رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


يوم الخميس.. ورائحة أمي

18-10-2020 | 15:49


كنا ونحن صغار نعرف أن الخميس آخر أسبوع مدرسي مرهق ..

لذا كنا نقضي بقية اليوم  نلعب في استماتة

الكرة

الغماية

غراب خطف

حجر طقطق

ألعابنا لا يعرف  العالم عنها شيئا

ربما اشتركنا في لعبة الغماية والتي يطلق عليها في المدن "استغماية"

كان اسمها عندنا الزقزقان بالقاف الصعيدية التي تشبه الجيم  القاهرية

كان المتغمي يقول بصوت مرتفع

"الزقزقان الزقزقان كل واحد يروح له بكان" وبكان يعني مكان  وتنطق بألف مفخمة تقترب من الواو

لم نكن نعرف "خلاويس لسة بتاعة عيال المدن الفافي"

نحن الذين لم نكن نعرف النوم  على السرير إلا عند الزواج..

في العصر كانت رائحة التقلية

وفوح الخبيز

ودخان الفرن

يخرجون من أبواب البيوت معلنين الرضا والفرح

مشتبكين مع رائحة لا يمكن أن تشمها إلا في شال أمك

إنها رائحة الرحمة والسكينة

تخرج رائحة الخبز والطعام ودخان الأفران

تماما مثلنا ونحن نخرج من البيوت لنلعب في شوارعنا الترابية الفقيرة

كنت أخرج حين أخرج لا أعرف هل تركت قلبي مع أمي أم تركت قلبها بين ضلوعي وهي تجري بين إعداد الرقاق والمرق وبين كنس البيت بعرجونها القديم؟!

تلك المسكينة كانت في الثلاثين من العمر تجري مثل نحلة وتسابق عقرب الثانية في ساعة أبي الذي يوشك أن يعود.

كان الخميس موعد قدوم أخي محمود الطالب الجامعي وقتها من أسيوط يحمل لي مجلتى العربي والوعي الإسلامي.

كان محمود نظيفا لأنه يعيش في المدينة، وكنا ترابيين ،لا تكاد ملامحنا تظهر من تراب الشارع الذي يختلط بالعرق في جباهنا وملابسنا ، لكنه كان يلتقينا بحضن أكبر من شارعنا عندما نهرع إليه ونأخذ منه كيس الفاكهة التي اشتراها بما تبقى معه من مصروفه الذي كان يأخذه كل خمسة عشر يوما.

لقد اقترب المغرب

يدخل محمود أخي البيت ونحن متعلقون بيديه أنا وأخواي محمد والسيد.

كانت أمي حين ترانا تصبح قمرا ،التعب الذي يتراكم على ثيابها وجسدها النحيل يتساقط مع ابتسامتها.

"سيبوا اخوكم يرتاح"

نشعر بالغيرة من محمود

لكنها كانت وكان أبي هذا العملاق الضاحك دائما والمهيب أبدا  يربيان محمود ليتحمل أحزاننا من بعد.

حين اجتمعنا على العشاء

وما زالت طبليتنا الدافئة تستدير وتتسع لتجمعنا حولها بأحجامنا المختلفة

أبي الكبير جدا

وأمي الفارسة المقاتلة الهزيلة الجسد والباكية أحيانا كثيرة

ومحمود الأب الثاني

ومحمد ذاك الساكت ليدبر مصيبة

وأنا الذي أجلس بالجسم بينهم وعقلي لا أعرفه أين

وخاطرتي تجري في الصحراء وراء قمر لا أتبين ملامحه

لعله الشعر!

والسيد مشغول بمتى نأتي بالتليفزيون الذي نسمع عنه وقد جاء به عمي عمر أحمد إبراهيم فأصبح  بيتهم مثل السينما.

العشاء انتهى لا موضوع بعينه نتحدث فيه

لكن كنا مبتسمين وشجعان وخوافين من أبي مع طيبته

طبليتنا ظلت تبكينا حين أخذنا نتناقص واحدا واحدا من حولها:

أبي وأمي ذهبا لسماء الله ...

مات أبي أولا ثم لحقت به  أمي التي كانت معجبة به وتحبه في صمت  وتدعو له بالغيب.

لذلك ظل الأسود لونها المفضل حتى لحقت به بعد أقل من عامين ..

ونحن تفرقنا أصبح كل واحد منا أبا .

لكن

ظلت أمي وردة هذا البيت وقلبي

كانت وهي تجهز أثوابي الفقيرة تقول لي عقبال ما نفرح بتوب عرسك

مسكينة

لم تشهد عرسي

ولم تر أولادي

ولم تبك فرحا يوم نجاحي ككل الأمهات

لكن ظلت رائحتها تزورني كل خميس حاملة لي رائحة التقلية ..

والخبيز ...