"أنا وأبوي وعهد الحُر".. و"جناين تطرح عنب وغيرها يطرح شوك"
لم يكن "يفك الخط" لكنه كان
فيلسوفا بالفطرة ، ولم يكن من الأعيان ، لكنه كان في عين الجميع ، علمني الدرس
الأهم ، رسم لي خطًا لا أمتلك الحياد عنه إلى يوم الدين ، لأن عهد الحر دين في
الأعناق .
كان اللقاء هناك في الصعيد ، حين
خبروه برغبتي احتراف الصحافة ، ناداني بصوته الجهوري ، فكنت عند قدميه قبل أن يغلق فمه ، سألني في حزم "أنت يا
ولد .. عاوز تبقى صحفي؟" .. أجبت في صوت منخفض "أيوه يا أبوي .. بعد
إذنك"... صمت قليلا ، تفحصني ، كأني أخفي شيئا .
قطع الصمت بسؤال لم يخطر ببالي ، قال
"أنت راجل يا واد؟".
رددت في ثقة "إبن ضهرك يا أبوي".
أجلسني إلى جواره ، وبدأ يتلو عليّ
العهد : "اسمع يا ولدي ، الغربة مرة مرار العلقم ، والراجل شرفه رقيق ، لو
ضاع مش ممكن يرجع تاني ، الراجل يقول الحق ولو السيف على رقبته ، الراجل لا يكدب
ولا يخون ولا يدخل بيته حرام..تعاهدني تفضل راجل ؟"
عاهدته وعاش وشاف وفائي بعهده ، ولما
كان ثمن الوفاء يوجع ، يكلمني ويخيرني بين الاحتفاظ برجولتي أو أني " أعاود
البلد " ... ولما "إبراهيم سعدة" طردني من أخبار اليوم مجاملة
لصديقه ، كان الوجع أمرّ من الحنظل ، خفيت الخبر عنه ، وعشت أيام أسود من جناح
الغراب ، أنام طول النهار ، وأصحى كل الليل .
وبدأت أتوه في دروب الليل ، كان بيني
وبين الضياع خطوة ، ويشاء – السميع العليم – إنه يعرف اللي جرى ... كان في صلاة العصر عندما
سأله ابن خاله "هو صح ولدك عمر زعطوه من الجرنان؟."
رجع البيت وكلف أقرب إخوتي لي – حمزة
الله يرحمه - ينزل مصر ويشوف إيه اللي جرى
لي ... ومعاه رسالة إن بيت أبوك مفتوح ، وأرضنا طيبة ، عايشين مستورين من خيرها ،
والراجل لازم يكون شديد ، عيب يقع من أول قلم.
قابلت حمزة – الله يرحمه – وبكيت على
صدره كأني لم أبك طول حياتي ، شعرت بعدها إن كل الهموم راحت في ستين داهية ،
وعشاني على حسابه ، وجدد معي عهد الوالد ورجع البلد تاني .
وبدأت أعاود الحياة على طبيعتها ،
وفضلت أعافر مع حاجات غريبة ، ناس زي الحجارة ، لا بتسمع ولا بتحس أو تشوف، وناس
تانية شبه العجين العادم ، لا له طعم ولا ريحة ، وناس غيرهم كل لحظه بشكل ودين غير
التاني .
وعشت أنا لليوم ، ومات أبوي – عليه
رحمات الله ورضوانه – وفضلت ماسك في العهد بإيدي وأسناني ، صحيح دفعت وبدفع كل يوم
، وعندي استعداد للدفع طول العمر ، لأن كل يوم أنام من غير أي قلق أو أرق ، ولا
عمري صحيت مفزوع من الكوابيس .
ولأن الخطوات الأولى من أي مشوار ،
بتفضل محفورة في الذهن طول العمر ، فقد
كنت ولهان بـ" مصر" مثل كل صعيدي لم ير القاهرة من قبل ، كنت وقتها في
مدارس بلادنا قبلي ، تربطني بقريبي القاهري صداقة شديدة ، لما ينزل عندنا البلد ، أقعد
معاه ساعات وساعات يحكي عن أصحابه ، وعن "جنينة القبة" وكام هي واسعة
وفسيحة ، مفتوحة لكل الناس ، تلعب وتتفسح وتفرش ملايات تحت الشجر ، وتقضي يومها من
غير ما يضياقها جنانيني ولا حارس.
وكلما فكرت في الموضوع ، قارنت بين
جنينة القبة ، تلك الجنينة الكبيرة المواجهة لقصر جمهوري ، سايبينها سداح مداح لكل
الخلق ، وجنينتنا في البلد ، أقل من فدان ، ولها سور عالٍ وباب له مفتاح ، مافيش
دكر يقدر يهوب نايحيتها من غير إذن ، وثمارها من العنب والجوافة والخوخ ، نعطي
منها القرايب والجيران حسب كيفنا.
ومع إجازة السنة الثالثة من المرحلة
الإعدادية ، قررت أنزل مصر – خلاص كبرت وبقيت راجل – وأرسلت جواب لابن عمي "سيد
حمزة" ... خبرته إني نازل القاهرة مع أول الأسبوع ولازم أشوف جنينة القبة .
ركبت قطار الدرجة التانية العادية ،
رفوف القطار محشورة كراتين وأقفاص بط وفراخ وحمام ، وناس نايمة وسطيها ، كل
الروايح تطاردك ، كأنك محشور بين مخزن البيت و"كنيفه" ، الشيء الوحيد
الذي ينقذك من الإغماء ، شبابيك القطار منزوعة الزجاج والشيش ، منك للحقول والترعة
على طول.
وطول الطريق ، خناقات وعراك ، وبياع
شاي وترمس وحاجة ساقعة ، ولو أمك داعيه عليك في ليلة القدر ، ادخل في عاركة مع
بياع ، كلاب السكك تنهشك وفي الآخر لازم تدفع المطلوب ، ويزيد المرار الطافح ، إن القطر ماشي على مزاجه ،
ممكن يقف على محطات ، وأوقات كتيرة يقف في الطل .
وصلنا باب الحديد ولقيت القاهري
"سيد حمزة" مستني على الرصيف ، وبعد الأحضان والتحيات والذي منه ، ركبنا
علشان نروح البيت في حدائق القبة ، حاجات غريبة ، قطارات صغيرة اسمها "
تورماي" وبنات وحريم لابسة على كل شكل ولون .
ومجرد أن وصلنا البيت ، سألت سيد
"هي جنينة القبة لسة فاتحة ولا قفلت ؟" .. ضحك بسخرية وقال لي إنها
مفتوحة طول الوقت ، نزلنا من البيت ، هو يقول لي "دي سينما هنولولو، ودا قصر
النقراشي باشا"... وأنا أقول له "ياعم فين الجنينة؟"
ووصلنا مكان كله نخل زينة وشجر ضل والأرض نجيل ،
وقال بفخر "دي جنينة القبة"... ضربت عيني شمال ورجعت بيها يمين ، أدور
على العنب أو الجوافة أو الرمان ، ولا حاجة من الفاكهة موجودة ... سألته "هي
جناينكم بالشكل ده؟" ولما قال آه ، ضحكت لدرجة إني وقعت من طولي ، وقلت له
"يا راجل شوية نجيل ونخل أرنجي ، تقول عليهم جناين ، يا أبوي جناينا بتطرح
عنب وبلح وتين ، لكن جناينكم فاضية بالظبط زي "الأرض البور" إذا طرحت ،
تطرح نجيل وشوك.