لى مسئوليات فيه، أننى قد كتبت مقالا عن أزمة تشيكوسلوفاكيا التى بلغت الذروة وقتذاك فى أواخر أيام زعامة دوبشيك.. قلت فى المقال أن السوفيت لن يتدخلوا .. وثبت أننى أخطأت.. فلقد تدخلوا وعلى نطاق شامل.. وصبيحة يوم تدخلهم، دعانى هيكل إلى مكتبه وقال لى: “أخطأت التقدير”.. قلت “نعم” .. قال : “إنى حريص على أن تذهب لكى ترى بنفسك”.. وقد رتب لى لطفى الخولى السفر.. وأرسلت إلى برلين الشرقية أولا. وتقرر فى برلين أن أذهب إلى موسكو قبل أن أذهب إلى براج، علماً بأن الحدث الصحفى الخطير كان فى براج ولم يكن فى موسكو!! . وكنت قبل ذلك قد زرت براج سنة 1966 .. بل وتزوجت فيها، ذلك أن والد زوجتى كان دائم الإقامة بها وقتذاك بحكم عمله.. وقررنا أن نتزوج بعيداً عن صخب القاهرة، وعن النوعيات المختلفة من الناس التى كان على أن أدعوها لزواجى.. ذهبت إلى كل من موسكو وبراج ومزقنى ما رأيته.. الصمت التام عن الحدث فى موسكو .. والفوضى والتمرد على المكشوف فى براج.. كانت أول زيارة لى لموسكو ورأيت بنفسى عدم استعداد أحد ممن التقيت بهم أن يتفوه بكلمة.. تقرر بعد وصولى اعتبارى مدعواً من قبل وكالة “نوفوستى” السوفيتية، مجاملة لمصر و”للطليعة”.. ولكن “أغلقت” كل الأبواب فى وجهى، ولم تتح لى فرصة التحدث إلى أى من المسئولين..
ولأول مرة أدرك ما هو معنى أن تتمرد عاصمة اشتراكية على الاتحاد السوفييتى واستمعت إلى حجج هؤلاء وأولئك .. وكتبت أربعة مقالات، رفض هيكل أن ينشرها بالأهرام، لأنه كان قد كتب هو مقالا عن غزو السوفيت لتشيكوسلوفاكيا، واعتبر هذا المقال كافيا، ولا حاجة لتحميل “الأهرام” المزيد فى وقت كنا فى أحوج الحاجة إلى السلاح السوفييتى.. ووافق لطفى الخولى على نشر مقالاتى بـ “الطليعة” .. وكان مجمل ما قلته هو إن العملية من الوجهة الفنية كانت ناجحة مائة فى المائة.. فلقد تم احتلال تشيكوسلوفاكيا دون إراقة نقطة دم واحدة.. ولكن إذا ما تحدثنا عن مبرر هذا الاحتلال، فقد اكتفيت بسرد الحجج التى سمعتها فى موسكو، وتلك التى سمعتها فى براج، ولم أبت برأى.. وتركت للقارئ ليقرر أيًا من وجهتى النظر هى الأصوب!.. ولم تكن مقالاتى موضع رضا أى من الجانبيين.
التحقت بالأهرام عام 1968، ولكن لم أباشر مسئولية الإشراف على صفحة الرأى إلا فى العام التالى، بعد انتقالنا إلى مبنى “الأهرام” الجديد.. لقد عيننى هيكل وقتذاك مسئولا عن صفحة الرأى، وعن افتتاحية “الأهرام” غير الموقعة التى تنشر كل يوم..
إلا أن الذى أصبح يشغلنى بشكل متزايد فى هذه المرحلة، ربما أكثر من مجلة “الطليعة” التى كنت أكرس لها جهداً كبيراً فى المرحلة السابقة، هو أن أسهم فى أعمال مركز الدراسات الاستراتيجية بـ “الأهرام” الذى أنشئ بمجرد استقرارنا بالمبنى الجديد.. فمن الواضح أن عبدالناصر قد أدرك أن أجهزة المخابرات لم تكن قد قامت قبل الحرب بدورها على النحو المطلوب.. وقد أعطت صورة مغلوطة عن إسرائيل.. وكان لابد من وسيلة أخرى لمعرفة إسرائيل، ولتحاشى سقوطنا أسرى تصورات عن إسرائيل تخالف الواقع كل المخالفة.. ومن هنا كانت أهمية انتقاء أمخاخ بمقربة من عبدالناصر تفكر وتحلل وتمعن النظر فى الأمور دون أن تعلم أن اجتهاداتها تحت بصر رئيس الدولة مباشرة.. وكنت بفضل هيكل من هؤلاء المنتقين .. كنا نقوم بمناقشات واسعة وراء الأبواب المغلقة.. ولم يكن وارداً أن ننشر فى “الأهرام” ما نتبادله من آراء فى هذه الغرف المغلقة.
والحقيقة أن “الأهرام في الأيام” الأخيرة لحكم عبدالناصر قد اتسمت بجو شديد التكهرب.. فبعد انتقالنا إلى المبنى الجديد.. كانت تبدو الأمور هادئة ومستقرة، وكان المبنى كيانا شامخاً موضع اعتزازنا جميعاً.. كانت تلتقى فيه كل نخب مصر .. ولكن كنا نباشر وظائفنا ونحن لا نكاد نعلم شيئاً عن الأسرار التى كان مكتب رئيس التحرير وحده ملما بها.. كان مجلس التحرير يلتقى كل يوم.. الجلسة الأولى فى الساعة التاسعة صباحاً بحضور هيكل، وأذكر أن حمدى فؤاد كان يأتى بأخبار يلتقطها بالذات من حفلات الكوكتيل والعشاء لدى السفارات .. وكان يتقدم بما لديه، وهيكل ينشر ما يطمئن إلى أنه صحيح.. ذلك أن نبأ يعلمه حمدى فؤاد هو نبأ لا يعلمه هو وحده.. ومن هنا فلا خطر من النشر وإفشاء أسرار .
وكان غريباً أن تكون أهم صحيفة فى مصر قليلة المناقشات العامة على هذا النحو .. كنت أصف “الأهرام” مازحاً بأنه “خط الدفاع الثانى”.. كان “خط الدفاع الأول” هو خط الدعاية بالطريقة المألوفة.. وهو الدفاع الفج عن النظام حتى لو افتقر إلى مصداقية.. أما “خط الدفاع الثانى” ، فهو الخط الذى كان يحرص على مصداقية الخبر وجديته، حتى لو تطلب ذلك التعرض لموضوعات شائكة.. وكان هيكل يملك وحده النهوض بهذا الدور.
وأذكر أن هيكل كثيراً ما استدعانى إلى مكتبه ليقول لى إننى أثرثر أكثر من اللازم فى أحاديثى مع الصحفيين الأجانب.. وأن التقارير عنى كثيرة، وأنه على أن ألم نفسى!.. هكذا كان يقول، ولكن أعتقد أنه لم يكن متضايقاً حقاً مما أفعله.. ذلك إننى لم أكن أعلم شيئاً .. وأن كل ما كنت أقوله استنتاج ذاتى وبالتالى ليس بخبر وكان يبدو للصحفى الأجنبى أننى أحلل انطلاقا من معلومات أعلمها .. ولا مانع من انتشار الأنباء على هذا النحو!..
ومما لم أكن أدركه، على الأقل بشكل كاف، هو تعاظم الصراع بين الاتحاد الاشتراكى من جانب ومؤسسة الأهرام وعلى رأسها هيكل من الجانب الآخر.. وأذكر ذات مرة وقوع خلاف كبير ما بين “الأهرام” و “الجمهورية” حول موضوع كان وقتذاك حساساً.. كان هيكل قد أعلن فى مقال شهير أنه لا ينبغى مناطحة أمريكا فوق حد معين، وقد تصدى له بعض كتاب “الجمهورية” ليقولوا إن هذا موقف ممالئ لأمريكا، فى ظرف تسند فيه أمريكا إسرائيل على طول الخط.. وهذا موقف يسىء إلى حليفنا السوفييتى الذى ينهض بدور كبير فى إعادة بناء الجيش المصرى.. والحقيقة أن الخطين كانا متكاملين أكثر من أن يكونا متعارضين.. كنا بحاجة إلى مخاطبة أمريكا للتمييز ما بين أمريكا وإسرائيل قدر المستطاع، حت مع التسليم بأن هذا لم يكن سهلا.. وكان هذا تمهيداً لمبادرة روجرز فيما بعد.. كانت “الجمهورية” وقتذاك لسان حال الاتحاد الاشتراكى، وكان يكتب فيها مسئولون بالتنظيم الطليعى، بينما كان للأهرام وظيفة أخرى.. هى التى وصفناها بـ “خط الدفاع الثانى”..
كنت أجد نفسى فى مأزق إزاء مثل هذه الزوابع.. لم أكن أعلم إلى أى حد كان هيكل يرحب باختيار فلان أو علان كاتبا بصفحة الرأى فى “الأهرام” ،، لم أكن أعلم ولاءهم لمن فى النظام.. لم أكن أحاط علماً بهذه “التفاصيل” البالغة الأهمية.. وحدث ذات مرة بعد وفاة عبدالناصر، فى الأيام الأربعين التى خصصت فيها مقالات الرأى كلها لرثاء الزعيم الراحل.. حدث ذات مرة أن تلقيت من مكتب رئيس التحرير مقالا من سامى شرف.. وأعطى هيكل تعليمات بنشر المقال كما هو.. ولم أكن قد تلقيت شخصياً هذه التعليمات.. وقد أنهى سامى شرف المقال بكلمة وجدت نشرها كما صاغها مذلة، فحذفتها.. وفى اليوم التالى استدعانى هيكل لمكتبه وهو فى حالة غضب شديد.. رأيته فى صورة لم أكن أعرفها عنه أبدا.. كان ذلك ربما المرة الوحيدة التى رأيته يثور فى وجهى، وقال “إننى أعطيت تعليمات واضحة أن المقال ينبغى نشره كما هو دون مساس، والمسألة فى وجهى”.. قلت: “حملنى أنا المسئولية” .. قال: “الموضوع بينى وبينه.. ولست أنت طرفاً فى الموضوع على وجه الإطلاق”..
فى ظل هذا الجو المكهرب، جاء القبض على لطفى الخولى وزوجته ، وكذلك على سكرتيرة هيكل نوال المحلاوى وزوجها.. لقد اتهم الأربعة بالتلسين على عبدالناصر.. وكان عبدالناصر وقتذاك قد عين هيكل وزيراً للإعلام.. وبدا ذلك لنوال المحلاوى وكأنما هو تحجيم لهيكل، وانتصار لفريق قيادات الاتحاد الاشتراكى عليه..
وارد أن يكون ذلك هو سبب التلسين.. لم يكونوا يعلمون أن شقة لطفى موضع مراقبة دقيقة.. فلقد وضعت أجهزة تنصت فى كل الحجرات.. وقد أحيط سامى شرف بعبد الناصر علماً بما قيل، وصدر أمر باعتقال الأربعة والتحقيق معهم.. كان من المفروض فى ذاك اليوم أن نتواجد، زوجتى وأنا، مع الأربعة فى شقة لطفى .. ولكن زوجتى أصيبت بوعكة صحية حالت فى آخر لحظة دون ذهابنا.. وقد أفرج عن ليليان الخولى وعن نوال، ولكن طال حبس لطفى وزوج نوال.. مما أعجز لطفى عن حضور جنازة عبدالناصر، ذلك أنه كان محبوسا ولم يفرج عنه إلا بعد بضعة أشهر من تولى السادات الحكم.
لقد ساد فى هذه المرحلة الأخيرة من حكم عبدالناصر إحساس بالرعب منقطع النظير.. أذكر بعد القبض على لطفى أننا، كلما تناولنا موضوعاً حساساً، فضلنا الخروج من المنزل إلى الشارع تحاشيا لأجهزة التنصت.. وفعلا وقع ذات يوم فى عهد السادات حريق بشقتنا، كاد يودى بها تماماً، وكاد يقضى على حياة والدتى .. وقد أبلغنا فيما بعد من جهات تعلم أن سبب الحريق هو وجود جهاز تنصت فى حجرة النوم!.
ربما حجم عبدالناصر هيكل بتعيينه وزيراً.. ولكن بدا لهيكل أنه قد استرد مكانته بوقوفه إلى جانب السادات ضد ماسمى بمراكز القوى بمجرد تولى السادات الحكم .. كنت أنا شخصياً، بحكم ميولى، أقرب إلى منطق الاتحاد الاشتراكى منه إلى أى منطق يعاديه، ذلك بغض النظر عن صداقتى لهيكل.. تصورت ذات يوم أننى فى استطاعتى أن أحول دون انفجار الخلاف بين الطرفين.. وجلست أصارح هيكل مراراً بأنه لا ينبغى أن تصل الأمور إلى حد الصدام.. ولكن هيكل لم يكن يرد.. ووقع الصدام.. واستبعد على صبرى ومن معه..
ولم يستبعد الماركسيون.. فلقد عين السادات إسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى وزيرين بالحكومة.. وأصبح للطفى دور مهم فى أمانة الاتحاد الاشتراكى بعد إطلاق سراحه.. ووقع السادات معاهدة مع السوفييت.. ولكنه كان قد أقدم على هذه الخطوات وفى ذهنه أساساً مخاطبة واشنطن.. واستثمار قبول عبدالناصر لمبادرة روجرز..
وأذكر فى هذه المرحلة زيارات معمر القذافى “للأهرام”.. كان قد تولى السلطة منذ وقت قصير.. وكان يأتى إلينا ليتحدث معنا فى جلسات مغلقة، مطولة.. أذكر فى أول مرة التقينا به قال له هيكل: “معنا هنا محمد سيد أحمد وله ميول قريبة إلى السوفييت”.. كنت قد علقت على كلمة تحدث هو فيها عن المعسكر الاشتراكى بطريقة فيها قدر من الاستخفاف.. قلت إنه من الصعب الانطلاق من تصور لخريطة العالم كما قد تبدو من الصحراء، ووضع الكتلتين الدوليتين على قدم المساواة دون إدراك الاختلافات بينهما.. وقد عنفنى القذافى على هذه الإجابة.. وأذكر أن الأهرام قد نشر حديثه دون نشر ردى عليه، مما أوجدنى فى مركز حرج.. وقد تصالحت مع القذافى فى لقاءات لاحقة.. وكتبت أدافع عنه مرة ضد مقال هاجمه بـ “البرافدا”. ونقل إلى أنه قد دافع هو عنى ذات مرة لدى الرئيس السادات، ولكن كان رد السادات أن فلاناً هو من أتباع هيكل الذين يحرضونه ضدى!.
ثم وقع حدث مثير.. فلقد نشرت “الأهرام” فى باب ابتدعه وقتذاك تحت عنوان “دائرة الحوار” مناقشة مع إسماعيل فهمى، وكيل الخارجية وقتذاك، أدان فيه موقف الروس إدانة حازمة.. وبدأت أشعر بأن هناك جواً يتعلق بالسوفييت.. وأحسست بأن ثمة شواهد تنم عن رغبة فى تحميلهم مسئولية الهزيمة التى تكبدناها.. وبدلاً من أن نرى أن العيب إنما يكمن أساساً فينا، حملناه لأسلحتهم.. وقد أثارت “دائرة الحوار” هذه ضجة كبرى بين الدبلوماسيين الأجانب.. بلغت حد أن الصين تصورت أن “الأهرام” قد قادة الحملة للإطاحة بالخبراء السوفييت.. فتلقى هيكل دعوة لزيارة الصين.. وقرر أن تكون الدعوة لعدة بلدان آسيوية بدأت بالصين وشملت عدة دول فى آسيا.. وقد قاد هيكل فريق “الأهرام” الذى قام بهذه الرحلة وكنت ضمن المشاركين فيها مع حمدى فؤاد وجميل مطر وسميح صادق وعبدالله عبدالبارى ومحمد يوسف المصور..
وأذكر اللقاء مع شواين لاى.. وأذكر أن هيكل قد قال له أيضاً أن لدينا فى مجموعتنا شخصاً موالياً للسوفييت.. وتركزت الأضواء على، وشعرت بحرج شديد أمام القادة الصينيين الذين كانوا ينظرون وقتذاك إلى القيادة السوفييتية على أنها ألد أعدائهم.. وطلب منى أن أطرح سؤالاً.. وسألت عن الثورة الثقافية.. وحرص شو على أن يرد على بإسهاب.. غير أن شو قد أدرك من حديث هيكل أنه لم يكن صحيحاً أن “الأهرام” تعادى السوفييت.. وهكذا التقينا بشواين لاى، ولكننا لم نلتق بماو تسى تونج..
وبعد عودتنا من رحلة آسيا، فوجئنا بأن عدداً من الصحفيين قد اعتقل.. غير أن السادات كان يعد وقتذاك لحرب أكتوبر.. ووقعت الحرب.. وكان العبور.. وقبيل الحرب بيوم واحد، أعاد السادات الصحفيين المبعدين إلى صحفهم، تحقيقاً للوحدة الوطنية.. ووقعت الحرب.
ولم أكن أدرك أن متانة علاقة هيكل بالسادات كانت رهناً بحاجة السادات إلى هيكل فى وجه مراكز القوى.. وكان معنى ذلك أن انتصار أكتوبر، والمجد الذى تحقق للسادات فى أعقاب العبور، قد أغناه عن حاجته إلى هيكل.. فنشبت خلافات بينهما.. ونشر هيكل مقالات أبرزت وجهت نظر مخالفة لرؤى السادات..
ثم كانت دعوة هيكل لميتران آخر عمل قام به قبل تنحيته من “الأهرام”.. كان هيكل قد دعاه بصفته وقتذاك زعيم المعارضة فى فرنسا.. وقد كلفنى بأن أرافق الضيف إلى الأقصر وأسوان، ومعه بعض كبار معاونيه.. وأتيحت لى، هكذا فرصة التعرف إلى الزعيم الفرنسى عن قرب.. كما كانت زيارته الأولى هذه لمصر مناسبة ليجمعه هيكل لأول مرة مع عرفات على مائدة غداء فى الأهرام.. وكلفت أنا بالترجمة بينهما.. وقد واظب ميتران على زيارة مصر بانتظام بعد ذلك.. وفى آخر يوم غادر فيه ميتران مصر، لم يحضر هيكل لوداعه والذهاب معه إلى المطار إلا فى آخر لحظة.. وبعد 3 ساعات من مغادرة ميتران مصر، أذاعت نشرة الأخبار أن هيكل قد أبعد من “الأهرام”.
وقدمت استقالتى.. شعرت بأننى مدين لهيكل بوجودى فى “الأهرام”، وأنه يتعين على أن أتضامن معه.. والغريب أن استقالتى فاجأت الجميع، ثم قيل لى إنه ينبغى على أن أسحب الاستقالة.. فلا معنى لها وفى أى الأحوال، فلست محسوباً على هيكل.. وجاء هيكل بنفسه إلى منزلى وطلب منى سحب الاستقالة وفى النهاية سلمت بأنه كان على أن أسحبها، وقد عين “ على أمين” رئيساً لتحرير “الأهرام”.. ولم أكن أريد أن أتعاون مع “على أمين”.. وأبدى هو إحساساً طيباً إزائى.. وذات مرة أصر على نشر مقال له وفى مواجهته مقال لى، تحت عنوان “مواجهة بين اليمين واليسار فى الأهرام” حول قضية حرية الصحافة.. وأدركت أن على أمين كان صديقاً لهيكل، ولكن مصطفى أمين كان يعاديه على طول الخط.. وبعد خروج مصطفى أمين من السجن، أوقف على أمين كل تعامل له مع هيكل..
وينبغى لى أن أقول أن هيكل فى هذه المرحلة التى سبقت إبعاده من “الأهرام” قد وقف بجانبى بشدة فى ظروف بلغت ذات مرة حد المخاطرة.. أذكر هذه المناسبة التى اتصل فيها هيكل بى فى منتصف الليل ليقول لى أن أذهب إلى منزله فوراً.. وكان لى زوار فى البيت.. قلت: “إن لى هنا ناس”.. قال “اتركهم وتعال فوراً”.. ذهبت.. قال لى: “سأمر عليك صبيحة الغد الساعة السابعة والنصف صباحاً لأرافقك إلى “الأهرام” وأتركك هناك، ولا تترك المبنى إلا عندما أسمح لك بهذا!!”.. واندهشت.. وكان الأمر هو إننى قد اتهمت بأننى أسرب أسراراً للسفارة الفرنسية.. كانت القصة، باختصار، أن أحد أعضاء السفارة السوفييتية قد زار أحد معاونى بالأهرام وأبلغه عرضاً بأن بودجورنى، رئيس الاتحاد السوفييتى وقتذاك، سيزور مصر.. جاءنى الخبر ولم ألتفت إليه.. ولكن دخل مكتبى بعد ذلك بدقائق مندوب وكالة الأنباء الفرنسية.. ودار حديث عفوى، بيننا عرج فيه على موضوع السوفييت.. وقلت له إننى أعلم أن بودجورنى سيأتى إلى مصر.. وانتهى الأمر عند هذا الحد.
والذى حدث هو أن السادات قرر ألا يستقبل بودجورنى.. ولم يكن يريد أن ينتشر خبر مجيئه.. وفوجئ بأن الخبر معروف.. وأحرجه ذلك وأمر بالبحث فوراً عن المسئول عن تسريب الخبر.. وتوصلت الأجهزة إلى أن الخبر قد وصل إلى مندوب وكالة الأنباء الفرنسية عن طريقى ومن الوكالة إلى السفارة.. غير أن هيكل قد تدخل شخصياً، وقابل السادات خصيصاً لهذا الموضوع، وأنهى المشكلة.. قال للسادات إننى قد أبلغته هو شخصياً الخبر، ولم أخفه قط.. وسويت المسألة.. والحقيقة أن الحدث كان تعبيراً عن مدى إخلاص هيكل لأصدقائه المقربين إليه.
وأعلم عن قصص كثيرة مماثلة مع آخرين فى “الأهرام”، ولكن هذه هى قصته معى.. وأذكر بعد تصفية المشكلة أنه قال لى: “لا مانع فى أن تمكث فى السجن سنوات طويلة بسبب تهمة سياسية، ولكن الذى لا أقبله أن تعاد إلى السجن بصفتك جاسوساً!”.
والحقيقة أن مشكلة أمنى كانت دائماً مشكلة تشغله.. أذكر ذات يوم أننى كتبت مقالاً فى الأهرام.. ورغم أننى كنت المسئول عن صفحة الرأى، فلقد تدخل على حمدى الجمال، مدير التحرير وقتذاك، ومعه د. عبدالملك عودة، معاون رئيس التحرير فى الشئون الإدارية، ليطلبا من هيكل حذف المقال من الصفحة، لأنه يعرض أمنى الشخصى للخطر.. ولبى هيكل طلبهما أول الأمر.. ثم أتيت إلى “الأهرام” واكتشتف أن مقالى قد سحب.. طلبت مقابلة هيكل وحاولت إقناعه بعدم سحب المقال.. ووافق.. ثم تدخلا مرة ثانية.. وانتهى الأمر بأن قرر هيكل إبعادنا جميعاً.. وبت هو وحده فى مصير المقال بتعديل عدد من الفقرات فيه.. كان المقال تعبيراً عن بعض ما أبديته من آراء فى الجلسات المغلقة بمركز الدراسات.. كان وارداً الحديث عن مثل هذه الأمور فى جلسات مغلقة.. وتجربة المقال أثبتت أن طرحها علناً لم يكن وارداً دون إخضاعها لتدقيق شديد.
إخراج هيكل من الأهرام قد أشعره بادئ الأمر بفراغ كبير.. كان هو الذى جعل من “الأهرام” هرماً شامخاً.. مبنى يشار إليه بالبنان.. وظل هيكل يحلم طويلاً بعد خروجه من “الأهرام” فى إصدار جريدة، واكتشاف وسيلة لإصدار جريدة، حتى لو تطلب الأمر أن تصدر من خارج مصر.. ثم توجه نشاطه فى الأساس إلى تأليف كتب.. والواقع أن العالم كله كان حريصاً على أن يسمع رواية هيكل عن كثير مما دار طوال سنوات حكم عبدالناصر، ومن هنا كانت لكتبه مصداقية فريدة.. وأصبحت لها سوقاً رائجة فى عدد كبير من اللغات..
وهكذا أصبح هيكل بشخصه مؤسسة.. لم يعد بحاجة إلى “الأهرام” كقاعدة ينطلق منها.. وأخذ يحول مسكنه إلى هذه المؤسسة، واستمر هو على صلة بكل من له صفة فى الحياة السياسية المصرية، بل ظل على صلة ما بالسادات، وإن ساءت العلاقة مع السادات بالتدريج، حتى اعتقل فى نهاية أيام السادات مع غيره ممن اعتقلوا، فيما اشتهر “بمذبحة سبتمبر”..
وبعد أن غادر هيكل “الأهرام” فكرت أنا أيضاً أن أؤلف كتباً.. أو على الأقل أن أرصد فى صيغة كتاب ما أحسست بأنه توجهات السياسة المصرية فى أعقاب حرب أكتوبر.. واستشففت هذه التوجهات من المناقشات وراء أبواب مغلقة التى دارت طوال سنوات بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام.. وفى مائة يوم، ألفت كتاباً طلبت من هيكل أن يساعدنى فى وضع عنوان له.. وأذكر كيف صاغ هيكل العنوان بعد التفكير برهة، على صفحة بيضاء: “بعد أن تسكت المدافع”.. كان له هو الفضل فى صياغة العنوان بالعربية، كما كان لزوجتى الفضل فى صياغة العنوان بالإنجليزية.. وكان للعنوان فضل كبير فى بلورة دلالة الكتاب ومحتوياته ربما أكثر من أى شىء.
وقد تقلص دورى بالتدريج فى “الأهرام” بعد خروج هيكل منه.. كان كتابى قد أشهرنى عالمياً فى وقت كان “الأهرام” يهمشنى تدريجياً.. وفى ذلك الوقت أسست المنابر فالأحزاب.. وكان وضعى الشخصى يحيطه قدر غير قليل من الإلتباس.. فبسبب كتابى، لم أكن من مؤسسى حزب التجمع رغم أننى قد صعدت، فيما بعد، إلى الأمانة العامة، ثم إلى موقع عضو الأمانة المركزية المسئول عن خط التجمع السياسى بعد رحيل د. فؤاد مرسى.. وأصبح ما أكتبه فى “الأهالي” وللحزب، أكثر أهمية لى مما أتيحت لى فرصة كتابته “للأهرام”.. وبوجه عام، أخذت الأوضاع تزداد تردياً فى صفوف المعارضة بمختلف تشكيلاتها حتى جاءت أزمة سبتمبر 1980.. وقد شملت الاعتقالات هيكل.. وأذكر عندما اعتقل كم كان موضع مساندة كثيرين خارج مصر على الصعيد العالمى..
لقد تواجدت أنا ولطفى الخولى خارج مصر فى ذاك الوقت.. وأذكر إحساسى بالغربة فى باريس وقد استطعت بمعجزة أن أغادر مصر إليها قبل أن يشملنى الاعتقال، وأقول لنفسى فى برنامج تليفزيونى سئلت فيه، أن كل من أعرفه فى مصر رهن الاعتقال حالياً.. إن نخب مصر كلها فى المعتقل.. والغريب هو من لا يشمله الاعتقال، لا العكس..
وأذكر ذات يوم أن محطة ABC الأمريكية خصصت بقرار من بيير سالنجر، مدير برامجها فى أوروبا، والسكرتير الصحفى لجون كنيدى فيما قبل، برنامجاً كاملاً عن المعتقلين فى مصر، وعن شخص هيكل.. لقد أراد سالنجر البرنامج مساندة لهيكل بالذات.. وكان من المفروض أن أتولى دوراً مهماً فى هذا البرنامج، ولكن شاءت الظروف أنه كان على أن أنتقل إلى لندن ثم تعذر ذلك، وتولى لطفى البرنامج.. ووقع صدام حاد بينه وبين المسئول وقتذاك عن الاستعلامات فى مصر، شافعى عبدالحميد.. ولم يفرج عن هيكل إلا عقب اغتيال السادات، ضمن الدفعة الأولى ممن أطلق سراحهم بعد وقت وجيز من تولى مبارك الحكم..
وقد ظلت علاقتى وطيدة مع هيكل، ربما بالذات فى السنوات التى لم تعد تربطنا علاقة عمل.. ومع ذلك فثمة بذرة التباس قد لاحقتنا عبر السنوات.. إذ أن أعظم أيام هيكل هى الأيام التى بلغ فيها مجد عبدالناصر الذروة.. ومرجعيته فى تقدير أى حدث، أن ينظر إليه من منظور الوقوف إلى جانب عبدالناصر.. ذلك بينما كنت أنا صاحب تجربة مختلفة، وصاحب كتاب “بعد أن تسكت المدافع” الذى كان ينطوى على رؤية مختلفة عن تلك التى كان يدعو لها هيكل..
وقد مرت السنوات، بدأت أشعر بأن كثيراً مما أفعله لا يمكن أن يكون موضع رضا هيكل.. كنت أجد نفسى، مثلاً، ألتقى بإسرائيليين فى مناسبات مختلفة خارج مصر.. وبصفتى صاحب كتاب “بعد أن تسكت المدافع”، لم يكن يستقيم أن أرفض هذه اللقاءات ابتداء.. وهكذا نمت ظاهرة كوبنهاجن.. وأظهر هيكل ضيفاً شديداً لتوجهى هذا.. وربما وجدت نفسى، حيال قضية كوبنهاجن، فى موقع مماثل لما جرى بشأن التنظيم الطليعى.. أحسست بأننى أتجه اتجاهاً تباعدت فيه عن هيكل.. ولم يكن بوسعى أن أفاتحه فى كل ما أفعله.. ولم يكن فى اختلافى مع من واصلوا هذا الخط ما أشعره بأنى قد صححت موقفى وتخليت عن الطريق الذى سبق وسلكته.. وأذكر مناسبة جرت لى فيها شبه محاكمة من قبل أصدقاء له ولى حول دعوتى إلى ما أسميته “ترحيل التناقضات إلى داخل إسرائيل، والمراهنة على أوجه التمييز فى صفوف الخصم”.. وقال هيكل: “هل يعقل أن يكون موقفك سليماً وأعز أصدقائك كلهم ضدك؟”.. وكانت إجابتى “أن مثل هذا الكلام يقال بعد نهاية المناقشة وليس قبل بدئها!”.. وفى النهاية، لم أذهب فيما يتعلق كوبنهاجن إلى نهاية المطاف.. وإن كان هناك درس يتعين استخلاصه.. وإن كان هناك شىء أنا مدين لهيكل بهرص دائماً لمصارحة والمكاشفة معه.. فلقد نشأت بيننا عبر سنوات العمر صداقة حميمة هى عرضة لطعنات غير محتملة لو غابت عنها الاستقامة والشفافية..