رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


علي عبد المنعم يكتب: النشرُ مِهنةٌ أم صناعةٌ؟ نحو مشروعٍ حضاريٍّ مصريٍّ

18-10-2020 | 23:42


بقلم علي عبد المنعم

رئيس لجنة التطوير المهني والنشر الإلكتروني باتحاد الناشرين المصريين



يعود أصل كلمة الصناعة إلى كلمة لاتينية تعني الاجتهاد، أو العمل الصعب. ووفقًا لقاموس كامبردج، تُعَرَّف الصناعة بأنّها عبارة عن مجموعة الشركات والعمليات المعنية بإنتاج السلع من أجل بيعها. ويمكن أن نصنف عمليات صناعة النشر بأنها ضمن مجموعة الصناعات الثانوية، وهي عبارة عن مرحلة تصنيع المواد الخام التي توفرت من خلال الصناعات الأولية، ومعالجتها، ثُمّ تحويلها إلى سلع استهلاكية ومنتجات. إذنْ، فمن خلال التعريف السابق لمفهوم الصناعة، يمكننا اعتبار النشر صناعة. ولكن النشر في مصر - للأسف الشديد - لا يُعَدُّ صناعة، وإنما يتم التعامل معه على أنه مهنة أو حرفة، وهذا لا يُعَدُّ عيبًا أو عوارًا في عملية النشر ذاتها، وإنما في رؤيتنا ونظرتنا وتعاملاتنا - نحن جميعًا - مع مُدخلات ومُخرجات وأصحاب المصالح في هذه الصناعة العظيمة. 

فلا يوجد احترام لقوانين الملكية الفكرية، ولا توجد رغبة صادقة في تطوير هذه القوانين والتشريعات، ولا توجد إحصائيات دقيقة ورسمية عن حركة النشر والمكتبات، ولا توجد رغبة صادقة في "أتمتة" مُدخلات هذه الصناعة بشكلٍ يتماشى مع متطلبات العصر الحديث ومتغيراته، ولا يوجد جامعة واحدة تقوم بتخريج دفعات متخصصة في صناعة النشر بشكل احترافي. دعونا نقولها صراحةً بأن النشر والثقافة ليسا ضمن أولويات الدولة في المرحلة السابقة والحالية، لذلك سنحاول أن نتناول هذا الأمر بالتفصيل في مجموعة مقالات متتالية، سيكون هدفها الرئيس هو تعريف صناعة النشر بمفهومها القديم والحديث، ودورها المهم والحيوي في بناء اقتصاديات الدول كأحد ركائز الصناعات الإبداعية، والمُلهم الأول للقوى الناعمة للحكومات الذكية، على أمل أن يكون نصيب قطاع الثقافة والنشر في المستقبل القريب ضمن أهم أولويات الحكومة المصرية.


مقدمة تعريفية عن صناعة النشر

يُعَرَّف النشر بأنه جميع الإجراءات الفكرية والفنية والعملية، لاختيار موضوع الكتاب وترتيب إصداره وتنمية توزيعه، بكافة الوسائل والأشكال المُتاحة حاليًّا، والمتطورة مستقبليًّا، حيث يقوم الناشر بإتمام إعداد المخطوطة إعدادًا سليمًا، وإخراج الكتاب إخراجًا مُتقنًا، ومحاسبة أصحاب الحقوق حسابًا عادلًا، ومن ثم تسليم الكتاب مطبوعًا إلى مكتبات البيع والتوزيع. ويتحمل الناشر مسئولية التمويل، فهو من يدفع الأموال للمؤلف والمترجم والفنان والمحرر والمصمم والمطبعة ومصانع الورق وغيرهم، من أجل إنتاج الكتاب. ويجب أن تتأطر هذه العمليات كلها برؤية ثقافية فكرية للناشر، تجعل من كتبه تعبيرًا عن مشروع ثقافي خاص بدار نشره، يسهم من خلالها بتنمية مجتمعه في مختلف المجالات. ومع ظهور التكنولوجيا الرقمية ونظم المعلومات والإنترنت في نطاق النشر، توسع هذا المفهوم ليشمل الموارد الإليكترونية، مثل النسخ الإليكترونية المقروءة والتّفاعلية والمسموعة من الكتب والدوريات، وأيضًا المواقع الإليكترونية وألعاب الفيديو.

وتُعتبر صناعة النشر هي محور وقلب معظم الصناعات الإبداعية الثقافية، وهي عملية ذات أهمية بالغة في الحياة التّعليمية والثّقافية. وكما يُقاس تقدم الدّول وشعوبها بتقدمها العلمي والتكنولوجي وارتفاع مستوى دخل الفرد، فهو أيضًا يُقاس بحجم استهلاكها للورق، فهذا الاستهلاك مؤشرٌ رئيسٌ لأهمية الثقافة والقراءة في المجتمعات المتقدمة، حيث يتمتع الفرد بمُنْتَج ثقافته وثقافة الآخرين من فكر وفن. فالثقافة بالمعنى العام هي المكون الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والأخلاق والقانون والفنون والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان وتتطور معه باعتباره عضوًا في المجتمع، لذا فإن الثقافة هي العامل الرئيس في تقدم الشعوب ورقيها. ويُعَدُّ الكتاب الوسيلة الأولى لاكتساب الثقافة والتّعلم، بل هو الوعاء الجامع والشامل لكل مكونات الثقافة، لأن فكر وإبداع الإنسان ينتقل – عبر الكتاب – إلى أخيه الإنسان، وعلى مدى التاريخ أصبح الكتاب هو الوعاء الأهم لحضارات أفلت، ولم نكن لنعرف عنها شيئًا لولا تدوينها على الجدران والورق.

واليوم بات إنتاج الكتب صناعةً قائمةً بحد ذاتها، ترتكز على العديد من المرتكزات، لكن يمكننا حصر أهمها في ثلاث مراحل رئيسة، يشترك فيها خمسة أطراف على النحو التالي:

1- التأليف: وهي المرحلة الأولى التي يقوم بها المؤلف المبدع، سواء أكان مُؤلفًا طبيعيًّا أم معنويًّا، وهو المسئول عن المحتوى والمادة العلمية.

2- الإنتاج: وهي المرحلة الثانية، وفيها يتم تحويل أو صناعة المحتوى أو المادة العلمية للمؤلف إلى مُنْتَج مادي قابل للتداول بين الجمهور المستهلك على شكل نسخ متعددة، سواء كانت مطبوعة أو إليكترونية. وهذه المرحلة تشمل عددًا من المراحل الداخلية، كمراحل الرسم أو الترجمة أو التحرير أو التدقيق اللغوي والتصميم الداخلي، وكذلك تصميم الغلاف الخارجي للكتاب.

3- التوزيع: وهي المرحلة التي يقوم بها بائع الكتب أو الموزع، وتهدف إلى توصيل النسخ المُنْتَجَة إلى المستهلكين، أو إلى السوق المتاحة للكتاب، ألا وهي "المكتبات والأفراد"، بكافة الأشكال التقليدية والإليكترونية الحديثة.

وهذه المراحل الثلاث تتكامل فيما بينها لتشكل ما يُعرف بصناعة النشر، ولا يمكن لأية مرحلة منها أن تكون قائمة بذاتها أو مستقلة عن المرحلتين الأخريين.

وبالنظر إلى مراحل النشر الثلاث سنجد هناك أربعة أطراف "المؤلف - الطابع أو المُنْتِج - الموزع أو بائع الكتب - القارئ أو المستهلك"، لا توجد بينهم علاقة عمل مباشرة، لذلك دعت الضرورة إلى وجود طرف خامس يجمع بين هذه الأطراف الأربعة، ليدير العلاقة بينهم، وهذا هو "الناشر".

تعريف الناشر

ويُعَرَّف الناشر - أو دار النشر - بأنه الشخص أو المؤسسة الذي يقوم بإعداد وإصدار وطبع وتوزيع الكتب أو المجلات والصحف، بكافة أشكال ووسائل النشر المتاحة والمستقبلية، ويتحمل أيضًا مسئولية التمويل المالي، إلى جانب تحمل مخاطر النشر، كما إنه هو المسئول عن إدارة عملية النشر بين أطراف الصناعة وأصحاب المصالح المرتبطة بها، وهم "المؤلف والطابع والموزع والقارئ".

وكما ذكرنا سابقًا بأن صناعة النشر هي محور وقلب معظم الصناعات الإبداعية الثقافية، فإن جميع مؤشرات التنمية العالمية تشير إلى تعاظُم دور الصناعات الإبداعية في تنويع مصادر الدخل القومي وزيادة النمو الاقتصادي للدول، وتُقدر عائدات الصناعات الإبداعية على المستوى العالمي بنحو ما يقرب من (2.2) تريليون دولار أمريكي، وتساهم بنسبة 7.5% من إجمالى الناتج القومي العالمي. 

وفي الولايات المتحدة تمثل الصناعات الإبداعية في بداية الألفية الثالثة ما يقارب (7.75%) من إجمالي الناتج المحلي، كما تساهم في توفير ما يعادل (6%) من فرص العمل على المستوى القومي، كما يمثل عائد صادراتها ما يزيد على (88) بليون دولار في المتوسط. وفي عام (2001) قُدِّرَ صافي عوائد صناعة «حقوق النشر» الأمريكية بنحو (791) بليون دولار، وهو ما يعادل (7.8%) من إجمالى الدخل القومي، ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـ 8 ملايين عامل.

وفي المملكة المتحدة بلغ عائد الصناعات الإبداعية في عام (2002) ما يساوي (112) بليون جنيه إسترليني، وهي توفر نحو (1.3) مليون فرصة عمل، وتُسهم بمقدار عشرة بلايين جنيه إسترليني في حجم الصادرات، وتُشكل نحو (5%) من إجمالي الناتج المحلي. وعلى سبيل المثال، تُنافس الصناعات الإبداعية في لندن الخدمات المالية وخدمات الأعمال من حيثُ مساهمتها في الدخل القومي، حيثُ تستوعب طاقة عمل تصل إلى مليون نسمة من سكان لندن. وتُقدر عوائد الصناعات الإبداعية بأستراليا بنحو (25) بليون دولار أسترالي، كما بلغ معدل نموها السنوي ضعف معدل نمو الاقتصاد ككُل.

نخلص مما سبق إلى أن مفهوم الصناعات الإبداعية في الألفية الثالثة مرتبط بشكل كبير بالقوى الناعمة للدول، ويعتبر أحد أهم الأعمدة التي ترتكز عليها الدول المتقدمة في دعم جهود التنمية المستدامة، وفي تحقيق الارتقاء بمعدلات الأداء الاقتصادي. ويبقى السؤال: هل تعود مصر إلى دورها الفاعل والمؤثر على مستوى الدول العربية والإفريقية فيما يخص الاهتمام بقوتها الناعمة مرة أخرى، والتي تتمثل في صناعاتها الإبداعية، بهدف المساهمة فى تعزيز وتحقيق الاستراتيجية الخاصة بالدولة لرؤية (2030)؟ وهل ستستطيع مصر أن تواكِب الدور العالمى المتنامي للصناعات الإبداعية؟ أم ستستمر فى اتباع سياسات تقليدية لا تتماشى مع المناخ الاقتصادي العالمي، والخصائص المميزة لمجتمعات عصر الإنترنت والمعرفة والأهمية المتزايدة للصناعات الإبداعية؟ وأخيرًا هل تتنبه وزارة الثقافة إلى دورها المهم فى هذا المجال؟.

وللحديث بقية.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 يونيه ويوليو 2020