رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الكتابة من النجع

18-10-2020 | 11:15


تكتبين من القرية؟

أكثر الأسئلة التى توجهت من معارفي، أهل القرية يتعجبون من نشر صور النجع على صفحتي الفيسبوكية، أنه ليس مدعاة للفخر، ينصحونني بتغيير طريقة لبسي وأثاث منزلي، أنا لا أشبه تخيلاتهم عن الكاتب والكاتبة، لم أنج من سخريتهم عندما كنت أتحدث عن أحلامي قبل الوصول إلى الطريق إليها.

 على الجانب الآخر يتعجب بعض من يعتبرون مثقفين من وجودي في القرية وشهادة الدبلوم الصناعي الخاصة بي، قالها أحدهم ناصحاً :"أيام العقاد انتهت .. لابد من شهادة عليا ووضع اجتماعي معين للكاتب".

أشعر بالغرابة فى الجهتين، الإصرار على تنميط الأشخاص ووضعهم في قوالب جاهزة آفة العصر، حتى يستطيع الآخر تقييمهم، دائماً ما كنت أتعرض للوم ويتم وصفي بشخص حالم غير واقعي، القرى ليست جنة، قد تكون الطبيعة بها أجمل من المدينة لكن البشر هم البشر أينما وجدوا، لم نعد نقطف الفاكهة والخضروات من الأرض، هجرنا الزراعة تقريباً، الكثير من رجال قريتنا موظفون يترقبون العلاوات والزيادات المستحقة، يتابعون قرارات الوزراء بهذا الشأن وغيره، يعرفون تأثير السياسة على مصائرهم ويخافون من ارتفاع الدولار، لكن في ذات الوقت لا يثقون بقدرتهم على التغيير، يقولون "بتوع مصر هيتصرفوا" يقصدون سكان الوجه البحري.

عندما كنت طفلة كان يحكي لي أبي حكاية (زقلط) تشبه إلى حد كبير قصة (ماوكلى) و(طرزان) الطفل الذي يضيع في الغابة وتتولى الحيوانات تربيته، لم يكن أبي يشاهد الأفلام الكرتونية بالطبع، لا بد أنه سمعها في مكان ما أو قام بتأليفها كما يقول، صدمت عند أول مرة شاهدت فيها الفيلم من تشابهه مع حكاية أبي، وحدث ذلك مع حكاية أمي (سليسلة) تتشابه مع قصة (سندريلا) الشهيرة، لكن (سليسلة) استحقت الخير بما عملت، وساعدت المحتاجين، لم تفز بحذاء مسحور، عند مشاهدتي لفيلم سندريلا لم تكن صدمة مثل المرة الأولى، سألت أمي عن مصدر الحكاية، أخبرتني أنها كنت منتشرة في النجع قبل وصول الكهرباء والماء وعدم وجود وسائل ترفيهية، أدركت أن الحكايات واحدة تختلف فقط في طريقة الوصول إلينا.

في قريتنا لا توجد أماكن للترفيه، أنا أصغر أخواتي، في طفولتي كن آنسات لم يعد يستهويهن اللعب، ولا تسمح أمي بخروجي من المنزل خوفاً عليّ، دفعني ذلك لخلق شخصيات خيالية تشبه الشخصيات الكرتونية بها سمات بشرية، كنت أحدثهم بصوت عالٍ كأنهم موجودون فعلاً بل أنهم موجودون في خيالي الطفولي الجميل، انزعجت أختي من ثرثرتي التي لا تنتهى، قتلتهم ذات صباح، دارت حولي رافعة شبشبها البلاستيكي تضربهم، ثم أعلنت أنهم ماتوا، لا أعرف كيف اقتحمت خيالي على هذا النحو، بكيت كما لم أبكِ، وعجزت عن استحضارهم مرة أخرى، ربما هذا ما دفعنى إلى الكتابة حتى أحتفظ بأصدقائي ولا يستطيع أحد قتلهم أو التعرض إليهم بأي شكل، بالفعل بدأت في كتابة أول قصة بكلمات قليلة ورسومات، أظن أنني كنت في الصف الثالث الابتدائي.

أثرت حياتي في القرية على طريقة كتابتي عند قراءة قصصي أجد مفردات قريتي فيها، أتناول المشكلات الموجودة في مجتمعي التي أتعرض لها بشكل شخصي، أعرف أنها انتهت في مناطق أخرى ولم يعد أحد يلتفت إليها، منها على سبيل المثال استخدام فتاة التاكسي بمفردها، اقترحت صديقتي القاهرية هذا الحل لندرة المواصلات المؤدية إلى قريتي في المساء، هذا من الأشياء الممنوعة وغير المقترحة إطلاقاً، أن جلوس فتاة بجوار سائق عربة الكابوت مكروه، لا أحب العداءات المجانية أو التصادم، أختلف معهم فيما هو ضروري لي، أفرض وجهة نظري وأدافع عنها بل وأكثر من ذلك أصبحت أجد مؤيدين لي.

الظروف المادية لأهل قريتنا متساوية في شكلها الظاهري، بعض الاختلافات في المنازل لكن نتناول ذات الطعام ونشتري ملابسنا من نفس المحلات، في المناسبات مثل نهار الأفراح ترتدي الفتيات جلابيب الاستقبال الملونة والنساء المتزوجات عباءات سوداء اللون، والرجال جلابيب بيضاء غالباً، ربما لذلك تخلو قصصي من الصراعات الرأسمالية الموجودة في مجتمع آخر.

عندما كتبت مجموعتي (خلف الباب المغلق) في عام 2015 لم أكن أعرف تلك المسميات النسوية، أختلف مع تطرف الأفكار النسوية التي لو تمكنت من السيطرة على المجتمع ستفسده على نحو آخر مثلما يحدث الآن من القبضة الذكورية، ما يهم أنني كنت أكتب عما أعيشه، وما حرمت منه لأنني فتاة وفقط، يستفزني من يجعجع بأنني كاتبة نسوية ويجب أن أكتب عن الإنسان بشكل عام، وإن ذلك يعد ضعفاً وخلافه.

في الأدب لا مجال لما يجب أو لا يجب، نحن نكتب ما يلمس قلوبنا ونرغب في التعبير عنه، سنتوقف عن كتابته حين نتجاوزه وينتهي داخلنا، وهذا ما حدث أيضاً مع قريتي في البداية صدقت بأن النجاة والنجاح في البعد عنها والتنكر لها، كنت أظن أن من كتبوا عن القرى ماتوا وانتهوا - وذلك عائد لقصر النظر وقلة الخبرة والقراءة – حلمت طبعاً لسنوات بالرغم من صغر سني بالسفر والاستقرار في القاهرة، ثم نسيان حياتي السابقة في قريتي بمحافظة أسوان، تخيل ساذج وسخيف، كيف كنت سأجتث أصلي؟ كيف سأكون بلا ذاكرة؟ ما الذي سأكتبه بعد التخلي عن ذاتي؟ الذات مكونة مما حولها، كنت أعتقد أن بإمكاني استبدال الحياة التي لم أعشها بالكتابة، لكن اتضح لي أن الكتابة أسلوب حياة، مثلاً في عملي كمدخلة بيانات يعرضني للتعامل مع مختلف البشر، عند كتابة طلباتهم لا أراهم عملاء وحسب، أتخيل ملابسات الشكوى، الدوافع التي جعلت الأمر يتفاقم، أزج بمفرداتي فيما يكتبونه، اختزلت مرة أوراق العميل الثلاث في ورقة واحدة، سألني عن السبب، أجبته: أن التكثيف أفضل. سألني مستفهماً، هكذا تخرج روح الكاتبة في موقف عادي، وتظهر شخصيتي في الكتابة.

ذهبت لعمل توكيل من أجل توقيع عقد مجموعة (جئتك بالحب) لا تختلف هيئتي عن الفتيات الموجودات في الشهر العقاري، طالبات إنهاء أوراق الخاصة بتوكيلات المعاش أو أشياء من هذا القبيل، وقفت أمام الموظف طالبة توكيل من أجل ما أريد، تأملني باستنكار وأخذ يسألني عن محتوى الكتاب وأشياء لا دافع لها سوى فضوله، أنا أخالف صورة الكاتبة في مخيلته، أشبه أخته وزوجته والعابرات في طريقه، أنهى طلباتي وسط دهشته التي لم تختفِ.

يتعجب بعض من يحسبون مع زمرة الكتاب حين أخبرهم أنني لست مدخنة، ينصحني الآخر بخلع الحجاب حتى أصير مثل هذه وتلك ويرجعون نجاحهن في الوسط الأدبي لشعرهن الجميل وكم يعرين من جسدهن، يبالغون في قول أن تحرر العقل مرتبط بتحرر الجسد، تحداني أحدهم أن أذكر فتاة ناجحة محجبة، لست في موضع دفاع عن الحجاب، ربما يكون شعري سيئاً أو لا أمتلك مالاً من أجل الذهاب للكوافير أو أنني متدينة وهذا ما يجعلني أتمسك به، ما ضرر الآخر في ثيابي؟ لماذا لا يكون التقييم لما أكتب فقط؟ أنا هناك في موضع اللاانتماء إلى شيء واستغراب الآخرين لي أينما وجدت.

بالرغم من سخرية الكثيرين في قريتي من حبي للكتابة وضياع وقتي في القراءة، يرجعون ارتدائي للنظارة بسبب جنوني بما لا يفيد، لا يقتنعون أنني مصابة بقصر نظر وسأضطر لارتدائها حتى لو كنت أمية ولم أقرأ حرفاً، لكن رأيت الفرحة في أعينهم عند رؤية كتابي مطبوعاً، أخذ أبي نسخة من مجموعتي خلف الباب المغلق إلى المسجد في صلاة ظهر الجمعة، وطلب نسخة خاصة بإهداء مني لصديقه المقرب في النجع المجاور، وسط تعجبي ودهشتي، أبي كان أكثر الساخرين مني والغاضبين من أحلامي التي تبدو له لن تتحقق، نظم قصر ثقافة أسوان حفلاً لمناقشة المجموعتين أدهشني الحضور من أهل نجعي وأصدقائي الكتاب، حقاً امتلأت القاعة كما لم يحدث من قبل – هذا ما قيل من موظفين قصر الثقافة - نظرات الفخر والاعتزاز بي أشعرتني كأنني لم أعانِ أبداً من تجاهل أو وحدة أو حزن.