رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


لماذا لم يحقق ثوار 1919 أهدافهم .. ؟

15-10-2020 | 15:59


بعد وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني في سبتمبر 1882 ومحاكمة أحمد عرابي وزملائه ونفيهم خارج البلاد، واجه الشعب المصري جنود الاحتلال في الحارات والشوارع والقرى دون طائل، فانصرف كل مصري لحال سبيله إلى أن ظهر مصطفى كامل خريج مدرسة الحقوق الذي أخذ ينادى بجلاء الإنجليز عن البلاد، وانضم إليه نخبة من شباب المصريين في مقدمتهم محمد فريد، وقام بتأسيس الحزب الوطني في نهاية 1907، وجعل شعاره "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". وبعد موت مصطفى كامل (10 فبراير 1908) تولى محمد فريد قيادة الحزب مواصلا طريق مصطفى كامل، فلما حاصرته سلطات الاحتلال اضطر لمغادرة مصر في 1912 إلى ألمانيا حتى مات في برلين (15 نوفمبر 1919).

وبعد مغادرة محمد فريد من مصر إلى ألمانيا بعامين اندلعت الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914) بين ألمانيا والنمسا من جهة وإنجلترا وحلفائها (فرنسا وروسيا وإيطاليا ثم الولايات المتحدة الأمريكية في مارس 1917) من جهة أخرى، ولما انضمت تركيا إلى جانب ألمانيا والنمسا في الحرب في نوفمبر 1914 أسرعت بريطانيا بإعلان الحماية على مصر في 18 ديسمبر من نفس العام، ولم تعد مصر ولاية عثمانية تحت الاحتلال البريطاني وإنما أصبحت بلدا تحت الحماية البريطانية، وأخذ المعتمد البريطاني لقب المندوب السامي البريطاني في مصر، وتعرض المصريون إلى كثير من العنت والشدة لمنعهم من الاتصال بخصوم بريطانيا بطريقة أو بأخرى بل وإجبارهم على العمل في جيوش الحلفاء في ميدان الحرب في أوروبا، ولعل أغاني سيد درويش تعبر عن هذه الحال.

وأخذ المصريون يتابعون أنباء الحرب من خلال الصحف حتى كان إعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون فى 8 يناير 1918 مبادئه الأربعة عشرة المشهورة لإنهاء النزاع الدولى، حيث تضمنت إعطاء الشعوب المغلوبة على أمرها حق تقرير المصير، وتحديدا شعوب البلقان (أوروبا الشرقية) التى كانت تخضع لكل من تركيا والنمسا.

غير أن الأمير عمر طوسون حفيد محمد سعيد باشا (والي مصر 1854-1863) قرأ مبادئ ويلسون فتبلورت في ذهنه فكرة تشكيل وفد للمطالبة بحق تقرير المصير الذي نادى به الرئيس الأمريكي، وصارح بهذه الفكرة محمد سعيد باشا رئيس الحكومة المصرية (فبراير 1910-ابريل 1914)، فنصحه محمد سعيد بالابتعاد عن هذا الطريق حتى لا يثير فضول السلطان أحمد فؤاد (الملك فيما بعد) وقال له إنه سوف يرتب له مقابلة مع سعد زغلول باعتباره وكيل الجمعية التشريعية التي جرت انتخاباتها في يوليو 1913 وتوقفت عن الاجتماعات فور إعلان الحرب وصدور الأحكام العرفية، وتم لقاء بين طوسون وزغلول في القاهرة وفي الإسكندرية حيث يعيش عمر طوسون للاتفاق على اختيار أعضاء الوفد الذي سوف يسافر إلى مؤتمر الصلح المزمع عقده للنظر في تسويات الحرب، فلما علم السلطان احمد فؤاد بأمر هذه المقابلات استدعى الأمير عمر طوسون وحذره من هذا النشاط  ونبه عليه بألا يحضر للقاهرة ويبقى في الإسكندرية حيث يقيم. وهنا وقعت المهمة في يد سعد زغلول فتولى مسؤولية مواصلة الطريق الذي لم يختره ويفكر فيه أصلا. ولا شك أن لسياق الأحداث بهذا الشكل كان له أثره على موقف سعد زغلول وتصرفاته بطريقة أو بأخرى.

على كل حال .. فعلى أساس مبادئ ويلسون طلب سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية المنتخب وزميلاه عبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى، مقابلة المندوب السامى البريطانى ريجنالد ونجت لعرض مطلب المصريين فى حق تقرير المصير. وقد تمت المقابلة فى 13 نوفمبر (1918)، بعد توقيع الهدنــة التى أنهت الحرب.

وفى مقابلة 13 نوفمبر طلب الثلاثة – بصفتهم نواب الأمة في الجمعية التشريعية – أن تعترف انجلترا باستقلال مصر، وأنهم مستعدون فى مقابل هذا أن ترتبط مصر بانجلترا بمعاهدة صداقة تكونان فيها ندين متساويين، وتتعاونان معاً فى مواجهة الظروف الدولية. وقد اعتبر المندوب السامي البريطانى المقابلة غير رسمية على اعتبار أن هذا الوفد ليست له صفة رسمية، ولما علم سعد زغلول بذلك من خلال حديث عابر مع حسين رشدى رئيس الوزراء، فكر فى تشكيل هيئة باسم "الوفد المصرى" من أعضاء الجمعية التشريعية المتوقفة عن الجلسات منذ اندلاع الحرب، حتى يكون لهم صفة رسمية وشعبية وهم: سعد زغلول، وعلى شعراوى، وعبد العزيز فهمى، وعبد اللطيف المكباتى، ومحمد على علوبة، وأحمد لطفى السيد، ومحمد محمود، والاثنان الأخيران لم يكونا من أعضاء الجمعية.

وأكثر من هذا ومن باب تحصين موقفهم قام سعد زغلول بتحرير صيغة توكيل يقوم بتوقيعه أفراد الشعب المصري وتقديمه للمندوب السامي البريطاني لإقناعه بمشروعية الوفد. وقد جاءت صيغة التوكيل تقول: نحن الموقعون أدناه أنبنا حضرات فلان وفلان ... في السعي للحصول على استقلال مصر بالطرق السلمية والمشروعة وحيثما وجدوا للسعي سبيلا تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب". وقد عرض سعد صيغة التوكيل على الشخصيات السياسية التي اجتمعت بمنزله. واعترض عبد المقصود باشا عضو الحزب الوطني على عبارة "دولة بريطانيا التي تنشر راية الحرية والعدل". فقال له سعد زغلول: أتهينني في بيتي فأجاب الرجل: هذا ليس بيتك يا باشا إنما هو بيت الأمة. فاستملح سعد الرد ومن هنا أصبح بيته "بيت الأمة".

المهم أن صيغة التوكيل كانت مسالمة ومهادنة إلى أبعد درجة ممكنة لأنها تسعى لتحقيق استقلال البلاد من براثن المحتل بالطرق السلمية والمشروعة وحسب الإمكانات، مع أن الثورة في أي بلد في العالم لا تأخذ بهذا الأسلوب، لأن الثورة أصلا خروج على المشروعية والسلمية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الصيغة مسئولة الى حد كبير عن البداية الهادئة والسلمية للعمل الوطنى, ورفض أعمال العنف التى صاحبت الثورة ضد الانجليز. وأكثر من هذا أن هذا الاسلوب فى النضال يتفق الى حد كبير مع طبيعة قيادته القانونية التى تعمل بالمحاماة والمرافعة بمقتضى توكيل رأت أنه الصيغة المناسبة للرد على عدم اعتراف المنوب السامي البريطاني بمشروعية وجود الوفد. ومع كل هذه الاحتياطات لم توافق السلطات البريطانية على حركة جمع التوكيلات وتصدت لها بالقوة.

وفي 20 نوفمبر 1918 كرر الوفد السماح له بالسفر الى لندن، فلم توافق السلطات البريطانية. وهنا هاجت الخواطر واستقال حسين رشدى باشا رئيس الوزراء احتجاجاً في (23 ديسمبر)، وحاولت السلطات البريطانية إثناءه عن الاستقالة لكن دون جدوى حتى قبلت أخيراً فى أول مارس 1919. وفي اليوم التالي (2 مارس) تقدم الوفد بمذكرة للمندوب السامي بشأن السفر، ثم وجه مذكرات لكل قناصل الدول الأجنبية احتجاجاً على السياسة الإنجليزية ورفض الموافقة على سفر الوفد. ومع استمرار سعد زغلول فى الاجتماعات قامت السلطات البريطانية بإنذاره فى يوم 6 مارس 1919 بالكف عن النشاط، فما كان من سعد زغلول إلا أن أبرق إلى رئيس الوزراء البريطانى لويد جورج يشكو له ما يفعله المندوب السامي. وهنا ألقت سلطات الاحتلال القبض على سعد زغلول ورفاقه: محمد محمود، واسماعيل صدقى، وحمد الباسل، يوم الجمعة 8 مارس وتم ترحيلهم إلى جزيرة مالطا إحدى مستعمرات بريطانيا. وما أن شاع الخبر في صباح اليوم التالي السبت 9 مارس اندلعت المظاهرات وأصبحت في العرف العام ثورة 1919.

 وكانت البداية من مدرسة الحقوق المجاورة لبيت سعد زغلول (بيت الأمة)، وتلاها إضراب المحامين، والمحامين الشرعيين، وعمال العنابر، وخرجت المظاهرات فى جميع أنحاء البلاد بصورة غير معهودة هدمت فى أعين الأجانب أسطورة الشعب المصرى الآمن، وصداقة الإنجليز لأصحاب الجلابيب الزرقاء "الفلاحون". وأكثر من هذا أن نساء مصر اندمجن في المظاهرات بعد أسبوع من اندلاعها، وقمن بمظاهرة ضخمة يوم 16 مارس أمام قصر الدوبارة بجاردن سيتي حيث يقيم المندوب السامي البريطاني، ضمت زوجات وبنات الطبقة الأرستقراطية في المجتمع المصري. وفي هذا أنشد حافظ إبراهيم (شاعر النيل) محييا النسوة قائلا:

 

خرج الغواني يحتججن      ورحت أرقب جمعهنه

فإذا بهن تخذن مــن       سود الثياب شعارهنه

   

ومن القاهرة اندلعت الثورة فى أقاليم مصر، وأخذت شكلاً عنيفاً تمثل فى الهجوم على المنشآت الحكومية، وقطع خطوط الاتصالات البرقية والسكك الحديدية، وتقدم علماء الأزهر ورجال الدين المسيحى المظاهرات لاستنكار تصرفات السياسة الإنجليزية.

وقررت السلطات البريطانية مواجهة الثورة بالعنف المناسب، فعينت الجنرال اللنبى مندوباً سامياً فوق العادة لمصر والسودان فى 21 مارس. ولم يكن اختياره عفوياً فهو القائد العام للجيوش البريطانية فى مصر منذ يونية 1917، وقائد الحملة على فلسطين وسوريا خلال الحرب. وفى اليوم التالى لوصوله القاهرة اتصل بالأعيان والكبراء من المصريين لمساعدته فى تهدئة الخواطر، وقال لهم إن غرضه: إنهاء الاضطرابات الحاضرة والبحث فى جميع المسائل التى سببت الاستياء فى البلاد، وإزالة أسباب الاستياء إذا ما ظهر أنها حقيقية. ثم قال لتلك الشخصيات بوضوح "أنتم الذين يمكنكم قيادة أهل مصر وواجبكم يقضى عليكم بأن تعملوا لخير أولادكم".

ولقد أثمرت هذه المقابلة حيث نشرت الصحف نداء فى 28 مارس وقع عليه 55 شخصية ممن حضروا اجتماع اللنبى فى 26 مارس، يناشدون الشعب المصرى باسم مصلحة الوطن أن يجتنب كل اعتداء وأن لا يخرج أحد فى أعماله عن حدود القوانين حتى لا يسد الطريق فى وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق المشروعة. وجاء فى النداء أن الاعتداء سواء كان على الأنفس أو على الأملاك محرم بالشرائع الآلهية والقوانين الوضعية. ومع ذلك فان أعمال العنف لم تتوقف رغم أن فى مقدمة الموقعين على نداء السلم والسلام كان كل من شيخ الجامع الأزهر، ومفتى الديار المصرية، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، ورئيس المجلس الملى العام. ولم تقتصر أعمال العنف على عامة الشعب، بل شارك فيها بعض رجال الأمن أنفسهم.

وعندما وصلت أنباء أعمال العنف تلك إلى سعد زغلول وهو في مالطا كتب في مذكراته يعرب عن أسفه بأن مثل هذه الأعمال تؤثر على "قضيتنا"، ويقول: إن كل ما نريده أن نصل إلى حل يرضي الإنجليز ويرضينا. تري ما هو هذا الحل الذي يرضى طرفين متناقضين كل منهما يمثل مصلحة تتناقض مع الأخرى ؟! ذلك أن الذي يرضي طرفا ما لن يرضي الطرف الآخر. وأكثر من هذا أن طلاب مدرسة الحقوق عندما ذهبوا إلى بيت الأمة احتجاجا على اعتقال سعد زغلول خرج لهم عبد العزيز فهمي وقال لهم: عودوا إلى مدارسكم دعونا نعمل في هدوء. وهذا يعني في النهاية أننا أمام ثورة شعبية ولكن قيادة غير ثورية.   

وأمام عنف المظاهرات وأعمال العنف، أفرجت السلطات عن سعد زغلول ورفاقه من مالطا، وسمحت لهم بالسفر إلى باريس (7 أبريل 1919)، لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح المنعقد بضاحية فرساى، فوجدوا أن المؤتمر قد أنهى أعماله وعلم سعد زغلول أن الرئيس الأمريكي ويلسون المدافع عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها قد اعترف بالحماية البريطانية على مصر. وهنا قال سعد: علينا أن نعترف بالهزيمة ولكن بقي علينا كيف ننظمها ونعلنها على الشعب المصري، وأمام هذا الموقف لجأ سعد زغلول الى أعمال الدعاية للمسألة المصرية من حيث الاتصال بالصحف وإقامة المآدب للدعاية، وإرسال التقارير، واستمالة بعض الكتاب الأوروبيين للدفاع عن مصر. وفى هذا الخصوص كتب فيكتور رسالة باسم "صوت مصر" قدم لها أناتول فرانس أكبر أدباء فرنسا حيث تليت أمام مأدبة نظمها الوفد (2 أغسطس 1919). وذهب محمد محمود الى الولايات المتحدة الأمريكية واستعان بمحام قدير وهو جوزيف فولك للدفاع عن القضية المصرية حيث قدم مذكرة إلى لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى.

وإزاء تجمد الموقف السياسى، وبقاء الوفد فى باريس، فكرت الحكومة البريطانية فى إرسال لجنة لتقصى الحقائق حول ثورة الشعب ضد السيادة الإنجليزية. وفى 7 ديسمبر (1919) وصلت اللجنة برئاسة اللورد ملنر حيث قوطعت شعبياً، وفهمت من كل من كانت تسأله ضرورة التباحث مع الوفد المصرى فى باريس. ورغم الحصار الذى ضرب على اللجنة للاتصال بالأعيان المصريين، إلا أنها استطاعت بطريقة أو بأخرى مقابلة بعض الأعيان الذين سعوا بأنفسهم لها، وان كانوا قلة قليلة جداً. والحق أن الوعى كان تاماً بخطورة قدوم هذه اللجنة الى مصر فى تلك الآونة، حتى لقد احتجت السيدات المصريات عليها، ورأين أن مهمتها هى أن "يتصيدوا من المصريين نفراً من الخونة يقرونهم على الحماية" ..

عادت اللجنة إلى لندن دون الوصول إلى اتفاق مع المصريين، واقتنعت الحكومة البريطانية بالدخول فى مفاوضات مع الوفد الموجود فى باريس. وبدأت المفاوضات فى يونيو 1920 وانتهت بإعلان مشروع ينص على عقد محالفة بين مصر وإنجلترا تعترف فيها مصر بحاجة إنجلترا إلى حماية مصالحها الخاصة، ومسئوليتها بخصوص ضمان مصالح الجاليات الأجنبية، وذلك فى مقابل مساعدة إنجلترا لمصر فى حماية نفسها، على أن تقدم مصر لها كل المساعدات داخل حدودها؛ كما نص المشروع على تعديل الامتيازات الأجنبية بما يسمح لأن تنتقل للحكومة الإنجليزية الحقوق التى للحكومات الأجنبية بمقتضي نظام الامتيازات، وعدم اعتبار وجود القوات البريطانية فى مصر احتلالاً عسكرياً، وأن يعهد الى جمعية تأسيسية بوضع مشروع دستور لمصر يقضى بجعل الوزراء مسئولين أمام هيئة تشريعية. وبقى السودان خارج دائرة الاتفاق حيث كانت انجلترا قد أعدت ترتيبات ضمه الى امبراطوريتها الأفريقية منذ اتفاقيتى 1899. ونص فقط على أن تضمن إنجلترا لمصر مصالحها فى مياه النيل.

وأرسل سعد زغلول مشروع الاتفاق إلى مصر، كما أرسل بياناً ذكر فيه أنه مع اعتقاده أن المشروع غير واف بالمطالب المصرية إلا أنه يشتمل على مزايا لا يستهان بها وأن زملاءه فى المفاوضة لم يشاءوا رفضه على اعتبار أن الظروف الدولية قد تغيرت، وأن مصر لم يعد لها سند دولى، وأن إنجلترا انفردت بالقوة، ومن ثم اقترح هو وزملاؤه أن يعرض المشروع على الأمة بدلاً من رفضه من البداية. وقد عهد الوفد فى لندن الى أربعة من أعضائه هم: محمد محمود، وعبد اللطيف المكباتى، وأحمد لطفى السيد، وعلى ماهر، بالسفر الى مصر ليعرضوا مشروع الاتفاق مع ملنر على الأمة.

وتشير الصحف المعاصرة الى أن هذا الوفد لم يذكر عند عرضه المشروع فى الاجتماعات المختلفة إلا مميزاته، وكيف أنه يعطى الاستقلال لمصر. كما تبرع أعضاؤه بإجابات من عندياتهم وكأنها على لسان الإنجليز إرضاء للسائلين وذلك أثناء حفلات الاستقبال والتكريم. واستطاع هذا الوفد أخيراً الحصول على موافقة أغلبية أعضاء الجمعية التشريعية المعطلة.

وبعد ذلك بحوالى شهرين (ديسمبر 1920) أشيع أن عدلى يكن شرع فى تأليف حزب عقب عودته الى مصر يسمى بالحزب المعتدل. وكان عدلى فى إنجلترا بصفة رسمية للوساطة بين الوفد وملنر. والتفت حوله مجموعة ممن كانوا يرون فى مشروع ملنر أقصى ما يمكن الحصول عليه من الإنجليز.

وهكذا تصدع التماسك الوطنى الذى كان سمة الحركة الوطنية فى بدايتها، فقد برز الجناح المعتدل الذى يمثله عدلى يكن، والذى أراد الإسراع بالاتفاق مع انجلترا، إذ الأمة من وجهة نظر هذا الجناح لا تستطيع الاستمرار فى المعارضة والمقاومة طويلاً. ومن هنا علقت إنجلترا أهمية على عدلى يكن ورشحته ليكون السياسى المصرى الذى يقبل التسوية فى جوهرها بعد الوساطة التى قام بها بين لجنة ملنر والوفد خلال المفاوضات.

وفى 26 فبراير 1921، أبلغت انجلترا السلطان فؤاد برغبتها فى تبادل الآراء حول اقتراحات ملنر مع وفد يعينه السلطان للوصول الى إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح الخاصة لإنجلترا وللدول الأجنبية الأخرى والأمانى المشروعة للشعب المصرى. وفى أواسط مارس 1921 عرضت الوزارة على عدلى يكن فقبلها على أساس استئناف المفاوضات، ورأت أن تضع حداً للموقف من جانبها هى سواء بعقد معاهدة أو بإصدار تصريح من طرف واحد.

وهنا شن سعد زغلول حملة على عدلي يكن لدخوله المفاوضات بينما هو زعيم الوفد ووكيل الأمة، ووصف تفاوض عدلي يكن مع الإنجليز "كأن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس" (ملك إنجلترا آنذاك) كما وصف عدلي يكن وأنصاره ببرادع الإنجليز وانقسمت البلاد بين "عدليين وسعديين"، وتلك كانت المناسبة التي أنشد فيها حافظ إبراهيم قصيدته الشهيرة: مصر تتحدث عن نفسها. ونجحت الحملة في الحيلولة دون توقيع معاهدة.

ولما كان سعد زغلول قد حال دون توقيع المعاهدة فقد كان إبعاده أمراً لازماً لإنجلترا إذا ما أريد إتاحة الفرصة للمعتدلين ليتصدروا الموقف قبل إصدار تصريح من طرف واحد. وتم نفى سعد زغلول مرة اخرى الى جزيرة سيشل في المحيط الهندي وهي تحت السيادة البريطانية. وفى 28 فبراير 1922 صدر التصريح المشهور الخاص بإعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة بنظام ملكى، مع أربع تحفظات تكون محل مفاوضات فيما بعد وهي: تأمين المواصلات البريطانية في مصر؛ والدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي؛ وحماية المصالح الأجنبية وحماية الأقليات؛ وبقاء السودان طبقا لاتفاقيتي الحكم الثنائي عام 1899.

وهذه التحفظات التي كانت موضع المفاوضات ابتداء من عام 1924 مع حكومة سعد زغلول فيما بعد تؤكد أن الاستقلال لم يكن كاملا. ولعل أبرز دليل على ذلك أن المندوب السامي البريطاني لم يصبح سفير بريطانيا لدى مصر، ولم تفتح سفارة لمصر في لندن رغم إعادة وزارة الخارجية المصرية، ولم تنضم مصر إلى عضوية عصبة الأمم وهي المنظمة الدولية التي تضم الدول المستقلة. وظل هذا المندوب يمارس ضغوطه على السياسة المصرية باعتبار أن مصر محمية بريطانية من نوع خاص إلى أن تم عقد معاهدة 1936، والتي لم تحقق الجلاء وإنما نظمت وجود الجيش البريطاني في مصر في أربعة أماكن وهي: الإسماعيلية، ومعسكر مصطفى باشا في الإسكندرية، والقلعة في القاهرة، وثكنات قصر النيل في القاهرة التي مكانها الآن الجامعة العربية. وظل مطلب الجلاء والاستقلال قائما.

وأكثر من هذ أن الإنجليز قد نجحوا في شق الصفوف باستقطاب صفوة كبار الملاك وبعض ذوي الأصول التركية فكان ما كان من تكون حزب جديد باسم "الأحرار الدستوريين" بزعامة عدلي يكن (أكتوبر 1922)، أي من أولئك الذين قبلوا فكرة المشاركة في الحكم مع بقاء الإنجليز.

لكل هذه العوامل وتلك المظاهر نقول إن ثورة 1919 لم تكن ثورة بالمعنى العلمي الاصطلاحي، وإنما كانت انتفاضة شعبية تحقيقا للكرامة لكن قيادتها كانت مثالية تعتقد أن المرافعة القانونية تحقق استخلاص حقوق الشعوب في الاستقلال من يد الغاصب المحتل.