كوَّن نسيجا وحده بين رواد الفن الحديثين عندنا فلوحاته توثيقا شاعريا لحياة مصرية، حياة سكندرية بنوع خاص. لكنها تنضح بروح الأرض والناس في حقبة زمنية معينة، مقابل تشكيلي لروايات نجيب محفوظ وأشعار فؤاد حداد. حكايات وقصائد تشكيلية، أبدعها شاعر الألوان، ليروي واقعا أغرب من الخيال. أزاح بلوحاته الستار عن الوجه الطيب الجميل لأعماق حياتنا. أسلوبه في الرسم وصياغته للتكوين، طراز قائم بذاته مفعم بالراحة والاطمئنان، يثير فينا فضولا رقيقا، نتعرف به على أنفسنا من جديد، نشاهد من خلال لوحاته، حياتنا الإنسانية التي تخفيها تفاصيل المشاغل اليومية، وتعيد إلينا تفاصيل أخرى، نسينا جوهرها الثابت، حين تغيرت القشرة الخارجية بفعل التطور الثقافي. لكن الجوهر بقى ليضيء الطريق، أمام أفكار أجيالنا الصاعدة، ويدعم إيمانها بالنفس والحياة، وبأن المصريين باقون ما بقيت الأيام، يمدون الإنساية بمزيد من الثقافة والجمال.. شأن شعوب العالم، وبأن لنا هوية خاصة كما أن لهم هويات لا يتغير جوهرها، وإن اختلفت المظاهر باختلاف الثقافات..
الميلاد
ولد في الثامن من إبريل عام ١٨٩٧، ورحل في الثامن من إبريل عام ١٩٦٤، وبينهما ٦٧ عامًا عاشها ابن رئيس الوزراء محمد سعيد باشا، ذلك الابن الذى أراد له أبوه أن يدرس القانون ليرث المكانة الرفيعة ذاتها حينما كان الحقوقيون يحتكرون المناصب السياسية، فانصاع الفتى لوالده، وأسرَّ عشق الفن في نفسه رغم أنه ترقى حتى اعتلى منصة القضاء، ولأنه أسرَّ هذا الشيء في نفسه فقد تردد على مرسم الفنانة الإيطالية بالإسكندرية، الذى كان يرتاده صغار الشباب من «مهاويس التشكيل»، قبل وجود أي مدرسة للفنون التشكيلية في مصر.
النشأة
ألحقه والده بكلية فيكتوريا عام ١٩٠٤ حتى ١٩٠٨، ثم اكتفت الأسرة بتحصيله الدراسة في المنزل وحصل على الابتدائية «منازل» في ١٩١١، ثم الكفاءة بتفوق، وفى ١٩١٥ حصل على البكالوريا من مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية بتفوق، وأرسلته أسرته إلى باريس لدراسة الحقوق، وقادته موهبته لزيارة المتاحف، وحصل على الليسانس في ١٩١٩، ظهرت موهبة محمود سعيد مبكراً، وكثيرًا ما كان يرسم على صفحات الكتب الدراسية، إلى أن سمع عن الفنانة الإيطالية خريجة أكاديمية فلورنسا «كازنا تودى فورنيو»، وكانت تفتح مرسمها في الإسكندرية لراغبي تعلم الرسم في عام ١٩١٢، وذهب محمود سعيد ووجد هناك عددًا من الطلبة المصريين والأجانب، ثم ما لبث أن انضم لمرسم آخر وهو مرسم «زانييرى»، وهناك تعرف على شريف صبري، كانت آنذاك أخبار تلاميذ مدرسة الفنون في القاهرة التي أسسها البرنس يوسف كمال عام ١٩٠٨ تصل لمحمود سعيد في الإسكندرية، خاصة أن أثرها تجلى في ظهور أسماء بارزة في مجال الفن التشكيلي والنحت من أمثال محمود مختار ومحمد ناجى وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن.
وحين سافر محمود سعيد لأوروبا أكثر من مرة كان يحرص على التردد على المتاحف، وما إن تخرج في كلية الحقوق حتى سارع إلى الالتحاق بمرسم «الكوخ الكبير» الذى أسسه أنطوان بورديل ثم أكاديمية جوليان، ولم يكن أبوه راضيًا عن اتجاهه للفن، وعمل على تعيينه بسلك القضاء، وعين في عام ١٩٢٢ مساعدًا للنيابة بالمحاكم المختلطة بالمنصورة، وظل يترقى حتى أصبح مستشارًا، وظل الصراع مضرماً في نفس محمود سعيد بين تعارض طبيعة وظيفته كقاض صارم جامد بعيد عن الانفعال وطبيعة الفنان التي جُبل عليها، فلما أحس أن القضاء يفرض عليه قيودًا لا حدود لها مما تتعارض مع طبيعة تمرد الفنان وانطلاقه، فقد قرر أن يحسم هذا الصراع لصالح عشقه الحقيقي، وهو الفن، فاستقال من سلك القضاء فى عام ١٩٤٧، وانتصر لحبه وتفرغ كليةً للفن غير أنه- على حد وصف الناقد «مكرم حنين»- أحاط نفسه وحياته بستار حديدي من الخصوصية، حتى إن أحدًا لا يعرف كيف ارتبط بزوجته وهل كان خيارًا عقلانيًا أم عاطفياً.
علاقته بالمرأة
كانت المرأة الموضوع المفضل، وقد رسم محمود سعيد زوجته الجميلة ثلاث مرات في ألبسة مختلفة وأقنعة منوعة، مرة ألبسها ثيابا إسبانية بشالها الحريري، ومرة بقبعة من القش الإيطالي، ومرة سيدة لؤلؤية مرمرية، ورسم والدته بتعبير حزين جليل، ورسم حماته سيدة مجتمع لا تعترف بالغضون والسن، وأنوثتها الناطقة بإرادتها المطلقة، كما رسم ابنة أخته فريدة التي أصبحت بعد ذلك ملكة ثم رسامة.. ومن دائرة العائلة انتقل محمود سعيد إلى المجتمع وإلى شاطئ البحر والأسواق الشعبية، فكانت روائعه النادرة وعلى رأسها لوحة «بنات بحرى» الضخمة بالملايات اللف.
ملامحه الفنية
لديه قدر من الروحانية تمثلت في العديد من لوحات المصلين التي رسمها ومقرئي كتاب الله وحلقات الذكر والدراويش هذا رغم ما كان لديه من قدر كبير من مادية مفرطة في العديد من لوحات رسمها لموديلاته، لتضج اللوحة بطاقة روحانية تسمو على مادية الإنسان الراسخة في الأرض بطاقة الصلاة وروحانيتها التي جعلت المشهد فى لوحة محمود سعيد يتهادى بين المادية أسفل اللوحة وطاقة الإشعاعات المضيئة أعلى اللوحة.
وقد استطاع الفنان رغم واقعية اللوحة بكل تفاصيلها من الكشف عن حالة صوفية مخبأة وراء الملابس البالية ووراء استسلام الجسد والكفين وانسدال الجفون في حالة من الخشوع الروحاني المنسلخ عن مادية أو نتيجة حالة من الانتقال الروحاني بفضل حالة الصلاة وخشوعها المستسلم الآمن.
وهذه الحالة وهذا الاستسلام الآمن بين يدى الله من الصعب وصفهما أو تصوير تلك الحالة اللامرئية والتي نجد بعضاً من دلائلها من الخارج أما الداخل فهو مغمور في قلب الصلاة ذاتها وهو أروع من أن تدركه العين تفصيلاً لتترجمها في ألوان وخطوط لأنه لا يستشعرها إلا المصلى ذاته.. وحين يرسم الفنان هذه الحالة الروحانية فإن مصدره الوحيد هو استحضار ما يستشعره أثناء صلاته والتي تجعله مخلصاً شوقاً وخضوعاً.
تميزت لوحاته بالتركيز على البعد الثالث بإبراز الإضاءة وتجسيد الأشكال والطبيعة الحية والتعبير الحسى الواضح للموديل التي يختارها مثل إبداعه في لوحات (بنات بحرى، بنت البلد، ذات الجدائل الذهبية) وغيرها.
في أعمال الفنان محمود سعيد الضوء ليس ضوءاً تقليدياً.. وإن كان مصدره الشمس أو شمعة أو مصدراً صناعياً .. لكونه آتياً من منابع مختلفة ويسرى في دوامات الفراغ على هيئة انعكاسات للحزم الضوئية التى تتجمع ثم تتجزأ وبالتالي تتهجن في وجوه وأجساد ومراكب وسماوات وسحب محمود سعيد بعد أن تشبعت بروح الفنان واندمجت فى ذاته، ونكتشف يوماً بعد يوم أن الضوء حالة باعثة وجاذبة وكاشفة للون وموجاته، فالضوء يكشف لنا الموجات اللونية البصرية للون الأصفر، كما يكشف لنا الموجات اللونية للون الأزرق على سبيل المثال، ومع اختفاء الضوء تدريجياً تختفى معه -بالتوازى- الموجات اللونية الصادرة من اللون نفسه بفعل الضوء المباشر .. لذلك عندما تختفى الشمس لا نرى شيئاً .. وعندما يسطع القمر تبدأ حدقة العين تتسع وتتآلف وتتكيف مع ضوء القمر السحري الهادئ وتبدأ في اكتشاف الأشياء بنفس مقدار الأشعة الضوئية للقمر .. وعندما ندخل المدينة فى وجود تباين بين الظلام والضوء، تبدأ العين تتكيف من جديد بقياسات نسب الضوء المتواترة فى المدينة، فقد عالج محمود سعيد الضوء الذهبي في لوحة الصلاة بذكاء شديد حيث تتابعت الأشعة الضوئية على الأعمدة والعقود فى متوالية ذات إيقاع بصرى موسيقى صوفي مدهش، وومضات الضوء المتراصة على منظومة الأجسام الراكعة في حوار أفقي ورأسي متجانس .. والمثير للتأمل أن جميع المصلين يرتدون زياً موحداً باختلاف وتنوع الألوان، والجميع يرتدون عمامات بيضاء مسلَّط عليها شهب ضوئية قوية وكون الظلال -عليها- آتية بفعل قوة الضوء إلاَّ أنها تشع طاقة ضوئية، ويأتي ذلك أيضاً بتجاور اللونين الأصفر والأزرق المتباينين والتواتر والتكامل بينهما فى نفس الوقت، ودرجة الأزرق الناتجة جعلت منه ضوءا مقابلاً للضوء الأصفر مما أحدث انجذاباً بصرياً تجاه الرأس، تعبيراً عن الدماغ التي تحمل جهاز الاستشعار المحرك للعقل والجسد.
ونقف في أعمال محمود سعيد على توليفة من الروح الفرعونية والقبطية والإسلامية والشعبية التي تبرز الروح المصرية، ونجد فى موديلاته ذلك اللون النحاسي للأجساد التي ترفل في سخونتها وصراعها بين الفضيلة والمجون، وذلك على نقيض ما أظهره فى البورتريهات الأرستقراطية.
وكان الفنان التشكيلي الكبير الراحل حسين بيكار قد قال في وصفه لأعمال محمود سعيد: إن الينبوع الذى ارتوى منه محمود سعيد فى مراحله الأولى هو الفن الفلامنكى، والفن الإيطالي قبل عصر النهضة، حيث تأثر بقوة الفورم والشكل عند مامساشيو وجيوفانى وجنتلى وبلينى فى الضوء وتدرجه وسرعان ما تأثر بالمدرسة الفلورنسية التي لم يكن ميالا لها فى البداية.. تأثر بها فى بعث الألوان القوية الدنيوية، وانتقل بعد ذلك إلى التأثير بقوة التشريح فى عصر النهضة وهندسة التكوين عند عباقرته المعروفين مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشى ورافاييل، غير أن تطور سعيد لم يتوقف عند فهم وهضم مدارس الفن الحديثة فى لمسات الفرشاة العريضة عنده أصداء التأثيرية، وتميز بخصوصية فى التناول، وأطلق سراح الألوان القوية، فاقتربت كثيرًا من المدرسة الوحشية بألوانها الساخنة وخلطها بألوان الطينة المصرية، وسمرة الوجوه، وعبّر أيضا من باب المدرسة التركيبية فى تجميع العناصر المختلفة تجميعا مسرحيًا جميلا مستخدما عناصر من الحيوان والنبات والطبيعة. كما توقف عند رصانة المدرسة التكعيبية فى التظليل المساعد على إبراز الشكل، وفى توزيع امتدادات التحليل الخطى والمساحي.
خاتمة
ما بين سلك القضاء وفن الرسم قضى عمره، وبين الطبقة الأرستقراطية التي ينتمى إليها والناس الشعبيين البسطاء من الفلاحين والصيادين رسم لوحاته، سيطرت عليه حالة من التصوف والتأمل في جماليات الكون والطبيعة والإيمان إلا أن جمال الفتيات السمراوات خلب لب الفنان داخله بأجسادهن الخمرية الذهبية وملامح وجوههن البارزة ونظرات عيونهم الفاتنة، فرسمهن كما لم يرسمهن أحد من قبله أو بعده وبدت فتيات ذوات جمال مصري شهى، الأجواء المتناقضة التي عاش حياته من خلالها انطبعت على إبداعه الفني وجعلت من الفنان محمود سعيد الأغلى سعراً في سوق الفن التشكيلي العربي، الرقم القياسي الذى حققته لوحته "الدراويش" عند بيعها في مزاد نظمته دار "كريستيز" للمزادات بإمارة دبى جعل الكثيرين يعيدون التفكير في سمات الفن التشكيلي المصري الحديث.