فارس يمتطي صهوة جواد البلاغة.. يحلق بجناحي الخيال والجمال.. يطوف حدائق الشعر.. يقطف ثمار المعاني المبهرة.. يصنع منها عقدا من اللآلئ النادرة.. يزدان به جيد النغمات الساحرة.. عبقري خضعت له كل المعادلات الصعبة فانصهرت في بوتقة مواهبه مقادير الكم والكيف.. لتصنع كوكتيل مواهب يجمع كل سمات التجديد والتجويد.. تلين الكلمات الخشنة تحت سن قلمه.. لتصبح نسمات من المعاني البكر.. إنه شاعر الألف أغنية مرسي جميل عزيز.. الذي امتلك شخصية إبداعية مترامية الأطراف.. يصعب بل يستحيل الإلمام بكل معالمها.. كما امتلك عبقرية التلقي لتصبح عبقرية الإنتاج سمة من سمات كل إبداعاته.. وهي الأخرى أكثر من أن تحصى.. لتجعل منه ظاهرة أدبية وفنية متفردة.
ولد مرسي جميل عزيز في مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية.. في التاسع من يونيو1921..
وكان والده يعمل تاجر فاكهة.. ومثل غالبية أبناء المصريين أرسل ابنه إلى الكتاب ليحفظ ويدرس القرآن الكريم..
ولكن نداهة الشعر قررت أن تستحوذ على هذا الطفل الموهوب..فاندفع بحماس شديد وغريب لقراءة الشعر العامي والفصيح..
فقرأ أشعار إمام العامية الأكبر بيرم التونسي.. وقرأ المعلقات السبع ليتعلق بأشعار امرؤ القيس وعنترة ابن شداد.
عمل مع والده في شادر الفاكهة إلى جانب الدراسة..
ومن المؤكد أن الأشكال والألوان والمذاقات المختلفة لأنواع الفاكهة.. قد دفعته إلى التأمل والتفكير..
وشحن العقل والوجدان بأفكار ورؤى مختلفة.. وساعد في ازدياد هذا الشحن.. الاحتكاك والتعامل مع الناس في سن مبكرة.. لتزداد حصيلته من الخبرات والمفردات الغريبة التي تتردد على ألسنة الفلاحين والفكاهنية.. فوجد نفسه يكتب أول قصيدة في حياته وهو في الثانية عشرة من عمره.. وكانت قصيدة رثاء في أستاذه الذي رحل عن دنيانا.. وإذا كانت حصيلته اللغوية من قراءة المعلقات السبع قد وضعته على بداية طريق الشعر الفصيح..فقد دفعته خبراته الحياتية الكثيرة والمتنوعة من خلال التعامل مع الفلاحين والفكاهنية..بنداءاتهم ومفرداتهم التي تتسم بالبكارة والابتكار.. إلى التحليق في فضاءات الشعر الغنائي.. الذي لم يكتبه ليكون حبيس الأوراق والأدراج.. ولكنه انطلق سريعاً ومبكرا إلى الإذاعة..لتذاع أول أغنية له وهو في سن الثامنة عشرة من عمره.. وتحديداً في عام
1939.. وكانت الأغنية بعنوان الفراشة من تلحين الموسيقار رياض السنباطي.. وفي العام نفسه اشتهر اسمه بعد إذاعة أغنية يامزوق يا ورد في عود.. للمطرب الأشهر في ذلك الوقت عبدالعزيز محمود.. والذي كانت أجندة مواعيده هي التي تحدد مواعيد الأفراح للمقبلين على الزواج.
رغم الحصار الشديد لنداهة الشعر إلا أن الفتى الموهوب كان متفوقا في دراسته..بل كان نهما للعلم والدراسة..ولايشبع من تحصيل العلم.. حيث حصل على البكالوريا/الثانوية العامة/ من مدرسة الزقازيق الثانوية في عام 1940 ليلتحق بكلية الحقوق..وليمارس كل الأنشطة الأدبية والفنية.. وليصبح رئيسا وعضوا في عدة جماعات أهمها الشعر والأدب والتصوير والموسيقى والتمثيل والرحلات..وكأن اليوم لديه قد استطالت ساعاته لتصبح 240 ساعة.. وليست فقط 24 ساعة. ورغم تميزه في كتابة الشعر الفصيح والغنائي إلا أنه لم يكتف بهذه الموهبة المتدفقة..فراح يدرس اللغة العربية والشعر والأدب والتراثين العربي والعالمي القديم والحديث.. دراسة أكاديمية تضم الأصول والنظريات والقواعد..كما التحق بمعهد السينما وكان الأول على دفعته.. وحصل على دبلوم في فن كتابة السيناريو عام 1963
.
وكان كل من يعرف مرسي جميل عزيز يتساءل كيف ومتى يستطيع ممارسة كل هذه الأنشطة..بكل هذه المقدرة من الإتقان والجودة. وكانت علاقة مرسي جميل عزيز بالسينما قد بدأت مبكرا... وتحديداً في عام 1949 عندما كتب أغاني فيلم مبروك عليكي وضمت مسيرته الحافلة كتابة أغاني 25 فيلما منها حكاية حب وأنا وبناتي والمرأة المجهولة وأحبك يا حسن وأدهم الشرقاوي والشموع السوداء ويوم بلا غد..وكان آخر الأفلام التي كتب لها الأغاني فيلم مولد يا دنيا عام
1976. مع بداية الخمسينات من القرن الماضي..وقيام ثورة يوليو 1952 ببث روح جديدة في كل أرجاء مصر والوطن العربي.. كان من أهم تجلياتها مولد/المثلث الذهبي/ للأغنية المصرية..من خلال مجموعة من شباب الموهوبين في الموسيقى والغناء والشعر.. وكان لابد وأن يمثل مرسي جميل عزيز أحد الركائز المهمة في/ضلع الشعر/ داخل هذا المثلث الذهبي.. ولذلك شارك وبقوة مع عبدالحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة وشادية ومحرم فؤاد... إلخ من الأصوات الجميلة.. كما شارك وبقوة مع بليغ حمدى ومحمد الموجي وكمال الطويل.. وغيرهم من أصحاب المواهب الموسيقية الكبيرة....وكتب مرسي جميل عزيز 35 أغنية للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ.. بداية من مالي ومالك وبعدها العديد من الأغاني الشهيرة ومنها يا أبوقلب خالي ونعم يا حبيبي نعم وبأمر الحب وياخلي القلب وبتلوموني ليه و في يوم في شهر في سنة.. وغيرها من أغاني عبدالحليم الجميلة.
وكان مرسي جميل عزيز من أكثر المؤمنين بالصوت العبقري لكروان الشرق فايزة أحمد...فكتب لها الكثير من أغنياتها الأولى عند مجيئها إلى مصر..مثل ليه يا قلبي ليه وتمر حنة وبيت العز ويامه القمر ع الباب..وتحولت أغنية يا مه القمر ع الباب من مجرد أغنية جميلة إلى ثورة اجتماعية..حيث كانت تقام لها السرادقات لتذاع على الناس..حيث آمنت ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر بحرية المرأة وحقوقها.. وجاءت هذه الأغنية لتؤكد هذا الإيمان..ففي الكوبليه الأخير يقول مرسي جميل عزيز..يامه القمر ع الباب...خبط وقال يا
أحباب...ردوا علي الخطاب.. معدش فيها كسوف.. يا مه اعملي معروف... قومي افتحي له الباب..ولا أناديله..وهذه الجرأة على لسان الفتاة المصرية في منتصف الخمسينات كانت ثورة حقيقية.. واستطاع مرسي جميل عزيز من خلال هذه الأغنية الجميلة أن يعبر بشكل فني شديد الرقي والإمتاع عن مبادئ ثورة يوليو وموقفها من المرأة المصرية. وكان مرسي جميل عزيز داعماً لكل المواهب الحقيقية.. ولذلك ساند محرم فؤاد في بداياته..وكتب له أغاني فيلمه الأول مع سعاد حسني/حسن ونعيمة/..وقدم بعد ذلك العديد من الأغنيات لمحرم فؤاد ومن أشهرها الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة..كما قدم العديد من الأغنيات لصوت مصر الأصيل شادية ومنها على عش الحب و وحياة عينيك.. واستطاع مرسي جميل عزيز بأغنياته التي زادت عن الألف أن يتعامل مع كل الأصوات الجميلة.. وأن يمنح لكل صوت ما يناسبه من أغنيات.. ولذلك نشعر بمذاقات مختلفة عندما نستمع إلى أغنياته يشدو بها أصوات فريد الأطرش ونجاة وصباح و وردة ومحمد قنديل وهاني شاكر ومحمد ثروت... إلخ..كما أنه الشاعر المصري المعاصر الوحيد الذي غنت له فيروز قصيدته سوف أحيا.. وقد سجلتها في إحدى زياراتها مع الرحبانية للقاهرة.
ورغم تميز وتفوق وانتشار مرسي جميل عزيز إلا أن/الوسام الأكبر/ كان لدى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.. وقد استراح عبدالوهاب لكلمات الشاعر حسين السيد..وهو من جيل مرسي جميل عزيز..ثم اعتزل الغناء تماماً منتصف الستينات..ليظل الوسام الأكبر عند أم كلثوم..ومن خلال العبقري بليغ حمدى التقى شاعر الألف أغنية مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم في ثلاثية رائعة هي فات المعاد وألف ليلة وليلة وسيرة الحب..وفي أغنية فات المعاد تحدى مرسي جميل عزيز نفسه..وتحدى كل الشعراء الذين كتبوا للسيدة أم كلثوم.. واستطاع تقديم أغنية شديدة التفرد...ويكفيه الكوبليه الذي يقول فيه.....الليل ودقت الساعات تصحي الليل...وحرقة الآهات في عز الليل...وقسوة التنهيد....والوحدة والتسهييد...لسة ماهمش بعيد....وعايزنا نرجع زي زمان....قول للزمان ارجع يا زمان...وهاتلي قلب لا داب ولا حب..ولا شاف حرمان......وفي هذا المقطع استخدم عزيز مفردة من قاع قاع العامية المصرية وهي ماهمش...وهي مفردة تفيد النفي ولكنها شديدة التعبير والتجسيد للمعاني التي يبثها في هذه الأغنية.. ورغم أن السيدة أم كلثوم كانت كثيرة الاعتراض على كثير من المفردات..سواء في الشعر الفصيح أو العامي وتطلب تغييرها.. إلا أنها لم تعترض على هذه المفردة الغريبة و العجيبة وغنتها بكل سلاسة...كما أن الكوبليه السابق من أغنية فات المعاد..يضيف إلى مستحيلات العرب الثلاثة الشهيرة/الغول والعنقاء والخل الوفي/ مستحيلاً رابعاً هو عودة الزمان والقلب الذي رسمه ببراعة مرسي جميل عزيز...وهاتلي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان.
ولأن مرسي جميل عزيز كان كوكتيل مواهب..فقد كتب كل أنواع الأغنية... العاطفية.. الدينية... الوطنية.. ومن أغنياته الوطنية قصيدة بلدي أحبك يا بلدي.. التي شدى بها محمد فوزي.. وأغنية بلدي يا بلدي لعبد الحليم حافظ.... كما كتب عزيز الأغنية الخفيفة مثل ضحك ولعب وجد وحب وأغنية ليه تشغل بالك ليه....كما كتب الأغنية ذات الأبعاد الإنسانية والفلسفية مثل غريبة منسية وأعز الناس وفي يوم في شهر في سنة ومن غير ليه....ولم يكتف بالتجديد والتجويد والتنوع في مجال الأغنية سواء أكانت شعرا فصيحا أم شعرا عاميا.. ولكنه انطلق ليكتب أيضا الأوبريت الغنائي والقصة القصيرة والقصة السينمائية وسيناريوهات بعض الأفلام والمقالات الأدبية في الصحف والمجلات.. ليؤكد أنه ظاهرة أدبية وفنية.. ورغم هذا العطاء شديد التميز والتفرد..إلا أن الشاعر الكبير مرسي جميل عزيز لم يحصل على ما يستحقه من تكريم أو دراسة..فرغم أنه كان ضمن القائمة الأولى من المفكرين والأدباء والفنانين..الذين كرمهم الزعيم جمال عبدالناصر..تلك القائمة التي ضمت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب و د طه حسين والشيخ مصطفى إسماعيل.. إلخ... حيث كرمهم عبدالناصر بالنياشين والأوسمة في عيد العلم عام 1965
... وحصل مرسي جميل عزيز على وسام الجمهورية للفنون والآداب... إلا أنه لم يحظ بعد ذلك بالتكريم الذي يليق بإبداعاته الكثيرة والمتنوعة.. وربما يعود ذلك إلى إصراره على الإقامة في مدينته الزقازيق بعيدا عن القاهرة بؤرة الأضواء والإعلام..وربما لاعتداده الشديد بذاته وإبداعه...ويتضح ذلك في تجربته الوحيدة مع عبدالوهاب من خلال أغنية من غير ليه حيث طلب حليم تلك الأغنية..وانتهى منها مرسي في عام 1974
..ليعترض حليم وعبدالوهاب على جملة بقت الدنيا غرام وانا جنبك..فغيرها مرسي إلى ولقيت روحي في أحضان قلبك...وكان قد أنهى كل كوبليه بجملة من غير ليه فطلب عبدالوهاب أن ينتهي كل كوبليه بجملة من غير ليه يا حبيبي بحبك..وطلب عبدالوهاب تغيير كلمة أخرى فغضب مرسي وترك الاجتماع التحضيري.. ولم يسأل عن الأغنية طوال عام 1975
... إلى أن استطاع حليم إزالة الخلاف...واستقر الثلاثة على الشكل النهائي للأغنية...وظل عبدالوهاب طوال عام 1976 يبدع في اللحن وعقد بروفات التحفيظ مع حليم..وتقرر أن يغنيها حليم في حفل ربيع 1977 وفجأة مرض مرضه الأخير..ؤسافر إلى لندن للعلاج.. وفجأة رحل عن دنيانا من دون أن يغني تلك الأغنية الرائعة..وبعد رحيله أصيب مرسي جميل عزيز بمرض خطير..ليسافر هو الآخر إلى أميركا للعلاج.. وعندما شعر أن المنية قد قربت..طلب العودة إلى مصر ليموت ويدفن في أرضها.... وبالفعل رحل عن دنيانا في التاسع من فبراير 1980 ولتطلق محافظة الشرقية اسمه على الشارع الذي كان يسكن فيه.
وظلت رائعة من غير ليه في أدراج الموسيقار محمد عبدالوهاب إلى أن أسعفه ذكاءه الخارق والذي صاحبه طوال حياته...وقرر إخراج تلك الرائعة من الأدراج ومعالجتها بالتقنيات الحديثة...وتقديمها وكأنه يغنيها لأول مرة..ولم يكن ما قدمه إلا إحدى البروفات التي كان يقوم خلالها تحفيظ حليم للحن... وبالفعل خرجت رائعة من غير ليه في عام 1989 لتصبح حدثا فنياً رائعا مازال صداه يتردد حتى الآن..ولتعبر كلماتها العميقة عن ذلك السؤال الوجودي الذي يطارد كل البشر...جايين الدنيا مانعرف ليه....ولا رايحين فين ولا عايزين إيه...مشاوير مرسومة لخطاوينا...نمشيها في غربة ليالينا...يوم تفرحنا ويوم تجرحنا....واحنا ولا احنا عارفين ليه