وليد مكي.. والبحث في الهوية
في جولة صباحية بمعرض الكتاب فبراير 2018، وقعت عيني على كتاب برتقالي الغلاف يظهر فيه رجل ملثم بزي عربي يقبض بيمينه على لجامي فرسين عربيين، ويحمل عنوان "دروب أصفون"، قلبت صفحاته سريعاً فتبين لي أنه رواية تاريخية تدور أحداثها في صعيد مصر في العصور الوسطى، يبدو موضوعاً شائقاً يدخل في إطار اهتماماتي كقارئ، عاودت النظر للغلاف لأرى اسم المؤلف.. "وليد مكي"، الاسم يبدو مألوفاً لي، تذكرت أنه أحد الأصدقاء الافتراضيين على موقع فيسبوك، وإن لم يسبق أن تحادثنا أبداً، اشتريت الكتاب مع النية لقراءته في القريب، كعشرات الكتب الأخرى التي لا تكفي النوايا الطيبة لقراءتها، كما يعلم الجميع.
نحب في الكتابة الدرامية شخصيات بعينها، وواحدة من تلك الشخصيات هي وكيل النيابة، يُقدم في السينما والمسلسلات التليفزيونية في صورة الباحث عن الحقيقة، وفي رحلة البحث عنها لا يهيم في صحراء الأفكار والمشاعر، وإنما يجمع الحقائق قطعةً قطعة حتى تكتمل أمامه، وللمشاهدين معه، الصورة الكاملة، فنعرف من المجرم، وما جريمته، انتصار شخصية وكيل النيابة والذي يشاركه المشاهدون إياه، يأتي دائماً من الوصول للحقيقة، ليس من نصرة مظلوم أو انتقام من شرير أو تحقيق عدالة.. إلخ، ذلك يجعل الشخصية رغم جاذبيتها تبدو محايدة، ليتوحد معها المشاهدون دون تعاطف، شخصية عقلانية بحتة، تطرح الأسئلة، وتبحث عن إجاباتها.
ديسمبر 2018، سافرت في إجازة قصيرة لأسوان، وأعلنت عن ذلك عبر صفحتي على موقع فيسبوك، لأجد فجأة وليد مكي يكلمني عبر الماسنجر طالباً اللقاء لأنه في أسوان الآن، كنا قد تحادثنا من قبل بضع مرات عن التاريخ والصوفية والتراث الشعبي، وبالطبع عن الكتابة وفنونها والفوارق بين الكتابة الأدبية والسينمائية والتليفزيونية..إلخ، لكن أبداً لم نتطرق إلى عمل وليد نفسه، عندما ذهبت للقاءه في أسوان، وأنا متحرج من إخباره أنني لم أقرأ حتى الآن روايته دروب أصفون، كنت أظن أنه مثلي في إجازة قصيرة، لأفاجأ أنه في الحقيقة يعمل هنا، كوكيل نيابة.
في جلستنا التي لم تتجاوز الساعتين أتذكر جيداً أن النقاش دار حول مفهوم الهوية، كان لدى وليد هَم خاص بتحديدها، ومن أجل ذلك كان يفكك عناصر الهوية المتمازجة للوطن ويردها لأصولها، ثم يتتبع تطورها، يتوقف فجأة عند ثغرات تاريخية جرت فيها تحولات في الهوية، ويطرح الأسئلة، ويعدد الاجابات المحتملة.. كان في رحلة بحث مستمرة، تماماً كوكيل النيابة في الدراما المصرية.. ودعته لاحقاً على أمل لقاء قريب في القاهرة، وقد أثار منطقه شغفي لقراءة روايته "دروب أصفون"، ولكن كما نعلم جميعاً شغف القراءة لا يكفي لتحقيقها أيضاً.
ينشر وليد مكي في مجلة تراث الإماراتية مقالات تصنف كأدب رحلات، يذهب جنوب شرقي البلاد حيث مثلث حلايب، يصف السكان والعادات والتقاليد بدقة لا تخلو من جماليات الكتابة الأدبية، يمارس هنا عادته في تجميع قطع الأحجية لتكوين صورة كاملة غير منقوصة، حتى في طريقة السرد، ويسيطر عليه هاجس الهوية الثقافية، من الواضح إيمانه الشديد بتعدد وتناغم أشكالها داخل الوطن، وخصوصية كل شكل منها، فهو ابن الصعيد الذي يعمل في أسوان ويتردد على مثلث حلايب وله زيارات للقاهرة والإسكندرية.
هاجس الخصوصية الثقافية يبدو واضحاً لدى من يكتبون الأدب في صعيد مصر، تبدو كتابتهم بشكلٍ عام صرخة لأهل العاصمة أن هناك في الجنوب، على ضفتي النيل وفي الظهيرين الصحراويين ما هو أبعد وأعمق من النظرة السطحية التي تحصر تلك المنطقة في حواديت الثأر وتهريب الآثار والمخدرات والسلاح، هناك بشر على اتصال وطيد بماضيهم المحفورة آثاره في نفوسهم رغم مضي القرون.
في القاهرة صيف 2019 التقينا مرة ثانية، أخبرني أنه فرغ من كتابة مسودة من رواية بعنوان "مساقي الذهب"، ولم أتفاجأ كثيراً حين أخبرني أنه بصدد كتابة رواية أخرى تدور أحداثها في مثلث حلايب، وأبطالها هم أهل المثلث من قبائل البجا والبشارية، سألته عما تدور الرواية، صمت قليلاً قبل أن يخبرني أنها تبدأ بشاب من أهل البلاد يدعى "هُمَّد" (اللفظ البجاوي لاسم أحمد)، يشرع في إعداد القهوة أعلى جبل إيلبا في جَبَنته (والجَبَنة هي وعاء فخاري لإعداد القهوة)، حين تنتفخ الجبنة كسحابة ضخمة لتبتلع همد بداخلها وتظل محلقة أعلى قمة الجبل.. أعجبني ما سمعت منه وإن لم أفهم الرمز، فأخبرني أن همد هذا قبل أن يرتقي الجبل كان يحمل هماً تجسد في سؤال وجهه لأمه "نحن للجبل أم للبحر أولى يا أماه؟".. إنه البحث في الهوية مجدداً، في سياق يتصارع فيه أهل حلايب مع قبائل الجن وأوامر الحكومة.
الأمر نفسه كان حاضراً في المسودة الأخيرة لروايته "مساقي الذهب" والتي كان لي الحظ في الاطلاع عليها، يختار وليد للرواية بطلاً ذا خلفية صعيدية صوفية، يتحول للإيمان بالعلم، ويسافر لأوروبا ليدرس الفيزياء ويقع في غرام أجنبية، قبل أن يعود أدراجه للجزيرة التي يعيش عليها مع إخوته وأعمامه وأخواله ليجد في انتظاره صراعاً مع أوامر الحكومة التي تأمر بغلق مساقي الجزيرة التي تروى حقول الموز، الذي يصفه أهلها بالذهب، ليجد البطل نفسه مضطراً لإعادة اكتشاف هويته، والتواصل معها لمواجهة تلك الأوامر الضارة بمصالح من ينتمي إليهم.
وعدت وليد في لقائنا القاهري أنني سأقرأ روايته الأولى "دروب أصفون"، ولأن وعد الحر دين، فقد قرأتها أخيراً.
"حجاك وبجاك..
أبو الحصين كَل غداك..
غداك رقيق، رقيق..
والكلبة تنبح في الطريق..
الكلبة عاوزة البتاوة..
والبتاوة عند الخباز..
والخباز عاوز المحساس..
والمحساس في قلب النخلة..
والنخلة عاوزة القدوم..
والقدوم جابوا العجل أبو قرون..
كسر الزبادي عند الصحون.."
يفتتح وليد مكي الرواية بهذه الأبيات التي تغنيها الأم لطفلها بغرض تنويمه، أبيات متوارثة منذ قرون، تبدو بريئة، ولو أنها في الحقيقة إحالة إلى حدث تاريخي هام جرى في الصعيد الذي يجهل عنه المصريون الكثير، إحالة إلى حصن الدين ثعلب الجعفري، الأمير الصعيدي الذي خاض تمرداً ضد السلطان الظاهر بيبرس، انتهى بقمع الأول وقتله.. ولكن تلك التهويدة المتوارثة لا تحيل فقط لحكاية حصن الدين ثعلب، إنما يستخدمها وليد كإشارة وإرهاصة للحدث الذي يدور في خلفية روايته، وتتحلق حوله بقية الخيوط الدرامية، تمرد "محمد بن واصل العَرَكي" المعروف بالأحدب، والذي وقع بعد سنوات طويلة من تمرد حصن الدين ثعلب.
يقدم وليد مكي شخصيات روايته الرئيسيين وكأنه يستجوبهم، وعبر الاستجواب نكتشف، وربما هو أيضاً يكتشف معنا، دخائلهم ورغباتهم وطموحاتهم، يتجنب لعب دور الراوي إلا في لحظات محددة داخل الرواية يحتاج الأمر فيها إلى عين محايدة، في الحقيقة ربما كان الانتقال من صوت الشخصيات لصوت الراوي أحد عيوب الرواية الأولى لكاتبها، لكنه يظل اختياره الذي طوعه لطرح الفكرة والهاجس المسيطر عليه كما لمسته في الرواية، الهوية.
بعد التهويدة، وفي الفصل الأول من الرواية يخرج عن الإطار الزمني الذي ستدور فيه الأحداث ليحكي لنا في خطاب يرسله فتى يدعى حامد إلى أمه حكايةً عن قوص حاضرة الصعيد في العصر الفاطمي، والتي ربما كانت إحدى حواضر العالم وقتها، مدينة كوزموبوليتانية، يقصدها التجار من كل حدب وصوب في الدنيا، لا أرى هدفاً من هذا العرض الذي أتى في صورة خطاب يضاف لملف الأدلة في القضية التي يطرحها الكاتب، سوى الإشارة إلى أن الصعيد له هويته التي تشكلت بخصوصيتها التاريخية والمكانية من إلتقاء عدة ثقافات، الثقافة العربية، والإسلامية السنية، والإسلامية الشيعية، والقبطية، وبالقطع الفرعونية، بالإضافة للثقافات الواردة حتماً مع التجار الأجانب.
تعاني الرواية من أزمات العمل الأول التقليدية، فهناك بعض الإطناب في مواضع كان التكثيف هو الخيار الأمثل فيها، وتحديداً في الفصل الذي حمل عنوان "المماليك"، إلى جانب إصدار الكاتب أحكاماً أخلاقية على بعض الشخصيات، ولكن بتجاوز تلك العيوب نجد نصاً مميزاً، ينتقل كاتبه بين العصور والأماكن، مستجوباً الشخصيات، جامعاً الأدلة، ليعرضها أمامنا كصورة متكاملة بمهارة، قبل أن يقوم بتجميعها لتقديم نص مميز يكشف الكثير عن مجتمع تاريخي لم نعرفه، ونحن، على الأقل كل المهتمين بالبحث في الهوية المصرية بتنويعاتها، في حاجة لمعرفته.