أحمد مجدي همام يكتب:«أنا أَرْوَى يا مريم»..
بقلم أحمد مجدي همام
"المِثْلِيَّة".. هي النتيجة الحتمية التي وصلت إليها بطلتا رواية "أنا أروى يا مريم"، للكاتبة الشابة أريج جمال، الصادرة عن دار الساقي في بيروت في 2019. والمثليّة هنا لا يجري تقديمها بوصفها فعلًا جنسيًّا مرفوضًا مجتمعيًّا، أو حتى مرفوض من قِبَل بعض الأديان السماوية، بل تتجلَّى "المثليّة" في "أنا أروى يا مريم" كنوع من الخلاص الأنثوي، من عالم ذكوري تتناثر فيه مجتمعات قمعية، تضم في أحشائها أفرادًا ذكوريين – رجالًا ونساءً – وبالتالي فإن أي أنثى تقع في تلك المجتمعات - ذات اللحى الكثيفة والصوت الخشن والسواعد الرجالية القوية - لا بُدَّ أن تعيش مظلومة ومضغوطة، بين ظلم الزوج، وظلم الأب، وظلم الأخ، وظلم الوعي الذكوري العام. ولكل ظالم من هؤلاء قصة نسجتها أريج جمال بَنَفَسٍ رهيفٍ في خيوط الرواية.
تبدأ الرواية بصوت مريم، بجملة افتتاحية مميزة، استطاعت بعدد يسير من الكلمات أن تضع القارئ في الأجواء القابضة – والمقموعة – التي تعانيها بطلات الرواية: "كانت أيامًا عادية، أتلقى فيها الخيبات كهدايا عيد الميلاد، خيبات في العمل، والصداقة، والحب، وصعود السلم، وهبوط السلم، وعبور الشوارع المكتظة، والسير في الشوارع الخالية. كان خيالي بليدًا لا يعرف التدوين بعد. أَزُمُّ شفتيَّ، وأثبت عينيَّ في السقف، فيأتي النوم. أنام ست عشرة ساعة دون حُلم واحد، دون أن أبدل وضعي، أستقبل العالم وأودعه على ظهري". منذ السطور الأولى، وبطريقة "الجواب يبان من عنوانه"، تَشِي هذه الأجواء بأننا أمام رواية تكاد تكون "بكائية"، ترثي أحوال المرأة في المجتمعات الشرقية القامعة للأنثى.
"الجندر" لم يكن السؤال الرئيس في "أنا أروى يا مريم"، ليس الهاجس المحرك للكاتبة، وليس الهاجس المحرك لأيٍّ من شخصيات الراوية الرئيسية (مريم – أروى)، ولا هاجسًا للشخصيات النسائية الجانبية (صِدّيقة أم مريم – أم كلثوم جدة مريم لأبيها – سارة أم أروى)، وإنما ظهرت المثليّة النسائية هنا كمهرب مُتاح من القمع الذكوري، وهذا ما اختارته مريم مثلًا بعدما عاينت قسوة والدها مع أمها، وشغفه الدائم بإنجاب الصبي – كأي صعيدي يفضل البنين على البنات – الصبي الذي لن يحصل عليه أبدًا. وهي نوع من صرخة الاعتراض النسائية أمام كل الانحيازات الذكورية، انحياز والد "صِدّيقة" لابنه الذكر الوحيد "عليّ" – رغم اعتلال ساقيه وكونه الأصغر – على حساب صِدّيقة وشقيقاتها الثلاث، وتمزيق "عليّ" لألعابهن ودُمَاهُنّ، وقمعه لهن، بل وحتى حصوله على قسط أكبر من الطعام الذي - إن فاض - ألقاه للعصافير بدلًا من إطعام شقيقاته. وكذلك انحياز أم كلثوم لابنها – والد مريم - وضغطها عليه لكي يتزوج بأخرى غير صِدّيقة لتنجب له الولد الذي يتمناه وتتمناه كل أسرته. وهنا ترسم أريج مفارقة ذكية، حيث كانت أم كلثوم نفسها ضحية لوالدها، الذي شُغف بها، وراح يتمثلها كأم كلثوم المطربة الشهيرة، نوع من الاحتلال الأبدي الذي لا يزول إلَّا بالموت. كما كانت هي نفسها ُمهددةً بالطلاق دومًا من زوجها إن أنجبت أنثى، لا سيما وأن هذا الزوج قد طلق زوجته الأولى لأنها تنجب الإناث، وتزوج بأم كلثوم لتأتي له بالذكور!.
يبدو لي أن السؤال الرئيس المطروح في "أنا أروى يا مريم" هو سؤال الحرية، سؤال التحرر من القمع، كما تحررت مريم من عُقَدِها عبر الالتحام الكُلِّي مع أروى – معنويًّا وجسديًّا - في مسار ينكره الجميع، ينكره المجتمع، لكنه كان المُتنفس المُتاح لهما. مثلما تحررت أروى بالهجرة من ظلم القاهرة والبلد كلها، إلى الحرية والأفق المفتوح في ألمانيا، ومثلما حاول المصريون التحرُّر في أثناء ثورة 25 يناير 2011، والتي شكّلت الخلفية الزمنية لأحداث الرواية. هذا بخلاف الفلاش باك - أو الاستعادات - التي تناثرت هنا وهناك، بين فصول ترويها مريم بلغة شعرية للغاية ومليئة بالشجن، إلى فصول أخرى ترويها أروى بلغة تميل إلى العامية وتشبه تكوينها الثقافي، إذْ غادرت بيئتها المصرية والعربية في سن المراهقة.
هكذا اقترنت المثليّة الـ "صافوية" بالحرية في "أنا أروى يا مريم"، لا كفعل يعكس ممارسة جنسية شبقية غريزية طبيعية، بل كفعل هو في جوهره نوع من الاعتراض والثورة المكتومة، ثورة سريرية ضد عالم ذكوري يقمع كل أنثى، وأي أنثى. ولذلك كان طبيعيًّا أن تَرِدَ الثورة المصرية كخلفية للمشهد الكامل، فهي أيضًا كانت صرخة للتحرُّر ضد القمع والظلم، واقترنت بـالموسيقى باعتبارها ساحة تستطيع أن تجمع فئةً ما، وتعبر عنها، وتُوَحِّدَ أفرادها روحيًّا ومزاجيًّا، بل أيضًا على المستوى الجسدي. ففرق الكرة لها موسيقاها، وللجيوش موسيقاها، وللثورات موسيقاها، وكذلك للمقموعتين "مريم" و "أروى" موسيقاهما التي تسيل من "الأوبوا" التي تعزفها أروى ببراعة، وتستطيع بها أن تحتل قلب وعقل وأذن وجسد مريم.
حفرت أريج جمال عميقًا بين ضلوع شخصياتها، حتى ليظن الواحد أنهن منقولات نقلًا من الواقع، إذ تبدو آلامهن منطقية، ونابعة من مواقف نراها بسهولة في واقعنا، مواقف تضع المرأة دومًا في منزلة دون الرجل: مأمورة ومحكومة ومُطالبة على الدوام بأن تكون قُربانًا يقدمه الرجال إلى أي شيء أو شخص يُجِلُّونه. فصِدّيقة كانت قربان محمد علي والد مريم، إلى والده، جد مريم، ليثبت محمد علي لأبيه أنه رجل صعيدي لا ينجب إلَّا الرجال، أو كما كانت أم كلثوم الجدة قُربانًا قَدَّمه والدها إلى حُلمه وشغفه بأم كلثوم المطربة، وأم كلثوم نفسها، التي كانت ضحية، تتحوَّل لاحقًا إلى جلَّاد عندما تطالب ابنها - والد مريم - بتطليق زوجته، أو على الأقل الزواج من أخرى تنجب له الولد، وهو نفسه الضغط الذي تعرضت له من زوجها الذي طلق زوجته الأولى لأنها تنجب البنات، وتزوج بأم كلثوم التي أنجبت له الذكور. والأمر نفسه يَسْرِي على سارة والدة أروى التي قُدِّمَتْ قُربانًا إلى صلاح العدل، الرجل المتنفذ في الدولة، والذي نسب أروى بنت سارة إلى نفسه، رغم علمه أنها بنت سارة من "ميشيل النجار" المسيحي الفقير، والذي أُلقي به من الطابق الرابع.
حتى السؤال الديني في "أنا أروى يا مريم" لم يكن محورًا رئيسًا في الرواية، مع العلم بأنه صالح تمامًا لبناء حكاية جيدة وسبكها في رواية. لكن هذا البُعد الديني جاء ليكمل صورة "القمع الذكوري" الذي يغتصب الحب، ينحره ببرود ويستولي على المرأة – كقربان – دون أن يرف له جفن.
بشكل إجمالي، وبعيدًا عن مسارات الدراما المُتشعبة، وحكايات السيدات الخمس: مريم / أروى / صِدّيقة / أم كلثوم / سارة، فقد نجحت أريج جمال في تقديم رواية، تصلح كمانيفستو أدبي، يواكب (الموجة النسوية الرابعة) التي بدأت، حسب ويكيبيديا وغيرها من المراجع، في العام 2012. نص يُبرز القمع الذكوري ضد المرأة، ومحاولات الأنثى للتَّمَلُّص من ذلك الوضع، وخلق بيئة صحية للمرأة، قوامها عناصر ثلاثة: الحب، والحرية، والأمان.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020