رماد الذات.. بارود الحرب .. في مدن بطعم البارود للروائية الفلسطينية بشرى أبو شرار
انطلاقا من خطاب روائي نسوي تواجه به الذات الساردة
"وردة" لرواية "مدن بطعم البارود للكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار،
بعد عدة مؤلفات سردية غاصت فيها في أعماق قضية وطنها المغتصب، وتتواصل به مع
العالم كله، وتواجهه من خلال شاشة حاسوب، رغما عن تلك الجغرافيا البغيضة التي جعلت
بين الذات والآخرين من ذات الجلدة، هذه الأسلاك والأشواك والعوائق والصراعات، وهذه
الهُوة السحيقة على المستويين المادي والمعنوي على حد السواء..
تلك التي تشتعل حتى تجعل هذا الجسد الكبير للوطن الذي
تفرق، نهبا للحرب بمسمياتها المعلنة وغير المعلنة، وكي يتحول إلى "مدن من
بارود" أو مدن من نار ينفجر فتيلها في أي لحظة من اللحظات.. هذا التشرذم الذي
أصاب الكينونة الجمعية، وجعلها دائما على محك الانفجار وعلى شفا حفرة من النار:
منشغلة بهذا الأمر أم متغافلة عنه؛ ما يضع المفارقة التي تصنعها فكرة النص الروائي
متماهية مع تلك الحالة الإنسانية القائمة على خلفية حالة لا إنسانية ومن خلال فضاء
سيبراني، افتراضي/ لا واقعي.. ربما وصل ما انقطع وأعاد بعض الأمور ولو قليلا إلى
حلم الوحدة الإنسانية لا الجغرافية، لينتج هذا النوع من التواصل/ الحوارات
الإنسانية التي تعيد صياغة سرد الحكاية، وتحاول لم ما اندثر.
فهل هو سؤال الذات؟.. أم سؤال الوجود الذي يلوح منذ تلك
البداية المقتحمة والموغلة في مناطق الشعور ووطأة الإحساس بالاستلاب والقهر التي
تعاني منها الساردة، وتسقطها على المستوى العام لواقع مجبول على الخوف وشعور
الانهزام المرير، قرعا لجرس كبير قد يصم الآذان أو ينبهها على حد السواء.. ما يفتح
الباب على مصراعيه لهذا العصف الشعوري الذي يتكئ عليه النص الروائي من أوله لآخره
مع كل الأطياف التي يواجهها خطر الحرب في بقاع متفرقة من جسد الأمة، وصراعاتها
وفعالياتها بأشكالها المتعددة، والتي تقع تحت نيرها لتصير كل المدن دون تحديد هي
مدن بطعم البارود، أو بالأحرى بطعم الحرب..
رماد الذات
"كل ما حولي ينداح إلى
رماد.. توارت الحقائق خلف اللا شيء.. ماتت الحكاية.. مات اللون... غابت اللوحة..
أستقبل يومي بوحشة الصمت, هل تغلق الدائرة وتحكم الغلق حيث بداية تصير إلى نهاية؟..
في طفولتي كنت أغرق في بحر الصمت, وها أنا ذا على حافة الأفول يكبر الصمت في قلبي
وروحي, يطبق على مخارج الحروف, يصير صمتي بداية لنهايات تتجدد في قلبي مع طول كل
نهار جديد..
يتقاطع رماد الذات لدى الساردة مع رماد الحرب ورماد
الذاكرة، حيث يتداخل بوح الذات المقهورة المنحبسة على أطلال قضية حربها من أجل
استعادة وطن.. التي ترتد معها إلى ذكريات طفولتها البعيدة وشبابها القريب وحاضرها
الأكثر تشوشا، من خلال معايير جديدة وإحداثيات جديدة للوجود وآليات التعامل معه،
لتمضي حكاياتها جنبا إلى جنب مع إيقاع الحرب، تزامنا مع أنات آخرين يشاركونها
الحياة تستدعيهم الذاكرة المثقلة كي تعقد جدل العلاقة بين الموت والحياة، والغياب
والحضور، لتتشكل تلك العلاقات من خلال المدن البعيدة التي ترتحل إليها الساردة من
خلال وعيها، ومن خلال هذا الفضاء الجديد كي تسبر غور العلاقات المبهمة، وتعيد تشكيل
الحكايات، ومحاولة بعثها من جديد كي تبعث النفس من حالة الموات التي تعتريها،
والتي تسقطها أيضا على الحالة العامة التي تعاني ذات الأزمة..
هي إذن إشكالية ارتباط الذاتي بالجمعي، ذلك الذي يجعل من
التواصل بين تلك الذوات التي تمثل كل منها جمعًا يمثل جزءًا من الجمع الأكبر
لماهية وطن أكبر هو الحالة التي يبحث عنها النص كغاية من غاياته، وكتجسيد لعامل
مفتقد من عوامل الوحدة، التي ربما تحولت من وحدة جمعية إلى وحدة نفسية تجتاح الذات
المفردة وتدخلها في مواتها القسري..
"ومن المدن الغائبة
حيث هناك، حيث أطراف الخليج.. يكتب لي قلب لم يلوثه دخان المدن: "صباحك من
نور القرنفل وبهاء الأوركيد.. دمت عطرة كعادتك.. عطرة بالنور والدفء.." قلب يراني من مدن المنافي البعيدة.. كدتني أنا
المرأة الوردة.. المرأة العطرة بالنور والدفء.. قد أكون هي، وقد تكون أنا.."
يتقاطع هذا المد الإنساني، وهذه الشبكة العريضة من
التفاعلات الإنسانية التي تنتج هذا العصف سواء من خلال الذاكرة والتاريخ والتراث،
أو من خلال تلك الشبكة العنكبوتية التي جعلت من العالم كله رقعة صغيرة من اليابس،
وأججت هذا التشظي والتفتت الذي يسم كل شيء بالعالم برغم اكتنازه بهذه السرعة
التكنولوجية القاتلة التي جعلت من المستحيل متاحا وممكنا، ولكنها تنقل تلك
التوترات المتصاعدة بحدتها الجنونية الغاشمة التي تعصف بالعقل كما تعصف بالثابت،
والمتغير في هذا العالم على حد السواء..
لكن الذات تبرز هنا بحسها المتفاعل الذي يمد لها اليد كي
تخرج من وحدتها النفسية لتتحول في فضاء الحالة إلى حالة مجازية هي حالة التماهي مع
الوردة التي ربما استقت الرواية/ الذات الساردة اسمها من معناها المعنوي قبل
اللفظي لتشيع في هذا الفضاء روحا من الملل بالتعانق مع الطبيعة التي تفرض طقوس حضورها
برغم حضور كل مفردات الحرب:
""إلهام"
صديقتي لها أمنية وحيدة أن نلتقي بعد أن ينفك عن مدينتها الحصار, وأنا ألتقي كل
يوم وجوها تطالعني بابتسامة أعرفها.. أحبها.. ولن ولم ألتق بها, فهل لي معك يا "إلهام"
لقاء جديد حين يغيب الحصار وتشرق شمس لا تشبهها أي شمس.. شمس الانتصار..
ذلك الذي يتقاطع معه وعي الساردة بتاريخها المرتبط
بطفولة تشغل الحرب مساحاتها العريضة تلك التي تستدعيها من خلال علاقة حميمية
نوستالجية إلى ذكرى الوالد المناضل القديم المرتبطة بذاك المد التفاعلي لفعل
الثورة على الأوضاع المتردية التي يعيشها الوطن المغتصب.. تلك الطفولة الموشومة
بأجواء الحرب وآمال الانتصار، وتلك الرائحة المستقرة في الذاكرة المتخمة بصور
الحرب، وتداعياتها، وسمة التوارث الإنساني كملمح يطرح تأكيدا مجددا على الحرب
ببشاعتها وحسها الملتصق بالذات من خلال الآخرين:
"أذكرك يا أبي في
يوميات موجعة في انفجارات على الطرقات ورائحة البارود ورصاص البنادق, أكادني أندفع
لأفتح "الجارور" وأخرج من قلبه ذات اللاصق لأفعل ما كنت تفعله من عقود
بعيدة, عاد الوقت يا أبي يلاحقني, وكأنه إرث نحمله جيلا بعد جيل, تهشم زجاج وشريط
لاصق وأغطية صوفية تلفها على فتحات الشبابيك.. إنها الحرب التي تلاحقنا, أنت وأنا
وأبناء من بعدنا أجيال وأجيال أذكرك يا أبي كلما صار الوقت يتوارى خلف اللا وقت".
هنا تبرز الذات ما يؤرقها، وما يعمل على تحفيزها لفعل
المقاومة أو المواجهة الإيجابية لهذا الواقع الذي يفرض طقوسه دوما كي يعيد إنتاج
فكرة الوجود تحت ظلال الحرب التي تشبع بها مراحل الكفاح الفلسطيني في أجواء محاولة
استعادة الكيان العام، الذي يعيد حتما للذات المفردة/ الساردة كيانها؛ درءا لهذا
الهاجس الذي يجعل لا قيمة للوقت دلالة على استنزافه/ استنزاف الروح.. تلك الروح
التي تسري في متن النص الروائي لتشيع فيه روح المقاومة ربما بإحداثيات وفعاليات
جديدة، ومحاولات متكررة لحلم التغلب على هذه الحالة اللانهائية من الحرب والرماد
والدخان والبارود:
""حين تخون الوطن
لن تجد ترابا يحن عليك.. يوم موتك ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت.." هكذا كتب
"غسان كنفاني"، وأنا أكتب: كف الصغير تقبض على الألوان, ينثرها في وجه
الريح, تحلِّق في فضاء الحكاية, يرسم منها ملامح وجهه, وضحكة بريئة تزيل رماد
الأرض, تطهرها من دخان بطعم البارود, يرسم ويفتش عن ما تبقى من أصحاب, قد يهزم
بألوانه هدير الشر القادم نحوه.."
هكذا تتجسد دائما تلك الرغبة في التبرعم من جديد من خلال
رمز الطفل الصغير الذي يقبض على الألوان، كحالة مناقضة لحالة الدخان والبارود ورائحته
التي تشحن الأجواء النفسية إمعانا في استيهام الحالة الروائية، ووضعها دائما على
محك العلاقة الإنسانية المترعة بالشجن.. ما يعكس الرغبة في التغيير والخروج من هذه
الكبوة التي طالت حقبتها الزمنية، ويجعل هناك دائما على مرمى البصر أملا يولد
يتمسك بزهوة الألوان وقدرتها على إحداث البهجة، وإزاحة الشر الذي أدخلته الساردة
في حيز التعبير المجازي بالصوت/ الهدير.. لتتناغم الحالة الوجدانية السابحة مع مكونات
الصوت واللون والرائحة التي تتداخل دوما كي تصنع مزيجا من التشكيل البلاغي واللغوي
والبصري الذي يجعل بعض مناطق السرد تحتمي بالحلم وتلتحف به تأكيدا على تيمة الأمل
في جمالية من جماليات التقابل التي تلعب عليها الذات في إيقاع سردها الذي يتناغم
مع إيقاع الحرب صعودا وهبوطا، ولوجا وخروجا في أجوائها المشبعة برائحة البارود..
اتساقا مع قضية الوجود/ الكيان التي تتماس مع كل القضايا المحيطة التي تنبض بالأسى
وبالمحاولات العديدة للتحرر على مستويي الذات/ الوطن