ما الذى يجمع بينهما؟.
أمور كثيرة سأركز على أمرين منهما. الأول: أنهما سكنا حى السيدة زينب فترة من الوقت. فى أزمنة ليست معاصرة. لكن ميدان السيدة زينب ظهر فى أعمالهما الأدبية بشكل واضح. عند توفيق الحكيم فى عودة الروح.
وعند يحيى حقى فى روايته: قنديل أم هاشم. وأم هاشم هو الاسم الشعبى الذى يطلقه العامة على السيدة زينب.
والرواية حولت لفيلم سينمائى شهير. وطبعت طبعات كثيرة. والكل يعرف أن الرواية عن الحى الذى يوجد فيه مقام الست أم هاشم.
يجمع بينهما أيضاً اشتغالهما بالقضاء. فقد عمل توفيق الحكيم، وكيلاً للنائب العام فى النيابة. بل وكتب رواية. ربما كانت من أجمل رواياته من وجهة نظرى. هى رواية: يوميات نائب فى الأرياف. التى تحولت لفيلم سينمائى بديع نافس النص الروائى فى جماله. عندما كانت لدينا سينما وصناعة للسينما. وكانوا يقولون عن القاهرة أنها هوليود الشرق.
لم يعملا بالقضاء فقط. لكن هذا العمل انعكس على إبداعاتهما الأدبية. رغم أن كليهما عمل فى القضاء فى فترة شبابه الأولى. ثم انصرفا إلى أعمال أخرى. توفيق الحكيم سافر إلى فرنسا وعاد ليحترف الكتابة. وكتب عن مرحلته الفرنسية كتابه"عصفور من الشرق".
أما يحيى حقى، فقد تصادفت تجربته مع القضاء عندما كان فى الصعيد. وله مجموعة قصصية مبكرة جداً عنوانها"دماء وطين"، فيها الكثير من تجليات عمله فى القضاء. رغم أنه لم يكن يسهب فى الكلام عن هذا الأمر.
وهو من المعروف أنه من الأدباء الذين يمكن وصفهم "بالمقلين" فى الكتابة. ومع هذا ترك أثراً يجعله واحداً من رواد الكتابة المتقشفة. التى يلعب كل حرف فيها دوره قبل أن تكون الكلمة. أثبت يحيى حقى بسلوكه وليس بكلامه أنه ليس مهماً كم ما يكتبه الكاتب. بقدر ما يهم نوعية هذه الكتابة.
ذهبت إلى توفيق الحكيم مدفوعاً بسببين. الأول أنه بلدياتى. قالوا لى أنه من أبناء البحيرة التى جئت منها. والثانى لأنه أحد رواد الكتابة الأدبية فى مصر. لم يكتب المسرح قبله إلا محمد تيمور. وأبناء جيله. أما توفيق الحكيم فهو الذى كان المسرح جزءاً من حياته. أيضاً فهو يعتبر من رواد كتابة القصة والرواية فى أدبنا العربى الحديث. ومن يعد إلى تواريخ نشر أعماله الأولى. سيدرك الدور الذى لعبه توفيق الحكيم فى نشأة القصة والرواية فى الأدب العربى الحديث.
لا أدعى أنه كان كثير الكلام عن مرحلة عمله فى النيابة. حتى إن طرحت السؤال عليه. يحاول أن يبدو أنه متعب من التذكر. ويكفيه أنه كتب يوميات نائب فى الأرياف. وغيرها من المقالات والخواطر التى تدور كلها حول أديب جلس على مقعد القضاء. كان يبدو أسهل من السهولة وأبسط من البساطة. لكن عندما تقترب من موضوع الكتابة والأدب. تكتشف أن ثمة طبقات فى شخصيته قد لا تستطيع الوصول إليها جميعاً.
أما يحيى حقى، الذى صحبته ذات صباح من بيته فى مصر الجديدة. إلى ميدان السيدة زينب. من أجل أن أجرى حواراً مصوراً معه. فقط كان حكاء من الطراز الأول. عندما يبدأ الحكاية كان لسانه يتدفق بعذوبة نادرة. ولأننا كنا نقول عنه - من وراء ظهره طبعاً – أن له أصولاً غير مصرية. إلا أنه كان يتعمد استخدام العامية المصرية بطريقة لم يسبقها إليه أحد من قبل.
هو الذى اختار ميدان السيدة زينب، وهو الذى قضى نهاراً كاملاً يسترجع ذكرياته. وأصر أن يذهب إلى المكان الذى عاش فيه خلف المسجد. وأن يقف فيه طويلاً. وأن يحاول التحدث إلى الناس الذين كانوا هناك. وربما لم يعرفوا من الذى يريد أن يتحدث إليهم.
ذهبت إلى توفيق الحكيم فى الأهرام. كان يمسك بصحيفة فرنسية بيده اليمنى. وعدسة مكبرة فى يده اليسرى ويضعها فوق الكلام الذى يريد قراءته. وهذا الكلام لم يكن يتعدى العناوين الكبيرة فى الصفحة الأولى. كان مستغرقاً فى هذه العملية لدرجة أنه لم يشعر بى لحظة دخولى عليه. كان بمفرده. واضطررت أن أكح بصوت عالٍ حتى ينتبه لوجودى.
وما أن سمع توفيق الحكيم كلامى حتى سرح من جديد. كان قد وضع الجريدة والعدسة جانباً. أفاق من غنوته. كان كالعائد من رحلة بعيدة. قال لى أنه فعلاً من عزبة الحكيم بقرية الأبعادية بالقرب من مدينة دمنهور عاصمة البحيرة. وإن كانت صلته بالغربة قد انقطعت منذ سنوات.
ثم عاد إلى شروده من جديد. كان أمامه فنجان قهوة به بعض البقايا. وتأكدت لحظتها من نجله. لأنه لم يعزم علىِّ بشىء. مع أننى بلدياته من البحيرة.
قررت الذهاب حتى أخلى مسئوليتى تجاه روايتى التى رفضت كل دور النشر طباعتها. لأننى لم أستطع الحصول على تأشيرة من الرقابة. وظل هذا الموقف سارياً حتى جازفت ونشرتها على حسابى. ولكن تلك قصة أخرى.
ذهبت إليه فى شقته التى تطل على النيل بجاردن سيتى. بعد أن قدم له المسرح القومى مسرحيته عن شهر زاد.
وكلمنى – كعادته – بتدفق عن المسرحية والعرض. وعندما مرض مرضه الأخير. ونزل فى المركز الطبى للمقاولون العرب. وهو قريب من بيتى فى مدينة نصر ذهبت إليه ذات مساء. كان يلبس جلباباً مقلماً. ذكرنى بأبطال عودة الروح خاصة محسن الذى أعتقد أنه الحكيم نفسه. وكانت فوق رأسه طاقية وفى يده العصا. عصا الحكيم.
هذه الزيارة تحولت إلى عدد كبير من الزيارات بعد ذلك بناء على طلبه. وقد وجدتنى أمام توفيق الحكيم آخر. لا يمت بأية صلة إلى الحكيم الأول الذى عرفته فى مكتبه بالأهرام. كان ينطق بلغة أقرب إلى لهجة أبناء البحيرة من الفلاحين الذين لم يغادروا القرية أبداً.
كان رجلاً حلو الحديث. جميل العشرة. وكانت لديه رغبة فى الثرثرة الحرة. ينتقل من موضوع إلى آخر. وكنت أذهب إليه فى الغروب لحظة عودتى من العمل إلى البيت. وكان يحكى لى أخباره خلال اليوم وكنت أحكى له أخبار مصر والقاهرة.
فى الزيارة الأخيرة التى سبقت الوفاة سمعته يوصى من حوله بأن يدفن فى الإسكندرية. تحدث عن التفاصيل. قال أنه يفضل أن يخرج من بيته وأن تقام صلاة الجنازة فى عمر مكرم. الذى كان يمر عليه يومياً مرتين. فى الذهاب إلى الأهرام والعودة منه.
لم يكتب أياً منهما مذكراته الشخصية. حتى أتوقف الآن أمام تجربة النيابة والقضاء عندما تتم الكتابة عنها بصورة مباشرة بعيداً عن ضرورات الفن.