علاقة القضاء بالأدب .. جذور .. وروابط .. ورسائل
القضاء في اللغة له معانٍ عدة، منها الأداء والإنهاء، كأن يقول قضيت ديني، وقد ترد بمعنى صنعه وقدره، كما في قوله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم " فقضاهن سبع سنوات في يومين" سورة فصلت. وقد تكون بمعنى المضي كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة يونس بسم الله الرحمن الرحيم " ثم اقضوا إلي " أي امضوا إلي، ولكن أقرب المعاني في مقامنا هذا للقضاء الحكم كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء بسم الله الرحمن الرحيم " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" صدق الله العظيم. واتفق اللغويون على أنه مع اختلاف مرجعها فإنها تعني إحكام الشيء وإتمام الأمر.
والقضاء اصطلاحاً: هو الحكم عند التخاصم والتنازع وفصل الأمر وإظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه،وهو مقياس الخير في الأمم ومعيار العظمة فيها، ورأس مفاخر كل أمة حية راشدة.
أما الأدب فقد وصفه الجاحظ بأنه (الأخذ من كل علم بطرف)، وفي لسان العرب لابن منظور وتاج العروس للزبيدي، الأدب هو: الٌخلق الذي يتصف به فرد من الناس، ويؤدب به الآخرين إلى المحامد والمكارم وينهاهم عن المقابح، وقيل: إن الأدب ملكة تعصم من قام به عما يشينه، وفي القاموس المحيط: الأدب: الظَّرف وحسن التناول، وفي المصباح المنير:: علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، وأدبته تأديباً مبالغة وتكثير.• أدبته أدباً.
أما تعريف الأدب اصطلاحاً، فذكروا أنه ''فنّ من الفنون الإنسانية الرفيعة، يحقّق هدفه بوساطة العبارة التي تثير فينا صياغتها انفعالات عاطفية أو إحساسات جمالية، وعدّه بعضهم ''مؤسسة اجتماعية، أداته اللغة، مع شرط مراعاة مطابقة التعبير وحسن اختيار اللفظ وتناغم الحروف، وتناسق الجمل، وتلاؤم الكلمات مع الموضوع، والعناية بالصور، واستخدام الخيال واستغلال كلّ إمكانيات اللغة الصوتية والتصويرية والإيحائية والدالة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة.
أو كما عرفه ابن خلدون: فكر الأمة الموروث الذي يعبر عنه الشاعر أو الكاتب بلغة ذات مستوى رفيع ينقل بشفافية موروث الأمة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والحضاري،والأدب الذي نقصده نوع من أنواع التعبير الراقي عن المشاعر الإنسانيّة التي تجول بخاطر الكاتب، والتعبير عن أفكاره، وآرائه، وخبرته الإنسانيّة في الحياة، وذلك من خلال الكتابة بعدّة أشكال، سواء أكانت كتابة نثريّة أم شعريّة، أو غيرها من أشكال التعبير في الأدب، وهو نتاج فكريّ يشكّل في مجموعه الحضارة الفكريّة واللغوية لأمّة من الأمم، وهو انعكاس لثقافتها ومجتمعها.
وما بين الاثنين ،القضاء والأدب أو القاضي والأديب تشابه بيّن والتقاءات كبيرة في الأدوات وفي المضامين.
فكما أن الأديب يحتاج في كتابته إلى جميع أنواع الأدب من الشعر والقصة القصيرة والرواية والمقال لامتلاك ناصية اللغة حتى يبرز موهبته في النوع الذي يختاره، فإن القاضي يحتاج أيضاً إلى اللغة في عمله القضائي على جميع مراحله، ويضحى هذا الرابط أول وأهم نقاط تماس والتقاء بين القضاء والأدب، فالأديب العربي الحديث، مستخدم اللغة العربية في إنشائه لنصه، يتواصل مع موروثه الثقافي والفكر في مختلف تجلياته،
وعندما ينتج نصه الأدبي فإنه ينشئه بهذه اللغة وقد تشبعت بكل هذا الموروث.
وكذلك الأمر بالنسبة للقاضي في أهمية استخدامه للغة للتعبير عن المنطق القضائي الذي سيعبر عنه، وليس مبالغةً القول إن اللغة تمثل نصف العمل القانوني أو العمل القضائي، ذلك أن الأفكار القانونية تظل حبيسة في الذهن إلى أن تنتقل إلى السامع أو إلى القارئ عن طريق اللغة.
كما يمكن القول إن رجال القضاء لا يتمايزون فيما بينهم بالعلم بالقانون بقدر ما يكون هذا التمايز بالثقافة اللغوية، فالعلم بقواعد اللغة ليس المقصود به التأنق في أسلوب الكاتب أو المتحدث، بل التمكن أيضاً من قواعد النحو، نظراً لأن اللغة العربية تختلف عن غيرها من اللغات في أن قواعد النحو تمثل جزءاً من معنى العبارة، وأي خلل فيها يؤدي إلى اختلال المعنى، بل إن الخطأ في علامات الإعراب يقلب المعنى تماماً، مما يتطلب معه ضرورة العلم بهذه القواعد التي من شأن العلم بها أن تؤدي العبارة المعنى المطلوب أو المعنى المقصود منها.
وفي هذا السياق نجد أيضاً أنه وكما يختلف أسلوب لغة الأديب في كل نوع من أنواع كتابته، عندما يعالج موضوعاً سياسياً، يختلف في أسلوبه عما لو كان الموضوع عاطفياً أو علمياً أو اقتصادياً، والأسلوب والمفردات التي يكتب بها المقال تختلف عن الأسلوب الذي ينظم به الشعر، وعن الأسلوب الذي يسطّر به الرواية أو القصة القصيرة، وهو ذات الاختلاف في نطاق العمل القانوني للقاضي، إذ يختلف أسلوب القاضي الذي يعمل في إعداد واقتراح التشريع، إذ يجب ساعتها أن يتخير العبارة البسيطة السهلة الواضحة التي يمكن أن يفهمها كل الناس، كذلك يجب عليه أن يختار العبارة المرنة التي تتسع لكل الصور، سواء الصورة الموجودة وقت إعداد مشروع التشريع، أو الصورة المحتملة مستقبلاً.
فالتشريع يجب فيه الاستقرار، ولا يستقيم أن نعدل التشريع كل يوم لمواجهة صورة جديدة كنا نستطيع أن نواجهها لو اتبعنا الأسلوب المرن في صياغة التشريع، كما يجب أن تكون العبارات بسيطة تخاطب الناس جميعاً على اختلاف مداركهم وثقافتهم وأفهامهم؛ وهو ما يختلف عن الأسلوب في الحكم القضائي، فلا يستطيع القاضي استخدام عبارة مرنة في الحكم القضائي، فالحكم القضائي يجب أن تكون عباراته دقيقة محددة، فلا يقال مثلا لمن سرق كتاباً إنه سرق وسيلة من وسائل العلم، وإنما يجب أن يكون الشيء المسروق محدداً دقيقاً واضحاً.
وهو الأمر الذي يختلف في حال قيام ممثل النيابة العامة بالمرافعة، فالمرافعة شقان، مخاطبة لمشاعر القضاة، ومخاطبة لعقول القضاة في الوقت ذاته، فهي في الشق الأول مخاطبة لمشاعر القضاة عندما يتحدث ممثل النيابة المترافع في أدبيات الدعوى، وعندما يتحدث في جسامة الجريمة وعن خطرها على أمن المجتمع، وعندما يتحدث عن أخذ المتهمين بالشدّة وهو في هذه الحال، عليه أن يتخير أسلوب العبارة الرنانة التي تبعث الحماسة والتي تهز المشاعر والتي تؤثر في نفوس السامعين.
والشق الثاني مخاطبة عقول القضاة، فحينما يتحدث المترافع في سرد الأدلة، أو عن الجانب القانوني، فيجب أن يختار الأسلوب المنطقي الهادئ المتزن الخالي من عبارات الحماسة، والذي يؤدي إلى الاقتناع بالدليل وتبيان الأركان والشروط والظروف التي استلزمتها النصوص القانونية في الجريمة محل الدعوى وسلامة أدلة نسبتها إلى فاعلها.
وكما يلتقي الأدب مع القضاء في أدوات التعبير كما أوضحنا سلفاً فإنما بين القاضى والأديب علاقة أبدية سحرية تتلخص فى فن الإحساس بمشاعر الناس، فالقاضى بداخله أديب بارع، فهو المتأمل الأكبر فى حياة الناس، والمستمع دوما إلى شكاواهم ظالمين ومظلومين.. يتساوى في تأمله وغوره إلى المشاعر مع الأديب الذى يحترف الأدب والكتابة.
فإذا كان الأديب الأريب يبدع في فنه ويظل في ربة حالته الفنية منشغلا بالتجويد والتعديل والإضافة ليخرج المنتج النهائي أياً كان قصة أو رواية أو قصيدة ليرسخ القيم ويرسم المدينة الفاضلة كما يراها أو يوجه المجتمع لمعالجة سلوك معوج بطريقة تأخذ الألباب وتجذب الآذان والعيون، ويظل مهموما بآلام وطنه وأمته ويسعى في كل محفل ليقدم من خلال فنه رسالة عظيمة قد تبقى دهورا وأعواما في أذهان وصدور المجتمع، بل وقد تصل الدرجة في كثير من الأحيان أن تصير هذه الأعمال نموذجاً يستحضره الجميع في حديثهم وحياتهم ويستأنسون به في كل مواقفهم.
فالقاضي الحق ثابت الفكر ، سديد الرأي ، إذا هجمت عليه الأخبار ، وأشكلت المسائل ، فلا يأخذ بالبوادِر ، ولا يتعجل الحكم ، وإنما يمحص ما يسمع ، ويقلِّبُ النظر ، ويُحادثُ النفس بالحجج والقرائن حتى يطمئن قلبه وتقر عينه لما انتهى إليه.
ولا يزال القاضي الحق يقرأ وينقب حتى يعتاد على البحث فيأبى قلمه أن يسطر حرفا في حكم أو مذكرة دون اعتناء أو اهتمام أو تعمق ويظل منشغلا بدعواه في سيره وفي سفره بل تصل الدرجة أن تقلقه من نومه ليكتب حرفا أو يضيف سطرا أو يحذف كلمة.
ولقد جبلنا على أن القاضي يهرول خلف العدالة مهما طال الطريق متشحا بالنزاهة والاستقلال مستعينا بالقراءة المتأنية وفهمه العميق لما حوته الأوراق والعلم الغزير بموضوع الدعوى مستهديا بمصابيح ولآلئ ودرر هي السوابق القضائية ومبادئ الأحكام سطرها شيوخ عظام أجلاء في الوقائع المماثلة ستبقى كالنهر الجاري ينهل منه كل ظمآن.
يرتكز في قضائه على أداء الحقوق لمستحقيها مهما ضعفوا وقمع الظالم واستيداء الحق منه مهما قويت شوكته وعلا قدره هو ذاك الذي يبدع إذا استحدثت الوقائع إشكاليات ضنت النصوص والمبادئ أن تعالجها ويظل ساعيا للتجويد والمواكبة مهما كلفه ذلك من عناء.
القاضي الحق هو من وقر في قلبه أنه مؤتمن وأمانته ولاية ورسالة لن يجزيه عن حسن أدائها إلا الحق العزيز سبحانه جل وعلا، وهو الأمر الذي يظهر منه وبجلاء تغلغل العلاقة ما بين رسالة القضاء السامية وقيمة الأدب الراقية وتجذرها لتصنع وجهين لعملة واحدة يظل حاملها باحثاً عن سلعة غالية الثمن باهظة التكاليف هي ترسيخ القيم المجتمعية وإعلاء سيادة القانون وإذكاء الوعي وتعزيز أسس النزاهة والشفافية والحيدة .