إذا ما أردت الحكم على أي شاعر يكتب بأي لغة سواء
بالفصحى أو العامية، أو حتى يكتب الزجل، فلابد من البحث عن شاعرية هذا الشاعر، ومفهوم
الشاعرية "معايشة الشاعر معايشة كاملة ومتلاصقة وبصدق لكل ما يخرج من قريحته"،
أى يعيش الحروف التى تخرج منه، فدرجة الصدق والأمانة الفنية هى التى تجعل ما يكتبه
الشاعر بأى لغة تصل وبسرعة إلى متلقيه، ويرسخ فى الوجدان ويردده المتلقى بينه وبين
نفسه من آن لآخر .
هناك عدد كبير من الشعراء الذين كتبوا الأغنية، والتى
تغنى بها المطربون سواء كانوا كبارا أو صغارا، ولكن الكلمات الراسخة والنائمة فى أذهان
المتلقى قليلة، ولكن يحتل الراحل مرسى جميل عزيز مكانة خاصة وبارزة فى تاريخ الأغنية،
ولن يكون السبب كثرة عدد الأغنيات التى خلفها وتعدت الألف أغنية، ولكن قيمة ما تركه
من أغنيات لا تزال كلماتها تتردد ويحفظها عدد كبير من المستمعين، وتلتصق وبسرعة في
وجدان المتلقى والمستمع.
قد يكون السبب المباشر فى ارتفاع شاعرية كلمات عزيز،
أنه كان يغمس حروفه من بئر صدق فنية شديدة، ومعايشة كاملة لكل حرف يخرج منه، وعندما
يلتقى هذا الصدق الفنى مع نغمات ملحن صادق وصوت مطرب حساس، نجد أننا أمام تراث من الأغنيات
الشاعرية شديدة الصدق، والتى لا تزال تدق بجدران القلوب عندما نستمع إليها من خلال
أصوات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد
الوهاب وشادية ووردة الجزائرية ومحرم فؤاد وغيرهم من المطربين، ولا يزال ما خلفه هذا
الشاعر العظيم من تراث غنائى يدق فى جدران وجداننا كلما نستمع لأى أغنية من
مؤلفاته.
لقد كان مرسى جميل عزيز، كما وصفوه، بأنه "جواهرجى
الأغنية المصرية"، وأهم ما يميز "الجواهرجي" قدرته على التميز ما بين
الزجاج والجواهر الأصلية، وأعتقد أن جميل لم يقدم للأغنية المصرية إلا الكلمات الأصلية،
فلا نجد فى الألف أغنية التى خلفها أى كلمات من الزجاج، بل كلها جواهر، وجواهر ثمينة،
ولو كان هناك المجال لضرب أمثلة على تلك الجواهر التى خلفها هذا الشاعر العظيم لاحتاج
الأمر إلى عدة مقالات.
وأعتقد أن ما يميز شاعرنا الراحل بتلك الشاعرة، قدرته
على إتقان وتذوق اللغة العربية الفصحى، وقراءاته الكثيرة فى تراثنا الشعرى العربى،
وما يؤكد على تلك الشاعرية قصيدته "سوف أحيا" التى شدت بها جارة القمر فيروز، وهو الشاعر المصرى الوحيد التى تغنت بكلماته فيروز،
ففى القصيدة موقف ساطع من الحياة، يؤكد محبته لها، وإصراره على أن يحيا كل لحظة فيها،
ما دام قلبه مفعماً بالحياة:
يَا رَفِيقِى نَحنُ مِنْ نُورٍ إِلَى نُورٍ مَضَينَا
وَمَعَ النَّجمِ ذَهـبنَا وَ مَعَ الشَّمسِ أَتَينَـا
أَينَ مَا يُدعَى ظَلامَاً، يَارَفيقَ اللَّيلِ أَينَ؟
إِنَّ نُـورَ اللهِ فِي القَلبِ وَهـَذَا مَا أَرَاهْ
سَوفَ أَحيَا .. سَوفَ أَحيَا
إلى أن يقول، والذى يكشف لنا قدرته الرائعة على الكاتبة
باللغة العربية الفصحى وبقصيدة غنائية رائعة، استطاعت فيروز أن تشدو بها .
ليسَ سِـرَّاً يَا رَفِـيقِى أَنَّ أَيَّامِى قَلِيلَـْة
لَيسَ سِـرّاً إِنَّمَا الأَيَّــامُ بَسْماتٌ طَويلَةْ
إِنْ أَردتَ السِّرَّ فَاسأَلْ عَنهُ أَزهَارَ الخَمِيلَةْ
عُـمرُهَا يَومٌ وَتَحيَا اليَومَ حَتَّى مُنتَهَـاهْ
سَوفَ أَحيَا .. سَوفَ أَحيَا
ولم تكن أغنية فيروز الوحيدة التى كتبت بالفصحى،
بل له أغنية غناها ولحنها محمد فوزى بعنوان (بلدي أحببتك يا بلدي حبا في الله وللأبد)
تقول كلماتها :
بلدي أحببتك يا بلدي حبا في الله وللأبد
فثراك الحر تراب أبيّ وسماكِ يزف صبا ولدي
وطني والله رعى وطني
حرا في الأهل وفي السكن
ماضٍ يختال على الزمن
وغد يزدان لبعد غدٍ
أهواك ضفافاً لم تزل مرعاً للحب وللغزل
أهواك ربيعاً كالأزل للعيش الحلو وللرغد
أحرارك عين لم تنم وهتاف الحر بغير فم
فزع للظلم وللظلم بلدي بيدي حررت يدي
كما غنى له عبد الحيم حافظ أغنية ( ياضنين الأمس) والتى قام بتلحينها كمال الطويل :
يا ضنين الأمس مرجو الغد
هل لدى الأيام لي من موعد
يصل المبعد بالمبتعد
كم غد أبليت حتى صار أمسا
وأخو اللهفة لا يعرف يأسا
كلما أفرغ كأسا صب كأسا
من مثيل الشوق جم المورد
كلما آذن فجر بشروق
يوقظ الآمال في قلبي المشوق
وأراني في طريق والطريق
ليس فيه غير جفن المسهد
يا بعيد الدار إلا في الظنون
بين جنبي على مر السنين
مجمع الأشواق موصول الحنين
يتلقاك بظن لا يد
يا لها من قدرة شاعرية رائعة من شاعر شق فى وجداننا
نهرا وجدولا يحمله اسمه، ولا تزال المياه سارية ومتدفقة به رغم السنوات الأربعين على
رحيله عن عالمنا.