رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حياة سعد القلمية واللسانية

15-10-2020 | 16:21


يسرنا أن نقدم إلى قراء «الهلال» هذه المعلومات الوثيقة الطريفة عن فقيد مصر العظيم مدبجة بقلم كاتبه الخاص الأستاذ محمد إبراهيم الجزيري، فهو خير من ينبئ بعادات الرئيس وأخلاقه الصميمة، وهذا الفصل هو فاتحة الكتاب الجليل الذى شرع فى تأليفه بعنوان «آثار الزعيم سعد زغلول» وسيصدر منه في خلال هذا الشهر الجزء الأول مشتملاً على «عهد وزارة الشعب» وقد ابتدأ الكلام فيه منذ انتهت الانتخابات النيابية في يناير سنة 1924، وانتهى بعد استقالة وزارة الشعب عقب حادثة السردار في نوفمبر سنة 1924، وهذا الجزء يقع في أكثر من 300 صفحة، وهو مطبوع في مطبعة دار الكتب المصرية طبعاً متقناً للغاية على ورق صقيل جيد جداً، ومغلف تغليفاً متيناً، ويتخلله نحو 50 صورة للرئيس فى مناسبات مختلفة.

(المحرر)

بعد أن وقعت المصيبة العظمى، واحتسب هذا الوطن في سعد قائده الأمين، وبطله المرجى، وزعيمه المفرد، فكر الناس في تخليد ذكراه بشتى الوسائل، ورأيت أن الصلة التى وفقني الله إليها بحياته في سنينها الأخيرة، منذ تفضل رحمه الله باختياري سكرتيراً خاصاً له في رياستيه للوفد المصري ولمجلس النواب، تمهد لي ما لا تمهد لغيرى من جمع آثاره القولية في مختلف عهوده، فقد كان رحمه الله يخصني من زيادة المعرفة بهذه الآثار، وقرأت عليه منذ سنتين جميع مقالاته التي نشرها بغير إمضاء في الوقائع المصرية، أيام كان محرراً بها، فأرشدني إليها واحدة واحدة، ونشرت بعضها بإذنه في مجلتي التي أصدرها «مجلة القضاء الشرعي»، وكذلك له رحمه الله مقالات قيمة عدة، كان يبعث بها في أيام الانتخابات إلى «البلاغ» كثيراً وإلى «كوكب الشرق» أحياناً، فتنشر بغير إمضاء أو بإمضاء مستعار، وقليل منها كان يترجمه عن كتب أجنبية لما فيه من الحكمة الطريفة التي كانت تروقه، وهناك بعض مقالات أخرى، كان يوحى إلى بفكرتها مختصرة، ويترك لى تفصيلها وكتابتها في مقال واف، أعرضه عليه قبل نشره، ثم أنشره بإمضائي أو بغيره... إلى كثير من آثاره في الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين، والجمعية التشريعية، والجامعة المصرية، ومجلسي النواب والشيوخ... إلخ.

رأيت أن أجمع ذلك كله، إلهام الرئيس ووحيه وعنوان مجده، وأن أضيف إليه ما تقتضيه المناسبات مما كتبته في مذكراتي عنه رحمه الله، فذلك أجل ذكرى تقيمها للزعيم، وما تقام الذكريات إلا لتقرأ فيها عظمة العظيم.

وأخذاً للعمل في إبانه، شرعت في تنفيذ هذه الفكرة بداراً عقب الوفاة، غير أن العمل كبير، ويحتاج إلى زمن طويل لإخراجه جملة، والتريث فيه لا يسد شوق الناس إليه، فاعتزمت أن أخرج تلك الآثار فى أجزاء متتابعة، لا ألتزم فيها الترتيب الزمنى اطراداً أو انعكاساً، بل أبدأ بالأهم فالمهم من عهود الرئيس، بحيث أصدر كل جزء فى المناسبات التى تقتضيه.

وقد كان عهد الرئيس رحمه الله، وهو على رأس وزارة الشعب، خير ما تبدأ به سلسلة عهوده الذهبية: لأنه وضح القضية المصرية فيه رسمياً، فوق ما وضحها شعبياً، ورسم طريق الوفد في المفاوضات رسماً ينفعنا أجل نفع في العصر القريب الذى سندخله، ثم هو قد أعطى في ذلك العهد أحسن المثل للحكومة الديمقراطية، وأدق التنفيذ للنظم الدستورية، وأعدل الحكم للحياة النيابية، وكان فيه رجل الأمة والحكومة، مجتمعة فيه كل القوى، صادراً فى نطقه عن العرش والبرلمان والأمة.

وقد يحسن بى أن أمهد لهذه العظمة الخالدة، وهذا النور الفياض على أرجاء البلاد، بوصف موجز مما وعته ذاكرتى عن حياة الرئيس القلمية واللسانية، تضح منه حالاته فى التفكير والكتابة والمطالعة والخطابة، وغير ذلك مما يتعلق بالقلم واللسان اللذين هما قرص هذه الشمس المنيرة.

لم يكن رحمه الله فى أوقات العمل يعرف للتعب اسماً أو معنى فكثيراً ما عمل فى الظروف العصيبة إلى ما بعد منتصف الليل، وكثيراً ما كان يملى على ساعات متوالية، يلتفت في أثنائها فيقول: «لا تؤاخذني! أنا جبار» ثم يأذن لي في الانصراف حيناً، لاستريح واسترد نشاطي.

وما كان أشق على نفسه أن يمنعه الأطباء في أيام مرضه من القراءة والكتابة، ولكنه يحل رأيهم فوق كل رأى له، ويحترمهم، ويحبهم.

وقل أن ينام قبل الساعة الحادية عشرة مساءً، وينام فى حالاته العادية ثلاث ساعات أو أربعاً كل ليلة، وفى أيامه الأخيرة، كان يتحايل على النوم نصف ساعة بعد الغداء، وساعة أو اثنتين فى الليل.

كان يستيقظ مبكراً، ويتناول طعام الإفطار، ثم يحلق ذقنه بنفسه، وبينما هو يحلقها يملى على مقالاً أو خطاباً، أو يصغى إلى ما أتلوه من الرسائل، أو يتناقش مع جلسائه، وكذلك يفعل وقت الأكل أيضاً.

وأول ما يعمل فى الصباح أن يقرأ الصحف العربية: فيبدأ بالمعارضة منها، ويراجع فيها ما يختص بالسياسة المصرية أولاً وآخراً، وقلما يعطى مثل هذا الوقت لغيرها، ثم يتناول سائر الصحف: فيقرأ فيها ما يختص بالوفد المصرى، ثم يلقى نظرة على الأخبار الأخرى، وإذا كان لديه متسع من الوقت، قرأ الصحفات الأدبية والعلمية، والمقالات عن أحوال البلدان الأجنبية وكان يتصفح يومياً جريدة «الإجيبشان جازيت» الإنجليزية، ولا يتصفح من الفرنسية بانتظام إلا «البورص إجيبسيان» و«لسبوار» أيام ظهورها، وقليلاً ما كان يقرأ «الجورنال دى كير» أما «الليبرتيه» فأمسك عنها منذ أصبحت لسان حزب الاتحاد.

بيد أنه رحمه الله كان يملؤه الزهد فى قراءة الصحف المعارضة حين تقصر مقالاتها على المطاعن العقيمة، فلا يعطيها تلك العناية الكبيرة، وتجلى هذا الزهد فى أيامه الأخيرة، حيث رغب عن الصحف المعارضة جميعاً.

وكان يميل عادة إلى الكتابة بعد قراءة الجرائد، فيرجو من جلسائه أن يتركوه وحده، ويعكف على كتابة خواطره - وكان يكتب بالقلم الرصاص أكثر ما يكتب، فإذا كان على مكتبه كتب بالحبر - ثم يملى على ما كتب: فيكون حيناً مقالاً انتخابياً، أو قانونياً، وحيناً رداً على خصومه السياسيين أو شرحاً لنظرية وفدية، وأحياناً قليلة قطعة يترجمها عن كتاب أجنبي، فيكلفني بإرسال ما أملى إلى «البلاغ» أو إلى «كوكب الشرق» أو يحفظه بين أوراقه.

أما مذكراته فكان يكتبها بالحبر بخطه، وقد حظيت عنده رحمه الله مرات كثيرة، فأسمعني أبواباً شتى منها فى وقت فراغه أو أثناء بحث أو ترتيب لأوراقه.

وكان خطه غير مستقيم الرسم، لا يكاد يقرأه إلا من مرن على قراءته، ولم يكن يتضح من كتابته غير إمضائه، فإنه يكتبه مبيناً قريباً إلى الجمال الخطى، وكان يشهد لنفسه بقلة الجودة فى الخط: أرسلت إليه إحدى شركات الأقلام الكاتبة مندوبها، ليهدى إليه نموذجاً من أقلامها بديع الصنع دقيق التركيب، وبعد أيام جاء هذا المندوب، ورجا أن يتفضل الرئيس الجليل فيخط جملة بذلك القلم، يردفها بإمضائه، لتتخذها الشركة شهادة لقلمها وإعلاناً عنه، فكتب رحمه الله وهو يمازح المندوب هذه الجملة: «خط هذا القلم جميل فى غير يدى».

وكان رحمه الله من قوة الذاكرة وحضور البديهة في غاية لا غاية وراءها!

فى اليوم الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1926، زار «بيت الأمة» لفيف من المحامين بمدينة الإسكندرية، وفى مقدمتهم نقيبهم الأستاذ حسين والى، وكان الرئيس الجليل فى رياضته المعتادة، فترقبوه، حتى إذا عاد تلقوه على رأس السلم بالتحية، وقدمهم الأستاذ النقيب بأسمائهم، ثم تقدم هو باسمه، فما أسرع ما مرت ببال الرئيس رحمه الله ذكريات متدافعة، استوقف إحداها فقال، وهو لا يزال على رأس السلم معتمداً على عصاه: «أتذكر أنك (مخاطباً الأستاذ النقيب) ترافعت أمامى... فى سنة 1904... فأعجبت بمرافعتك... وعزمت على أن أهنئك... ولا أدرى هنأتك أم لا... وأنى أتذكر جيداً موضوع القضية ووجه دفاعك...» وطفق رحمه الله يقص عليهم، وهم فى دهشة بالغة وإعجاب حائر، حديث ذلك الظرف، كأنه يقص شيئاً من حوادث الأمس!!.

وقد كان إذا أراد كتابة مقال هام أو نداء خطير، أكثر فيه من التبديل والتحوير، وربما غير بعض جمله أو غيره كله ثلاث مرات أو أربعاً، على أن كل صورة من هذه الصور المتعددة بلاغة وحدها، قل أن يجد فيها الذوق منفذاً للنقد، وكان رحمه الله يتحرى الأسلوب الصحيح والكلمات العربية الفصيحة، جهد البحث، وإلى جانبه دائماً معجم «أقرب الموارد»، وندر أن بحث فى «لسان العرب».

ووزن الجمل والمقاطع عنده جزء من كتابته، فقد كان يعنى جد العناية بالمطالع والمواقف، ويقرأ الجملة مرات ليتذوق نغمها فى سمعه، وليعرف إن كانت نابية عما قبلها وبعدها فى الانسجام والاتزان.

وقال عنه خصومه فى بعض الأحايين أنه متشبث برأيه، متعصب لفكرته!! فوالله ما كان أحب إليه أن تساق أمامه الملاحظات على ما يكتب ويقول، غير أن ذلك الظاهر، الذى سموه استبداداً، إنما كان منه فى الفكرة التى قتلها بحثاً وقلب فيها وجوه الرأى جميعاً، فإذا جادله عليها مجادل، كان رحمه الله فى رسوخ اليقين، ومجادله صاحب رأى فطير وبحث قصير.

لقد كان شغوفاً بأن يطلع أعضاء الوفد وأصدقاءه المقربين على ما يكتبه قبل نشره، فكثيراً ما كان يستدعينى، لأقرأ عليهم ما أعده، ويسمع منهم ملاحظاتهم، أياً كانت، من حيث الأسلوب أو المعنى أو المناسبات، ولا يدهشك أنه رحمه الله كان يستدر هذه الملاحظات ويتقبل صوابها بصدر رحب ولو كانت من شخصى الصغير! بل كان يقول لى دائماً عند البدء فى الإملاء: «لا تتأخر أن تنبهنى إلى ما ترى من النقد».

وكان رحمه الله قوى الارتجال، تتحدر الخطبة من فيه على الناس، بأسرع مما تتحدر المقالة من قلمه على القرطاس! ولم يعد من خطبه إلا الرسمية، أو شبهها، فيكتبها ويراجعها مراراً على النحو الذى قدمته، ثم يتلوها مكتوبة، وكان ذلك منه قليلاً نادراً، حيث كان الأكثر العظيم من خطبه ارتجالاً.

وقد كان تعبيره فى الارتجال أقوى من تعبيره فى الروية، ولاحظت ذلك كثيراً فصارحته رحمه الله مرة به، فأجابنى: «صحيح، أنا أجد ذلك فى نفسى».

أما أوقات فراغه، وهى نادرة جداً، فكان رحمه الله يقضيها بالمطالعة فى كتب عربية، لا علاقة لها بالسياسة، ولها كل العلاقة بالقلم والخطابة، وكان فى السنتين الأخيرتين يرتاح إلى القراءة فى كتب «نهاية الأرب، والتاج، والأغانى».

وكثيراً ما كان يقرأ كتباً فرنسية أو ألمانية أو إنجليزية، ولكنها دائماً قانونية أو تاريخية أو فلسفية.

تعلم رحمه الله الفرنسية من قديم، وتلقى مبادئ الإنجليزية فى «عدن» على المرحوم محمد عاطف بركات باشا والأستاذ وليم مكرم عبيد، وهم فى طريقهم إلى منفى سيشيل، وتعلم الألمانية منذ عام 1911 - 1912 بمساعدة «مدموازيل فريدا» وكان يقرأ عليها كتب اللغتين الألمانية والإنجليزية فتصحح نطقه وتساعده على فهم الأسلوب، وكان دائماً حفياً بقصاده الذين لا يعرفون إلا الألمانية أو الإنجليزية، فكان يقابلهم مهما كان لديه من العمل، ويحادثهم قدر إمكانه بلغتهم ليستزيد من المران عليها، ولا يجد غضاضة فى أن يخطئ التعبير الصحيح أو ينبهه أحد إليه، وما كان أبرعه رحمه الله حين يمزج كلامه فى هاتين اللغتين بالنكات الطريفة والمداعبات التى تجمل خطاه فيهما وتملأ نفس محدثه بالسرور!!.

كان رحمه الله يرقب باهتمام وعناية ما ينشر من الكتب الحديثة بمصر، فيكلفنى بشرائها، ويقرأ منها ما تسمح الفرصة به، وقرأت له كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، وأدلى إلى برأى فيه قيدته عندى، وكذلك قرأت له كتاب الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى «إعجاز القرآن» وكتاب الدكتور طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، ورد الأستاذ محمد فريد وجدى عليه، ومحاضرات المرحوم الشيخ محمد الخضرى بك فى نقده.

وبعد، فذلك موجز صغير أقدم به «آثار الزعيم سعد زغلول»، وإن رجلاً ملأ الأبصار نوراً، والأسماع ذكراً، والأفواه ثناء، ليس فى شأنه نكرة فتعرف، ولا مجهل فيعلم، وإنما الكلام عنه لتبين طرائق التأسى به، والاستمساك بأسباب عظمته، وقد كان الرئيس الجليل رحمه الله مؤرخ نفسه، وناشر مجده وسؤدده بلسانه، لا تحتاج فى معرفة حياته وحوادث أيامه، إلا إلى قراءة كلامه، وأنت تعلم أن الرئيس مصر، شعورها وإرادتها ولسانها، وأنه صفى روحه وأخلص عمله لمصر، أحوج ما يكون إلى رعاية جسمه المهدم بالأدواء، وقواه الفانية بالشيخوخة، فاقرأ إذن فى آثار الرئيس تاريخ الوطن، مصره وسودانه، واقرأ فيها إرادة شعب النيل، واقرأ وحى الوطنية، وإلهام الإخلاص، ونور الله نشره على كنانته الأمينة.

هذه هى الذكرى الخالدة التى يجب أن نقيمها لسعد، هى عظمته وزعامته والروح الكبرى لجسم الوطن، فلنحى هذه الذكرى، وليقرأ كل مصرى صحفها البيضاء، فسنكون يومئذ أدنى إلى البر والوفاء، وسيكون سعد فى كل قلب، ونوره فى كل بيت، ولن تنال منا وحشة فقده إلا أن تحفزنا إلى ترسم مجده، وإلى إحياء تعاليمه الحكيمة، ومبادئه القويمة.