رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


منير عتيبة يكتب: الخطيئة الكبرى في «غيوم فرنسية»

16-10-2020 | 21:55


بقلم منير عتيبة


عندما أخبرتني ضحى عاصي أن روايتها الجديدة (غيوم فرنسية- دار ابن رشد- القاهرة 2020) تدور في فترة الحملة الفرنسية، شعرت بالإشفاق عليها، فما الذي يمكن أن تقوله عن فترة معروفة تاريخيًّا إلى حد كبير، وتناولتها أعمال مسرحية وروائية كثيرة، خصوصًا في السنوات الأخيرة؟! كيف ستحقق للقارئ الدهشة عندما تحكي له ما يعرفه بالفعل؟!

لكنني عندما بدأت في قراءة الرواية تبخرت تلك الأسئلة من ذهني، وحلّت محلها أسئلة مختلفة، كيف اختارت ضحى عاصي موضوعًا تاريخيًّا لتفجر فيه قضية إنسانية كبرى، تمس الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي، وتظل مفتوحة للمناقشة قبل هذه الفترة التاريخية وأثناءها وبعدها، والأهم أنها تمس رهاننا الآن في جميع أنحاء العالم، على مستوى الجماعات الصغيرة، كما على مستوى العلاقات الدولية؟. والأهم - بالنسبة لي - كيف استطاعت ضحى عاصي أن تعبر عن فكرتها بتقديم جانب جديد وغير شائع من جوانب تاريخ الحملة الفرنسية؟ وكيف استطاعت أن تعبر عن فكرتها وشخصيات عملها عن طريق بنائها الروائي ذاته؟.

حرصت ضحى عاصي على بناء روايتها بناءً مُعبرًا عن أفكارها الأساسية، وعن المساحة المتاحة للأماكن والشخصيات، ليكون تحليل هذا البناء هو مفتاح الفكرة الرئيسة في العمل وسبب المتعة القرائية معًا.

تقع "غيوم فرنسية" في 286 صفحة، حصلت الأحداث التي جرت بمصر على 63 صفحة منها، تشمل الفصل الأول كله (56صفحة) والمقطع الأخير من الرواية (7صفحات). ولنلاحظ أن الأحداث تبدأ وتنتهي بمصر، وكأن لا شيء تغير حقيقةً بالعودة إلى نقطة البداية. أما الأحداث في فرنسا فتتسع لها المساحة الباقية (223 صفحة) أي أكثر من ثلثي الرواية. وهي أرض جديدة تكتشفها "غيوم فرنسية" كرواية تتناول فترة الحملة الفرنسية على مصر، تتناول مصير من ذهبوا مع الحملة الفرنسية، والأهم كيف بحثوا عن هويتهم، وهل وجدوها أم ضاعت منهم أكثر؟ حيث لم تعد الصدمة الحضارية التي تخص الحملة مجرد التقاء أوربا - بمدافعها ومطبعتها - بمصر، بل صدمة المعيشة في المجتمع الفرنسي ذاته.

قسمت الكاتبة روايتها إلى ثمانية فصول، اشتمل كل فصل منها على عدد من المقاطع، وكانت المقاطع في معظمها قصيرة، بعضها لا يزيد على صفحتين، تنتقل بهذه المقاطع من مشهد إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، فيظل القارئ مشدودًا ليعرف إلى أين تسير الأحداث بهذه الوتيرة المتسارعة والمفاجآت المدهشة على مستوى الأحداث الخارجية، دون إغفال الولوج إلى المناطق المظلمة من نفوس الشخصيات للتعرف على منابع أفكارها، وأسباب ردود أفعالها.

الفصل الأول هو أطول فصول الرواية (56 صفحة)، وقد تعمدت الكاتبة ذلك، حتى في طول المقاطع، بل أيضًا في طول الجمل التي كتبت بها هذا الفصل، وكأنها تشير إلى هدوء وسكون الحياة في مصر، مقابل ما سنراه من مقاطع قصيرة، وجمل لاهثة، وفصول أقل حجمًا متوسط كل منها 32 صفحة، إشارة إلى تلاحق الأحداث في فرنسا، وسرعة حدوثها، وزلزلة ردود الأفعال تجاه الصدمة الكبرى للعيش في المجتمع/الحلم بالنسبة للهاربين عندما يرون حقيقته الواقعية، فيكتشفون أن أهم ما هربوا منه لا يزال موجودًا، وبدرجة أشد من القسوة، فهم مرفوضون كمسيحيين من مجتمع كانوا يظنونه مسيحيًّا.

تبدو الأحداث المعروفة لوقائع الحملة الفرنسية مجرد خلفية، تغوص على أثرها الكاتبة في نفوس شخصيات قلما نراها من أعماقها في روايات تناولت تلك الفترة، مثل فضل الله الزيات الشاب المسيحي الذي يعاني عقدة الاضطهاد والإحساس بالدونية التي رسبها لديه أقرانه ومجتمعه، فيُضَحِّي بحياته المستقرة، وينضم جنديًّا في فيلق المعلم يعقوب المناصر للفرنسيين المحتلين لمصر، وتتحطم آماله بسرعة مع اندحار الحملة، فيخرج مع المعلم يعقوب ومن خرجوا معه ممن لن يأمنوا على أنفسهم بعد رحيل الفرنسيين. وقد تدرج في الجيش الفرنسي حتى أصبح من كبار قادته، ووقع في الزنا في أول فترة وجوده بفرنسا، فحاول الحصول على الغفران، لكن أب الكنيسة يرفض منحه إياه لأنه من مذهب مختلف (لأنك بالنسبة لي غير مسيحي، ولكي أستطيع مساعدتك عليك أن تقبل بإيمان الكنيسة الجامعة الواحدة، الكنيسة الكاثوليكية) ص146. ثم يموت فضل الله في ثلوج روسيا. 

والأب عبد الملك الذي ناصر الفرنسيين منذ البداية، ثم سافر إلى فرنسا، وحاول أن يضم رعيته ممن هربوا مع المعلم يعقوب، ففشل، وعمل بمهنته الأساسية نجارًا. وجين الفرنسية التي عاشت عمرها كله جارية في قصور المماليك اسمها (سعيدة) والتي لم تعد تعرف نفسها، هل هي جين أم سعيدة؟ وغيرها من الشخصيات التي تعيش الأزمة ذاتها، أزمة هُوَيَّة تَفَتَّتْ تحت ضغط الرفض من الآخر.

إضافة إلى الراوي العليم، استخدمت الكاتبة عشرة رواة يتحدثون بضمير المتكلم، ولم يكن نصيب الراوي العليم سوى تسعة مقاطع من إجمالي مقاطع الرواية البالغة واحدًا وأربعين مقطعًا، في إشارة إلى أن الكاتبة لن تتدخل بذاتها، بل ستترك الشخصيات تعبر عن نفسها بنفسها، وبحرية مطلقة، وكأن الرواية تتيح لشخصياتها فرصة التعبير والتعرف على ذواتهم التي حرمها منها واقعهم سواء في مصر أو في فرنسا.

وقد عبر استخدام الضمائر عن وعي الكاتبة الشديد بكيفية إعطاء ما تريد من ثقل، وشرح تطور الشخصيات من خلال ضمير الحكي، وسنعطي ثلاثة أمثلة على ذلك: فالبطل الرئيس للرواية هو فضل الله الزيات، لذلك خصصت له الكاتبة 17 مقطعًا من الرواية، 13 منها بضمير المتكلم، واثنان فقط بضمير الغائب، وواحد يتراوح فيه الحكي بين الضميرين، وواحد يتراوح فيه الحكي بضمير المتكلم بين فضل الله وأبينا عبد الملك. فضل الله الباحث عن الذات، ومحاولة معرفة هويته، أمام فكرة أنه مدني ينضم لفيلق المعلم يعقوب، وفكرة أنه مسيحي في مصر المسلمة، وأرثوذكسي في فرنسا الكاثوليكية، وفكرة أنه شرقي يصير قائدًا كبيرًا في جيش نابليون، يصبح عظيمًا لأنه يستطيع أن يقتل أكثر، وفكر البحث عن الغفران لأنه زنى في لحظة ضعف فلا يجد هذا الغفران. لكل ذلك فهو يتحدث كثيرًا بضمير المتكلم لأنه يريد أن يفهم نفسه، ويعرف هذا العالم من حوله، لكنه لا يصل إلَّا إلى تمزق روحه، ولا يحصد سوى موت بلا مجد.

أمّا أبونا عبد الملك، فهو منذ البداية يعرف ما يريد، ولم يتزعزع إيمانه بنفسه، ولا بعقيدته، ولا بأفكاره، حتى عندما هاجمه زملاؤه من القساوسة لانضمامه لصف الغازي نابليون ضد أهل بلده، لذلك فالمقاطع التي تخصه - وعددها ثمانية - كلها تُروى بضمير المتكلم، إضافة إلى المقطع الذي يتحدث فيه بالتتابع هو وفضل الله. 

أما الفتاة الفرنسية التي اختطفت وهي صغيرة، وعاشت طوال حياتها في قصور المماليك باسم (سعيدة) ثم هربت مع فلول الحملة إلى فرنسا، وعرفت أنها (جين)، فقد خصصت لها الكاتبة ثلاثة مقاطع فقط، أولًا لأنها على هامش الأحداث الكبرى في الواقع وفي الرواية؛ كامرأة وكغريبة في مصر وفي فرنسا معًا، ثانيًا لأن هذه المقاطع الثلاثة كانت كافية للتعبير عنها وتقديم أزمتها. في المقطع الأول يتحدث الراوي العليم عن جين التي لا تعرف هل هي جين أم سعيدة، وفي المقطع الثاني يختلط الراوي العليم بضمير المتكلم في صراع بين الشخصيتين بداخلها، وينفرد ضمير المتكلم بالمقطع الثالث حين اختارت جين حقيقتها الجديدة، وعرفت ذاتها، وتصالحت معها.

في المقطع الأخير من الرواية يعود أحد الضباط المساعدين للقائد فضل الله الزيات إلى مصر، لينشئ الجيش المصري الحديث حسب طلب حاكم مصر محمد علي باشا، هذا الضابط هو الذي اشتهر بعد ذلك بسيف أو سليمان باشا الفرنساوي، يعود إلى محبوبة - أرملة قائده - ليخبرها بلطف أن زوجها مات في الثلوج، هي تسأل بوضوح (أين دُفِنَ فضل؟ ربما يستطيع ابنه يومًا ما أن يزوره في قبره) لكنها لا تجد إجابة، ففضل لم يستطع أن يتعرف على ذاته الحقيقية، ولم يستطع أن يتواءم مع مجتمعه في مصر، ولا في فرنسا، فضل لم يصل إلى شيء، فلن يكون له قبر. محبوبة، التي رفضت أن تترك مصر وتسافر مع زوجها، وكانت حاملًا منه، يأتيها الهلع من ناحية أخرى، من ناحية ابنها فضل -المسمى باسم أبيه - عندما يسأل الضابط: 

(هل أستطيع أن ألتحق بالجيش لأكون ضابطًا عظيمًا مثل أبي؟)

وقع قلب محبوبة، هلعت، فرنسي آخر يأتي ليأخذ فضل، هل ستحرمها شهوة السلاح من زوجها وابنها؟).ص285-286.

ما لم تدركه محبوبة؛ وأدركته وكتبته ضحى عاصي، أن تسمية فضل الابن لم تكن مجانية، لأن رحلة الأب لم تنته، وأن شهوة السلاح ليست هي التي أخذت زوجها - وربما تأخذ ابنها وتأخذنا جميعًا - ولكن الرغبة في معرفة الذات، والرغبة الأشد في تواصل حقيقي مع آخر لا يرفضك لمجرد أنك مختلف عنه.

لن يستطيع القارئ لرواية غيوم فرنسية أن يهرب من حقيقة أن الإنسان لا يزال في أعماقه عنصريًّا، ولا يزال لا يتقبل المختلف عنه أيًّا كان هذا الاختلاف - دينيًّا أو اجتماعيًّا أو جنسيًّا.. إلخ - فالفرنسي ينظر إلى المصري نظرة دونية باعتباره أقل منه درجات على السلم الحضاري، والمصري يرى الفرنسي كافرًا مصيره النار، والمماليك ينظرون للمصريين - مسلمين ومسيحيين - على أنهم أدنى، والمصريون ينظرون للمماليك على أنهم عبيد امتلكوا السلطة، والمسلم المصري والمسيحي المصري لا يتقبل كل منهما الآخر على أساس ديني، والمسيحي الفرنسي لا يتقبل المسيحي المصري لأنه من مذهب ديني مختلف، والعسكري لا يتقبل المدني ويعتبره غير جدير بحياة البطولة والمجد، والمدني يرى أن العسكري مجرد آلة للقتل، والفرنسيون أنفسهم يرفض كل منهم الآخر بناء على موقفه من الثورة الفرنسية، والرجل يرى المرأة مجرد متاع، والمرأة تنظر إلى الرجل كجلاد .. إلخ. تلك هي الخطيئة الكبرى التي لم تتطهر الإنسانية من أدرانها بعد، احتقار الآخر المختلف، إنها سبب رئيس لكل المعضلات والمآسي الكبرى، وهي المحرك العقلي والنفسي الذي يجعل الإنسانية لا تكاد تخطو خطوة إلى الأمام حتى ترتد عشرات إلى الخلف، والتي تجعلنا نستحي أن نشبه البشر بالحيوانات، فلم نعرف في الحيوانات احتقار مخلوق منهم لبني جنسه.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020