مسقط الرأس ومهوى الفؤاد :
يفخر المستشار محمد مرشدي بركات، رئيس محكمة الاستئناف العالي سابقا، بمسقط رأسه، الذي شهد طفولته وصباه وشبابه، فاستقبلته الحياة عام 1939، بقرية عريقة موغلة في القدم، أطلق عليها في العصر الفرعوني " كوم الأمان"، تيمنا بوصول السفن والبحارة سالمين من لجج المتوسط والنيل وبحيرة البرلس، من ذلك الخليط الأزلي تكون مزاج من الهدوء والخيال والبساطة لدى أهلها، اشتهروا به بين القرى القريبة والبعيدة.
بعد تلك اللمحة من التاريخ البعيد، صمتت المراجع فلم تذكرعنها شيئا، حتى أواسط العصر المملوكي، فإذا هي تظهر في تحفة النظار لابن بطوطة وفى التحفة السنية لابن الجيعان، لكنها خلعت اسمها الفرعوني وارتدت اسما جديدا هو "منية بنى مرشد".
ظلت تذكر بعد ذلك في صفحات متفرقة عند المقريزي والذهبي والسخاوى، كمقر اختاره العابد المنقطع من الكون أبى عبد الله المرشدى، الذي زاره الملك الناصر بن قلاوون في موضعه عدة مرات، وكثر الحديث عن كراماته وتقواه.
القرية الآن حصلت على اسم جديد للمرة الثالثة، فتخففت من كلمة بني، لتصير"منية المرشد"، من أعمال مركز مطوبس محافظة كفر الشيخ، يعمل غالب أهلها بالصيد، وقليل منهم بالزراعة، فيما يتوزع الباقون حول الوظائف والتجارة والأعمال اليدوية.
وعلى الرغم من أن النيل قد ألجم ولم يعد يختلط بالبحيرة، التي ابتعدت أيضا عن المساكن، وابتعد كذلك البحر إلى مسافة بعيدة، فإن مزاج القرية الهادئ البسيط وخيالها المجنح لا يزالان على حالهما.
في هذه البقعة الساحرة ترعرع المستشار المرشدى، فامتلك حسا شعريا رقيقا وقدرة مبكرة على الإبداع، نتيجة ارتباطه الوثيق بقريته، حيث تمتزج الحقيقة بالأسطورة، ومن العجيب أن يضطر في طفولته إلى مغادرتها نحو الإسكندرية في مطلع الخمسينيات ليلتحق بأول مراحل التعليم، من ثم ذاق الاغتراب والحزن، لكنهما لم يمنعاه من التفوق طيلة مراحل دراسته؛ وكانت أسعد لحظاته عندما عاد إلى منية المرشد يحمل الشهادة الابتدائية، محققا المركز الأول ومكرما من الإدارة، لتميزه في اللغة الإنجليزية، وهكذا ظل محافظا على مكانه المتقدم في جميع المراحل.
مكتبة الوالد والأم الرءوم :
في بيت الوالد المستشار مرشدي بركات، يفتح محمد الصغير عينيه على مكتبة هائلة، ويلمح والده حين يعود من المحكمة يلجها ليقرأ حتى ساعة متأخرة.
كان الغلام يتعجب ويحلق بخياله الصغير متسائلا : ترى ما الذي يشد والدي فيستغرق فيه كل هذا الاستغراق؟
لم يكن يدرى أن الأيام ستطوى، وسوف يلتحق كوالده بمحراب العدالة، ويدخل نفس المكتبة ليقضى الليل بين أعزائه الكتب، كان طالبا في كلية الحقوق جامعة القاهرة عندما قرأ أولا تاريخ الفراعنة، وعاش مع العظيم سليم حسن في موسوعته "مصر القديمة"، وتخيل قريته الفرعونية العتيقة تتعلق بإلهة العدالة "ماعت"، وبإله الكتابة والحكمة "تحوت"، ثم اهتدى إلى قسم التاريخ الإسلامى فنهل منه، ورأى بعين خياله قريته وقد اهتدت مع الفتح الإسلامى وعبدت الإله الواحد العادل الحكيم.
استمرت رحلة التكوين العقلي والنفسي، فقرأ الأدب العربي في موسوعاته: "البخلاء، والبيان، والتبيين" للجاحظ، "نهاية الأرب في فنون الأدب، الأغاني" للأصفهاني، عرج على الكتاب المعاصرين فقرأ "توفيق الحكيم والمازني والعقاد"، فضلا عن الصحف السيارة التي كانت تموج أيامها بالتيارات السياسية والثقافية والاجتماعية المتباينة.
في مرحلة من مراحل نضجه الفكري وجد نفسه يتناول القلم ويرسل شذراته ومراجعاته لهؤلاء العظام الذين يقرأ لهم، ولأن كتاباته كانت رصينة وأصيلة، فقد ردوا عليه بخطابات شخصية، وبكلمات مشجعة أيضا في أعمدتهم الصحفية.
في لقاء مع سيادته أكد لي أنه في سن مبكرة، كان سببا في آخر معركة فكرية بين العقاد والدكتور محمد مندور، وقد شهد له العقاد برقة الكلمة وعمق الفكرة في يوميات الأخبار بقوله:
"إننا نعرف من أسئلة الأديب المرشدى أنه جيد الفهم لما يقرأ، وأنه يحسن السؤال الذي يجاب عنه ".
كما شهد له الشاعر الراحل صالح جودت : "إن القارئ الأديب محمد مرشدي بركات كان دائم المراسلة مع الأستاذ العقاد، وكان يديم إرسال اللمحات الذكية فيرد عليها في جريدة الأخبار الغراء".
كان الوالد رغم تحفظه ووقاره كقاض جليل، يفيض حنانا كنهر جار، وقد أحبه الشاب محمد حبا ملك عليه كل جوارحه، حتى أنه ذهب ليقيم معه في الفيوم إبّان رئاسته لمحكمتها.
وعن فضل أمه ودورها في تنشئته الثقافية يقول المستشار محمد مرشدي في لقاء صحفي : " كان أبى رئيسا لمحكمة الفيوم وكنت أعيش معه فتسافر أمي خصيصا وتحضر لي الكتب التي أحبها وخاصة كتب العقاد".
هذه الأم الحانية الرءوم ما تلبث أن تسقط صريعة مرض عضال، مما يزلزل كيانه، فيحدثني بالدموع كأنها فارقته بالأمس :
" كانت أمي خلال خمسة أعوام تُمرّض أبى بلا تأفُّف، وبعد وفاته بفترة، مرضت مرضا شديدا، فذهبت بها إلى المستشفى، ورفضت تناول الطعام تماما، وكنت أطعمها رغما عنها فتغضب قائلة : لقد نفذ سهم الله في أمك، فهل تعاند القدر؟".
سيل منهمر من الجوائز :
إبّان دراسته الجامعية توجت جهوده وثقافته بجوائز عديدة قيمة، لا يزال يحتفظ بذكرياتها وصورها بين أوراقه:
*الجائزة الأولى عن بحث بعنوان : البترول العربي سلاح ضد الاستعمار.
*الجائزة الأولى عن بحث بعنوان "احتكار العلم".
*الجائزة الأولى في مسابقة كلية الحقوق الأدبية.
*جائزة محافظة القاهرة في القراءة الحرة.
* جائزة الامتياز في عرض الكتب الثقافية.
*الجائزة الأولى في عيد العلم عام 1959
النهر يحفر مجراه:
حين التحق بالسلك القضائي على خطى والده، احتشد للفصل بين الناس بالحق، وللكتابة عما يعتمل في نفسه من مشاعر وأحاسيس، وعثرتُ في كتابه "خواطر قاض"، الصادر عن دار المعارف، على خطاب يعد تحفة أدبية، أرسله إلى والده من الأقصر عندما عمل بها وكيلا للنائب العام، وهذه مقتطفات منه:
"أقبل يديكم الكريمتين وأهنئكم بحلول العام الجديد، جعله الله عاما سعيدا عليكم وعلى الوالدة الجليلة والأخوة الأعزاء، ويسرني أن أخبر حضرتكم أنني سوف أحضر معي التذاكر إلى الأقصر ذهابا وإيابا، وعسى أن تكون دعوتي مقبولة فتشرفوني بالزيارة هنا في قلب الصعيد".
ووجهت إليّ دعوة من الدكتور جمال مختار المشرف على آثار الأقصر، لحضور حفل افتتاح مشروع الصوت والضوء، وقد علمت أن الدكتور حاتم سوف يحضر، لكن جاءني من يدق على بابي ليخبرني بوقوع جريمة قتل في إحدى جزر البر الغربي، فشددت الرحال إلى هناك، وفوّت ذلك عليّ فرصة الحفل.
أما عن الأقصر فلم أرها جيدا مع مكوثي فيها مدة تنيف عن الستة أشهر كما تعلمون، ولست أدرى أمقيم أنا في مدينة أم قرية؟، فهي خليط من هذا وذاك، ويقع مسجد أبى الحجاج في قلب آثار الفراعنة في منظر جميل خلاب، فمئذنته التي تشرئب إلى السماء وكأنها من آثار الفراعنة، تشير إلى دلالات وتوحي بإيحاءات يهتز لها قلب الإنسان.
وهاهم الفراعنة الذين كانوا أول من عرف التوحيد على يد إخناتون، ينبعث صوت الأذان الخالد من داخل أرماسهم ومعابدهم، ينبه الغافل ويبشر المظلوم.
والدي العزيز، عذرا إن كنت أطلت عليك، لكنها الرغبة الجارفة أن أتحدث إليك، وكل عام وأنتم بخير.
ابنكم المخلص
الأعمال الكاملة:
تتابعت الثمار على هيئة كتب تثرى المكتبة العربية أصدرت معظمها دار المعارف:
*في ذكرى ميلاد عبقري الفكر عباس العقاد.
*العقاد وأفول العقل.
*خواطر قاض.
* هموم مصرية.
*الواحات المصرية كنوز تاريخية.
* السادات مسار ومسيرة.
*جمال عبد الناصر كما لم تعرفه من قبل.
"مقدمة كتاب الحماية الجنائية" رسالة دكتوراه لخالد الشرقاوي.
*أفكار المعلم.
تحليل مختصر لكتابه " السادات مسار ومسيرة"
وبضمير القاضي وقلم الأديب، يتناول المستشار بركات شخصية أنور السادات بما لها وما عليها، ويصحبه منذ الطفولة في قريته الصغيرة طفلا يعشق الطبيعة ويبدى ذكاء فطريا مبكرا، وعندما يحصل على الثانوية يتقدم للالتحاق بالكلية الحربية، إيمانا بدور المصريين وجيشهم في طرد الإنجليز.
يقول المؤلف عن قصة التحاقه بالحربية "ومن التناقضات أن الإنجليز الذين يسعى السادات ومعه كل المصريين لطردهم، كانوا هم السبب في دخوله الكلية، والقصة تتلخص في أن كل طالب لا بد لقبوله من واسطة، وكانت واسطة السادات حكيمباشى الجيش الإنجليزي الذي يعمل والده معه في القسم الطبي".
يقدم المؤلف السادات في هذه الفترة كمثقف مصري يغار على وطنه، ويسعى لتثقيف نفسه بقراءة واستيعاب كل ما تقع عليه يداه.
يعرض الكتاب أيضا صراحة السادات ووضوحه كفلاح لا يعرف التلون، وربما كان ذلك سببا في اعتقاله لتقربه من عزيز باشا المصري، تتحول حياته بعد الاعتقال تماما، وتنضج أفكاره حول أهوال الاحتلال الإنجليزي والقصر والإقطاع الذي يمتص دماء الفقراء، من هنا برزت في ذهنه وأذهان رفاقه فكرة الثورة، التي تحققت وغيرت وجه الحياة.
يعرج على هزيمة يونيو وفجيعة الشعب، وسنوات الهزيمة والإعداد ثم وفاة عبد الناصر وتولى السادات، الذي تمكن بإصراره وصموده من تحويل النكسة إلى نصر يدرس في جامعات العالم . يرى المستشار بركات في نهاية الكتاب أن السادات كان سابقا لعصره وأنه يحتاج دراسات كثيرة لتحيط بجوانب شخصيته المتنوعة.
وبعد، فهذه سيرة قاض مبدع، لم ينقطع عن أهله في قريته، بل هو دائم الاهتمام بهم وبشئونهم، وهذه حياته الحافلة التي وهبها للفكر والثقافة، فيما يقبض على ميزان العدالة، ويقاوم الظلم والطغيان، آملا في حياة أفضل للفقراء والبسطاء من أبناء الوطن.