رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محمد السيد إسماعيل يكتب: من تهالك المكان إلى اعتلال الجسد قراءة في رواية «حياة مؤقتة»

16-10-2020 | 21:27


بقلم محمد السيد إسماعيل 


رواية "حياة مؤقتة" لحمدان عطية تبدو لي – من حيث الحجم – أقرب إلى "النوفيلا"، لكنها تخرج عن هذا التوصيف باعتمادها على تعدد الأماكن والشخصيات، بعكس النوفيلا التي تتسم – غالبًا – بوحدة المكان ومحدودية الشخصيات. تبدأ الرواية من طفولة السارد، وتستمر في رصد أحداث رحلة حياته، من خلال بنية زمنية مُطّردة، تتخللها – أحيانًا – تقنية استرجاع الماضي أو استشراف المستقبل. والتيمة المركزية في هذه الرواية هي الخوف الذي يصل إلى حدود الرعب المُقْبِض، فالسارد يعيش – في طفولته – حالة دائمة من الرعب بسبب البيت الجديد الذي انتقلت إليه الأسرة، ويرجع ذلك إلى بساطة هذا البيت، فهو عبارة عن "خُصّ" يقع على حدود القرية قريبًا من الحقول، ومع الليل يزداد رعب السارد وإخوته من سماع أصوات الذئاب، فيتدثرون بالأغطية المُتربة. وهكذا تتضافر عناصر المكان والزمان - مع الذئاب المفترسة - في تأكيد حالة الرعب التي ستظل ملازمةً للسارد، يستعيد ذكراها مع كل حالة مشابهة. 

من هذا المكان المتهالك - الذي لا يمنح الأمان - يبدأ اعتلال الجسد، كما يبدأ الرعب من غُول آخر ينهش أعماق السارد، حين يكتشف الأطباء إصابته بالسرطان الذي جعل جسده أشبه بعود "الخَسّ"، كما وصفه مقاول البناء أثناء عمله معه، الأمر الذي يُمَكِّنُنا من وصف الأمكنة داخل الرواية بأنها أماكن طاردة، سواء أكان "الخُصّ" الذي عاش فيه السارد طفولته وصباه، أم أماكن العمل الكثيرة التي مر بها داخل القاهرة، أم أماكن السُّكْنى الفقيرة التي استأجرها. نحن – إذنْ - أمام رحلة مكانية ما بين القرية والقاهرة، وعلى عكس ما هو شائع عن قسوة المدينة على الريفيّ، فإن السارد قد عانى كثيرًا في قريته، ولم يستطع التكيف معها، ورأى في المدينة – رغم قسوتها – ملاذه في الهروب من هذه القرية التي أحس فيها بالاغتراب، حتى مع أقرب الناس إليه، كما يبدو في قوله: "أُحِسُّ أنني لست من هذا العالم، أُحِسُّ بغربة مُوحشة، لا أرى في هذه الخُضرة المُمتدة عبر الحقول سوى صيحات الطَّرد والإدانة، أصرخ في داخلي: أبي ليس أبي وأمي ليست أمي وهذه ليست قريتي". (من رواية "حياة مؤقتة"، حمدان عطية، ص52، الهيئة المصرية العامة للكتاب). 

يتخذ دَالُّ "القطار" بُعْدًا رمزيًّا، بوصفه وسيلة تمرد على سلطة الأب. وكان قُرب البيت من محطة القطار مُغْرِيًا للسارد في اتخاذ هذه الخطوة، التي ستغير حياته، وتكشف له عن عالم أكثر رحابة، يقول: "نما بيننا وحيدًا وسط الغيطان المُمتدة، وأمامه ثلاثة طرق متفرعة تؤدي إلى محطة القطار، ستُغريني وتُغذّي رغبتي في الرحيل هذه الطرق المفتوحة". 

لا تقتصر تيمة الرحلة على البُعد المكاني فحسب، فهناك رحلة أخرى أشدُّ تأثيرًا وإيلامًا، هي رحلة السارد مع المرض. وقصة المرض أشبه باللعنة التي طاردت أغلب أفراد هذه الأسرة، بدأت بالأب الذي فقد الرؤية بسبب "المَسّ" الذي استخدمه حلاق القرية في علاج عينيه، مما اضطره إلى المكوث بالمستشفى أسبوعين. ويصنع الكاتب بِنية تَمًاثُلٍ دلاليّ، بين حالة أبيه من ناحية ومطاردة الكلاب الضالة له حتى ارتمى فريسة أمامهم، وبين نُفُوق البقرة الوحيدة التي كانت تمتلكها هذه الأسرة، وموت ثلاث من أخواته من ناحية أخرى. ثم يبدأ مرض السارد الذي سيحتل مساحة واسعة من السرد، ولن يجدي معه العلاج الشعبي مثل ربط "الرَّدَّة" الساخنة بمنديل على موضع الألم، أو شرب الشعير، أو الذهاب إلى عَرَّاف القرية الذي يدَّعي استحضار الجن، مما يضطر الأب إلى الذهاب للطبيب، الذي يحوله – بدوره - إلى مستشفى العاصمة، وهناك تبدأ رحلة العلاج الكيماوي التي تقضى على ذكورته، وهو الأمر الذي اكتشفه أثناء رحلته الثالثة في البحث عن عروس. هذه الرحلة التي عَرَّتْ أعماق المجتمع، وصَوَّرَتْ أنماطًا بشريةً مختلفةً: المنتقبة، والطبيبة، والمطلقة، والموظفة، كما كشفت فلسفة طبقات كثيرة في المجتمع لا تبحث إلَّا عن مجرد زوج لستر بناتها.

 إن الفقر - لا شك - هو السبب الرئيس وراء مأساة هذا البطل، وهو الذي أجهض كل طموحاته، وقضى على أعز مايمتلكه الرجل، وعلى أعز أمنياته في أن تكون له ذرية. فحين يسأل الطبيب والد السارد وهو يشخص مرضه: "هل يمشي حافيًا ياحاج؟ هل يشرب ماءً مُلَوَّثًا؟" يرد والده: "العيال كلها بتمشي حافية"، وكأن هذا أمر طبيعي لا يحتاج إلى سؤال. ويظهر هذا الفقر في أثاث البيت: طِشت نُحاس، وبعض الأواني القديمة المتهالكة، ولمبة الجاز، ناهيك عن البيت نفسه الذي كان مصنوعا من "البوص". وهكذا نكون أمام حالة من تهالك المكان، الذي أدّى إلى اعتلال الجسد. 

يقول السارد راثيًا جسده ومُتَوَجِّعًا من الحالة التي وصل إليها: "آه ياجسدي المعتل! ماذا حدث لك تحت الكوبالت؟ ضَخَّ فيك الأطباء الكيماوي، حتى خرجت من تحت أيديهم هيكلًا تحمل سَمْتَ صبيّ". نحن أمام شخصية تعيش هواجسها وتخوفاتها وإحباطاتها من الواقع، وهو ما يُفسر شيوع تقنية المونولوج على مدار الرواية، مُعَبِّرًا عن الكوابيس التي تطارده في النوم واليقظة. يقول: "أراني أُحِسُّ بخوف شديد، لا أدري من أين يأتيني إحساسٌ بأن عصابة ستقتحمني بعد قليل، وربما تحملني إلى مكان مجهول لن أستطيع العودة منه، أو ربما يد شرطي ضخم ستمسك بي بغلظة". وهي كوابيس مُترسبة في أعماقه منذ الطفولة، حيث كان – وهو في مرضه – يتخيل مشاهد الجنة والنار، وتُلِحُّ عليه صورة الثعبان الأقرع، والملكين اللذين سوف يعنفانه لأنه يتلعثم في ذكر الشهادتين. 

هذه الصور - التي اختلط فيها المرض بالموت وعذاب القبر - ظلت قابعة داخل السارد لا يستطيع الخلاص منها. وفى مرحلة مرضه، حيث تُحيط به سيارات نقل الموتى من القاهرة إلى محافظات مصر، كانت تُلِحُّ عليه رؤًى نصف مستيقظة "تداخلت فيها بشكل متواصل صور الأحياء بصور الجاهزين للقبر". وبعد شفائه يظل مفزوعًا أن يعاوده مرة أخرى غول المرض الذي يسكنه. أمّا الرحلة الأخيرة فهي رحلته في البحث عن عمل، والذي لن يختلف عن طبيعة عمل أبيه بالسخرة لمقاومة فيضان النيل، حيث "كانت الحكومة تأتي لتأخذ الرجال بالقوة للعمل حتى ينحسر الفيضان". لم تختلف الأعمال التي مارسها السارد أو أجبرته ظروفه لقبولها عن هذا، وهو ما يُدركه تمامًا، ويرى مدى الاستغلال الذي مورس عليه حين يقول عن المقاول "هل استفزني هذا الرجل بهذه الإهانة لكي أتحامل على ضعفي وأصل بقصعتي إلى الدور التاسع؟ حتى تتحول خُثارات الدم بكتفي - بفعل القصعة - إلى جُنيهات ذهبية في خزانته". 

إن تجربة حياة السارد شاهدة على طبيعة هذه الفترة، التي شهدت ظاهرة الإرهاب، كما شهدت ظواهر الفقر والبطالة، فبعد أن يعمل السارد في أحد الفنادق تدخل البلاد "في موجة هجمات الإرهابيين على الأماكن السياحية، لتضرب السياحة في مقتل، وتتسبب في عدم مجيء السياح للبلاد"، فيفقد عمله ليعاود البحث عن عمل مرة أخرى. 

يعتمد الكاتب على ما يمكن أن نسميه بـ "المشاهد المتقابلة"، فبعد أن يتأكد من عدم قدرته على الإنجاب يسمع في الشقة المقابلة أغنية تصدح احتفالًا بسُبُوع طفل، فيغلق بابه في صمت ويرمي جسده فوق السرير. والأمر نفسه نلاحظه في التقابل بين الحُلم والواقع، حين يحلم بأنه أصبح "دون جوان" عظيمًا، قادمًا من القُرى، موعودًا بفتوحات وطرائد لا تُعَدُّ، وحين يصحو يرى نفسه "مُمَدَّدًا على سرير ينهشه الصدأ". وفى الحلم تنعكس رغباته في الأنثى إلى أن يستيقظ على واقعه الفقير، يقول عن إحدى الفتيات "بادلتها بطول الليل ضحكًا بضحك، ولم أفترق عنها ولم تفترق عني، إلَّا وعامل النظافة يوقظني بطرف مقشته لينظف الرصيف". ويظل لقاؤه بالشاعر ذي الشعر الأبيض المُهَوَّش – يقصد عفيفي مطر – هو الذي فتح له باب الكتابة التي وجد فيها علاجه، فبعد عودتهما من المصيف يقول "عُدْتُ من هذه الرحلة لأبدأ أول سطور في الكتابة، لأردم بها فجواتٍ عميقة داخل ذاتي، فما من وسيلة أخرى بقادرة على مساعدتي في مواجهة الخوف من الغول سواها". وربما كان هذا أحد مقاصد هذه الرواية البديعة لحمدان عطية.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020