"القاهرة - موسكو".. كتاب مهم .. وكاتب خبير
يكتسب أى
كتاب أهميته من
الموضوع الذى يتناوله.. ومن اسم
الكاتب ومدى إلمامه
وخبراته بموضوع الكتاب.. وأخيراً من
توقيت نشر الكتاب.. وتلك المعايير
الثلاثة تجعل من
كتاب "القاهرة - موسكو وثائق
وأسرار "1952 - 1986" واحداً
من الكتب شديدة
الأهمية.. فالعلاقات المصرية السوفييتية
مرت بتقلبات "دراماتيكية"..
فمن
الود والتعاون إلى
النفور والعداء.. ثم عودة
فاترة وأخيراً محاولات
جادة لتحقيق مصالح
الطرفين.. أما الكاتب الصديق
د. سامى عمارة
فواحد من أهم
الخبراء فى مجال
العلاقات العربية السوفييتية
بشكل عام.. والعلاقات المصرية
السوفييتية "الروسية... " بشكل خاص.. وبعد رحيل
صاحب الريادة عبد
المالك خليل.. أصبح سامى
عمارة هو الخبير
الأهم فى هذا
المجال.. أما عن توقيت
نشر الكتاب فيحمل
أهمية خاصة أعتقد
أنها لم تغب
عن سامى عمارة
ودار النشر.. فالعلاقات المصرية
الروسية تعانى من
بعض الفتور منذ
سقوط طائرة السياح
الروس قبل ما
يقرب من الأربع
سنوات.. ويأتى هذا الكتاب
"نوبة صحيان" للمسؤلين
فى الدولتين.. يذكرهما بأن
التقارب الذى كان
بينهما فى حقبة
الخمسينيات والستينيات من
القرن الماضى هو
النموذج الذى يضمن
مصالح الدولتين.. ويحوى الكتاب
مجموعة من الوثائق
الكاشفة وشديدة الأهمية.. والتى من
الصعب استعراضها فى "مجرد مقال" ..ولذلك سنكتفى بمحاولة
قراءة هذه الوثائق
وأهم دلالاته
أولاً: قبل
أن نبدأ قراءة وثائق كتاب القاهرة-
موسكو.. نتوقف
قليلاً مع الصديق
سامى عمارة ابن
المنوفية الذى دخل
قسم اللغة الروسية
بمدرسة الألسن عام
1960 مصادفة - تلك المدرسة
التى أنشأها رائد
التنوير رفاعة رافع
الطهطاوى أيام محمد
على.. ثم توقفت إلى
أن أعادها الزعيم
جمال عبد الناصر
فى عام 1957- وكانت اللغة
الروسية الرغبة الثالثة
بعد الفرنسية والإنجليزية.. وبعد التخرج
كان مشروع السد
العالى قد أصبح
حقيقة واقعة.. فتم تكليف
سامى عمارة بالعمل مع
واحد من قيادات
بناء السد.. وبعد فترة
قليلة انتقل للعمل
فى مكتب السد
العالى فى موسكو.. والذى كان
يقوده عبد العظيم
أبو العطا وزير
الرى بعد ذلك.. وعندما
جاء الخبراء الروس
إلى مصر بعد
أحداث يونيه 1967.. عمل سامى
عمارة مترجما لهم.. وبعد
انتصار 1973 عاد إلى
موسكو.. وحصل على الدكتوراه.. وبدأت علاقته
بالصحافة من خلال
جريدة الأهالى والكاتب
الراحل محمد سيد
أحمد.. ثم انتقل إلى
صباح الخير مع
الكاتب الراحل لويس
جريس.. ثم تعاقد معه
الأستاذ مكرم محمد
أحمد ليكون مراسلاً
لمجلة المصور فى
موسكو.. ومن خلال دار
الهلال انتشر سامى
عمارة ليعمل فى
الإذاعة والتليفزيون فى
مصر.. وإذاعة مونت كارلو
وعدد من الصحف
العربية .. وخلال كل
هذه السنوات استطاع
سامى عمارة تكوين
شبكة عملاقة من
العلاقات مع كل
رموز المجتمع السوفييتى
"الروسى"..وارتبط بعلاقة صداقة
مع بعض الجالسين
على قمة الهرم
هناك مثل" جورباتشوف-
بريماكوف - إلخ".
ثانياً: يقوم
كتاب القاهرة.. موسكو على
فرضية مهمة وحقيقية.. وهى أن
العلاقات بين الدولتين
انطلقت من "الاضطرار وليس الاختيار".. فرغم بداية
العلاقات الدبلوماسية بين
الطرفين فى عام
1943..
إلا
أن تلك العلاقات
لم تفعل إلا
بعد عامين من
ثورة يوليو 1952.. وكان زعيم
الثورة جمال عبد
الناصر من أكثر
المتحفظين على الاتحاد
السوفييتى خاصة وأن
وزير خارجيتهم اليهودى "فياتشيسلاف مولوتوف" كان من
أكبر الداعمين لقيام
دولة الكيان الصهيونى.. كما أن
موسكو كانت أول
عاصمة فى العالم
تعترف بدولة الكيان
الصهيونى عام 1948 وقدمت لها
الكثير من الدعم
والسلاح كما كان
الزعيم السوفييتى الكبير
"ستالين" يرى فى
ثورة يوليو مجرد انقلاب
"توفى ستالين عام "1953إضافة إلى تحفظ
عبدالناصر على الشيوعية كمنظومة فكرية وسياسية.. وعندما تبادلت
الدولتان السفراء بعد
ثورة يوليو لم
يحسنا الاختيار.. حيث اختارت
موسكو "دانييل سولود" والذى
لم يكن متحمساً
للتعاون مع مصر.. واختارت القاهرة
الفريق عزيز المصرى
المعجب بالزعيم النازى
هتلر.
ثالثاً: مع
بداية عام 1954 وتحديدا فى
فبراير أرادت مصر
أن تكسر "احتكار السلاح".. ورفض الغرب
مدها بالسلاح.. فطلبت من
السوفييت السلاح ولكنهم
تهربوا.. مما أغضب مصر
ولكن فى 29 مارس 1954 استخدمت موسكو
حق الفيتو ضد
قرار فى مجلس
الأمن يعمل على
إجبار مصر على
مرور كل السفن
فى القناة.. بما يعنى
مرور سفن الكيان
الصهيونى.. وهذا الموقف شجع
عبد الناصر على
معاودة طلب السلاح
من السوفييت عبر
سفيرهم فى 15 يونيه 1954 ..
ولم
تتم الاستجابة أيضاً.
رابعاً : كان ديمترى
شيبيلوف رئيس تحرير
صحيفة البرافدا ووزير
الخارجية السوفييتى بعد
ذلك سبباً رئيسياً
فى تفعيل وتطوير
العلاقات المصرية السوفييتية.. وذلك عندما
جاء إلى مصر
لحضور احتفالات العيد
الثالث لثورة يوليو
"1955".. واستمع إلى
خطاب عبد الناصر.. ليكتشف أنه
أمام زعيم حقيقى
ومؤثر.. وقد ساعدت رؤية
شيبيلوف فى إتمام
صفقة السلاح السوفييتية
"التشيكية" إلى مصر
عام 1955.. وعندما تولى
وزارة الخارجية السوفييتية
فى يونيه 1956 عمل بكل
القوة على تطوير
العلاقات مع مصر.
خامساً: يضيف
الأستاذ هيكل بعداً
آخر إلى كيفية
إتمام صفقة السلاح.. حيث
يؤكد على وجود
دور مهم لرئيس
الوزراء الصينى شوان
لاى.. الذى كسر البروتوكولات
الدبلوماسية وذهب مع
رئيس بورما لاستقبال
رئيس وزراء مصر
جمال عبد الناصر
فى المطار.. وهو فى
طريقه إلى باندونج
لحضور اجتماع عدم
الانحياز.. وانبهر شوان لاى
بالزعيم المصرى وعرض
التدخل لدى السوفييت
عن طريق الزعيم
الصينى "ماوتس تونج" لإتمام
صفقة السلاح.. المهم أن
هذه الصفقة كانت
من خلال الصفقات
المتكافئة.. حيث أخذ السوفييت
فى مقابلها "أرز..
قطن.. جلود.. إلخ".. وظلت
هذه النوعية من
الصفقات دائمة فى
كل التعاملات المصرية
السوفييتية.
سادساً: لم يتحمس
السوفييت لمشروع السد
العالى عندما عرضه
عليهم عبد الناصر
فى 1954 ..
وذلك
لارتفاع تكلفته 180" مليون جنيه مصرى والجنيه كان يساوى ثلاثة
دولارات".. وتم
عرض المشروع على إنجلترا وفرنسا والبنك الدولى ولم يتم الاتفاق .. ليتم عرض
المشروع على أمريكا وإنجلترا والبنك الدولى.. وتم الاتفاق على أن تدفع أمريكا وإنجلترا
70 مليون دولارا .. ويقدم البنك الدولى 200 مليون دولار .. وتساهم مصر بـ300مليون
دولار ورغم اقتناعهم بجدوى وأهمية المشروع إلا أنهم وصفوا شروطا تمس الإرادة
الوطنية فى إدارة الاقتصاد.. مما دفع عبدالناصر إلى رفض هذه الشروط .. فقاموا بسحب
عرض تمويل السد فى 20يوليو 1956 فقام عبدالناصر بالرد عليهم بقوة وقسوة وذلك من
خلال تأميم قناة السويس فى 26يوليو 1956.. وتسارعت بعدها الأحداث فى مجلس الأمن
والامم المتحدة ومؤتمر لندن وكانت موسكو من أكبر الداعمين للموقف المصرى فى كل هذه
المحافل.. إلى أن حدث العدوان الثلاثى على مصر والذى شاركت فيه إنجلترا وفرنسا والكيان
الصهيونى .. ووقفت مصر تقاوم وحدها إلى أن صدر الإنذار الروسى عن طريق رئيس
وزراتهم "بولجانيين" بعد تسعة أيام من بداية العدوان وصدر بعده الإنذار
الأمريكى.. ليتوقف العدوان ويفشل ولتنتصر مصر وتنجح فى الحفاظ على قناة السويس.. وليقتنع
بعدها السوفييت بمساعدة مصر فى إنشاء السد العالى.. الذى تحول إلى صرح عملاق لكيف
تكون العلاقات بين الدول
سابعا: توترت العلاقات بين مصر
والاتحاد السوفييتى بعد الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير 1958 .. فرغم قيام
عبدالناصر بأول زيارة له إلى موسكو فى أبريل 1958.. والتوافق الكبير مع الزعماء السوفييت
خلال هذه الزيارة إلا أن الأحزاب الشيوعية العربية .. وخاصة فى مصر وسوريا والعراق
كانت ضد مشروع الوحدة.. وساعد على تأجيج ذلك موقف عبدالكريم قاسم رئيس حكومة
العراق.. وقد انحازت موسكو إلى رؤية الأحزاب الشيوعية .. مما أدى إلى "تلاسن
سياسى" بين عبدالناصر وخرتشوف.. فعبدالناصر لا يقبل إلا "الندية"
فى التعامل مع القوى العظمى.. وخرتشوف يريد ألا يخزل الأحزاب الشيوعية التى تدين
له بالولاء ورغم هذا التلاسن السياسى بين الزعيمين .. إلا أن كل دارس ومتعاطى
السياسة يجب أن يقرأ المراسلات بين الزعيمين خلال هذه الفترة "رسالتان من
خرتشوف ورسالة من عبدالناصر".. ليعرف كيف كانت مصر عظيمة وقوية وصاحبة كلمة
قوية ومؤثرة.. المهم استطاعت الجهود من الطرفيين أن تعيد المياه إلى مجاريها بين
الدولتين الصديقتين.
ثامناً: من أهم أجزاء كتاب القاهرة -
موسكو ذلك الجزء الذى يتحدث عن الوثائق المتعلقة بفترة العدوان الصهيونى على العرب
فى الخامس من يونيه 1967 .. فالكثيرون وأنا منهم يتهمون السوفييت بالتواطؤ أو على
الأقل بالتخاذل خلال هذه الأزمة.. فهم الذين أكدوا وجود الحشود الصهيونية على
الحدود السورية.. وهم الذين ألحوا على مصر ألا تكون البادئة بالضربة الأولى.. وهم
الذين لم يقدموا إنذارا أثناء العدوان.. على شاكلة ما فعلوه أثناء العدوان الثلاثى
عام 1956.. وهم الذين قدموا إلى مصر فى نوفمبر 1967 مبادرة بعودة سيناء منزوعة
السلاح "على شاكلة ما حدث فى كامب ديفيد بعد ذلك".. والغريب أن
الأمريكان فى نوفمبر 1968 ومارس 1969 قدموا مبادرتين أفضل من مبادرة الروس .. ورفض
عبدالناصر كل هذه المبادرات حيث أعلن أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
وقد بذل الدكتور سامى عمارة جهداً
كبيراً فى البحث خلال وثائق هذه الفترة ولكن كل هذه الوثائق رغم أهميتها لم تقدم
إجابات عن الأسئلة الصعبة بمدى تورط أو تواطؤ أو تخاذل السوفييت فى العدوان
الصهيونى على مصر، كما لم تقدم تلك الوثائق دليلا قاطعا على براءة السوفييت.
تاسعاً: بدأت مصر حرب الاستنزاف ضد
العدو الصهيونى.. بعد أقل من عشرين يوماً من وقف القتال.. وتحديداً بمعركة رأس العش
يوم 30 يونيه 1967 .. وخلال هذه الحرب الطويلة التى استمرت لأكثر من ثلاث سنوات
كان السوفييت عند حسن الظن- من خلال تقديم السلاح لمصر.. ووجود الخبراء للمساعدة
فى تدريب الجيش المصرى.. وحتى عندما ذهب إليهم عبدالناصر فى زيارة سرية يناير 1970..
وهددهم إما أن يعطوه حائط الصواريخ.. وإما أن يترك الحكم لمن يستطيع التفاهم مع
الأمريكان.. وافقوا على مد مصر بالصواريخ المضادة للطائرات.. وتم الانتهاء من بناء
حائط الصواريخ فى 30يونيه 1970 ليتم بعدها قطع الزراع الطولى للصهاينة وهى
الطيران.
عاشراً: رحل الزعيم جمال عبدالناصر
فى الثامن والعشرين من ستبمبر 1970 وجاء بعده أنور السادات .. والذى قرر منذ اليوم
الأول أن يسير عكس اتجاه عبدالناصر .. حيث راهن على الأمريكان .. وأعلن بعد ذلك أن
99% من أوراق القضية فى يد أمريكا .. وفاجأ السادات العالم كله وليس السوفييت فقط
بقرار طرد الخبراء الروس فى عام 1972 .. وأمهلهم 48ساعة فقط لمغادرة مصر..طردهم من
دون أن يحصل على أى مقابل من الأمريكان بل إن رجل المخابرات السعودي كمال أدهم
عندما طالبهم بذلك قالوا لماذا نعطيه وقد طردهم بالفعل، ورغم هذا القرار وقف السوفييت
إلى جوار مصر فى حرب 1973 .. وبعد الانتصار زاد نفور وابتعاد السادات عن السوفييت ..
ووضع كل الأوراق على مائدة الأمريكان.. بل قطع العلاقات مع السوفييت .. وذهب
ليحارب الشيوعية فى أثيوبيا.
وقد تركت كل هذه الأفعال مرارات
قاسية لدى السوفييت .. مما ولد لديهم ما يشبه "عقدة سنمار" ورغم امتنان السوفييت
للرئيس حسنى مبارك لإعادته العلاقات الدبلوماسية معهم فى عام 1984 .. إلا أن ما
فعله السادات ظل موجوداً حتى الآن فى خلفية صانع القرار الروسي .. فالعلاقات
الروسية الآن مع كل دول العالم الثالث تقوم على المصلحة أولاً وأخيراً..
وفى النهاية هذه مجرد قراءة سريعة فى
الوثائق المهمة التى قدمها د.سامى عمارة فى كتابة المهم القاهرة - موسكو وثائق
وأسرار "1952-1986".. وهذه القراءة لا تغنى أبداً عن قراءة الكتاب لأنه
بالفعل يستحق القراءة أكثر من مرة.