«صراع النجوم.. ماذا جرى فى أخبار اليوم؟».. فصل جديد بكتاب «هيكل.. المذكرات المخفية»
تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل المذكرات المخفية"، والذي يحمل عنوان "صراع النجوم ماذا جرى فى أخبار اليوم؟" للكاتب الصحفي محمد الباز.
كان على أن أتعرف على الأستاذ مصطفى أمين.
قدمنى إليه تؤامه على أمين.
من اللحظة الأولى بدا لى كل واحد منهما بوضوح شديد.
كان على أمين هو الموتور الذى يجرى فيه الاحتراق الداخلى ليولد الطاقة والحركة فى أخبار اليوم.
كنت أرى فيه روح طفل وطيبته رغم حجمه الكبير، ولم يكن غريبا أن تعتريه حماقة الطفل واندفاعه التلقائى، لكنه كان سرعان ما يعود بمزاج صاف وروح أليفة، وأول انطباع لى عنه أنه رجل مقبل عليك وعلى الحياة للدرجة التى تشعر معه أنك قادر على فعل أى شئ، وربما لهذا اتجهت مشاعرى إليه خالصة من أول لحظة، وكذلك أحسست بإقباله على من أول لحظة.
أما مصطفى أمين فكان هو السائق الجالس على عجلة القيادة، بدا لى شديد الذكاء شديد النشاط، مع بعض المبالغة فى الحركة، لطيف المعشر حين يريد، لكنه ليس مثل توأمه كتابا مفتوحا، وهذا شأن مخبر صحفى كبير له اتصالاته الواسعة ومصادره المتشعبة وحساباته المعقدة.
تعرفت بعد ذلك على محررى أخبار اليوم، وجلست إلى مكتب فى واحدة من حجراتها، ورحت أتأقلم مع عالمى الجديد، ولم تكن العملية سهلة، وإن كانت نتائجها سعيدة بالنسبة لى، وبالنسبة إلى كل الأطراف فيما أظن.
بالطبع كانت هناك فترة ملاءمة.. وأكاد أقول فترات احتكاك لكنها مرت.
(2)
لم يكن الاحتكاك الذى جرى بينى وبين محررى أخبار اليوم فقط، بل حدث بينى وبين الأستاذ مصطفى أمين أيضا، لكن العمل المشترك والصحبة الدائمة أزاحا كل شئ جانبا.
اختلفت مع مصطفى أمين فى الطريقة التى كانت أخبار اليوم تعالج بها قضية اغتيال "أمين عثمان" باشا، فقد كانت تصور حسين توفيق قاتل أمين عثمان على نحو مثير، وتغطى محاولة تهريبه من السجن بشكل يضفى على القتل والهرب نوعا من البطولة تختلط فيه القيم، ولم يكن ذلك رأيى فى الجريمة السياسية.
وجرى بيننا ما يمكننا اعتباره خلافا مكتوما على هامش الصورة التى التقطتها للنحاس باشا يوم زفاف السيدة سعاد الوكيل شقيقة صاحبة العصمة حرم النحاس باشا، و كانت الحفلة فى الأريزونا، ولم يكن بين المدعوين أخبار اليوم ولا آخر ساعة، وبينهما وبين النحاس باشا ما صنع كل الحدادين فى العالم منذ اخترعت الحدادة، ومع ذلك كان لابد لآخر ساعة أن تدخل الحفل وأن تلتقط الصور وما كان ينبغى أن يفوتها هذا الحفل الذى كان أكبر حفلات الموسم.
تسللنا إلى داخل الحفل مع الشبان الوفديين الذين كانوا يحرسون مداخل الأريزونا ومخارجه، ثم وجدنا أنفسنا أمام النحاس باشا وأمسكت قلبى بيدى أنتظر ما سوف يفعله، وكانت المفاجأة الكبرى أن ذاكرة النحاس باشا وهى ذاكرة حادة خانته... أو لست أدرى ما الذى حدث؟
أقبل رفعته على مرحبا يقول: إنت اتعشيت؟
قلت: نعم.
قال: إذن تعال كل بطيخا.
ثم استطرد: أنا أكلت شماما.
وكنت لا أزال فى رهبة الإشفاق من أن يتذكر رفعته أننى أعمل فى آخر ساعة فلا أحس بشهية نحو البطيخ أو الشمام.
كان كل ما أود أن أفعله أن أبتعد عن النحاس باشا بسرعة، وأقبل فؤاد سراج الدين باشا وهمس فى أذنى: ماذا تفعل هنا؟
قلت فى إستسلام: ما تراه.
قال: على أى حال سأكتم السر.
وفجأة قال النحاس باشا لفؤاد باشا ولى: تعالوا نسمع أم كلثوم.
وكانت أم كلثوم تغنى أغنية (أهل الهوى يا ليل) أو ستبدأ فى غنائها، وذهبنا إلى الصف الأمامى وجلسنا.
استبد الطرب بالنحاس باشا فصاح وهو يعبر بيديه ورجليه وكيانه كله..إيه.
واستطردت أم كلثوم : واتجمعوا يا ليل صحبة وأنا معهم.
وصاح النحاس النحاس باشا ..ليه؟
وأجاب: لازم حيطلعوا بيان.
وضحكت وابتسم فؤاد باشا وقال: النحاس باشا سعيد الليلة.
لاحظ محمد يوسف الذى كان يصطحبنى أن النحاس باشا يصفق لأم كلثوم بحماسة ومال على أذنى.
قال لى: ما رأيك فى صورة للنحاس باشا وهو يصفق؟
قلت له: عال.
فرد محمد يوسف: ولكن عليك أن تستأذنه.
قلت له: ماذا أقول له؟
وجلست أقلب المشكلة فى ذهنى كيف أستأذنه؟ وماذا سأقول له، والأغنية تكاد تنتهى ثم ينهض لينصرف إلى بيته لينام وتضيع الصورة العجيبة.
همست بالفكرة لفؤاد باشا لكى نصوره وهو يصفق.
قال: إلى هنا لا.. وأنا لا أستطيع أن أقول له شئيا من هذا.
سمع النحاس باشا حديثنا وإلتفت إلى فؤاد باشا ولم يكن أمامى مفر من الكلام.
قلت: كنت أطلب من فؤاد باشا أن يستأذن رفعتك فى أن نصورك وأنت تصفق.
قال رفعته بغضب: ليه الزفت ده بقى؟
وقلت بسرعة: كنت أريد أن اكتب تحتها: عندما يصفق الرجل الذى اعتاد أن تصفق له الملايين.
ضحك النحاس باشا بملء شدقيه وقال: جميلة دى.
ثم التفت إلى الوراء بسرعة وقال: فين المصور بتاعك؟
أشرت إلى محمد يوسف، فإقترب وبدأ النحاس باشا يشرح له فكرة الصورة كما لو كانت فكرته.
بدأ النحاس بنفسه يجهز لإلتقاط الصورة، قال بلهجته الخاصة: اسمع هى ح هتخلص الحتة دى، وأنا حأسقف على طول، فاهم، وإنت تروح واخد الصورة حالا.
هز محمد يوسف رأسه موافقا ونظر إلى النحاس باشا الذى قال له فجأة: لا..ده إنت باين عليك خيبان...متنفعش..ما إنتاش سريع كفاية، لا بلاش، موش عاوزين الصورة.
ثم سكت رفعته وتغيرت ملامحه بسرعة وقال: ولا أنت تنفع طيب حاجربك ... بس بسرعة.
وقبل أن تمضى ثانية عدل النحاس باشا عن رأيه ومط شفتيه فى قنوط وقال ما تنفعش واستمر يقول: ينفع..ثم يعود للنقيض، ثم يغير رأيه بلا سبب ظاهر، وأنا لا أكاد أتابع كل هذه التغيرات، وأخيرا استقر رفعته على رأى، وقرر أن محمد يوسف ينفع ثم قال له: أهه خلى بالك ....ما تبقاش خيبان، هى هتخلص الحتة دى وأنا أسقف أهه أهه، إنت مستعد، وفرغت أم كلثوم من مقطع وصاح النحاس باشا: أهه أهه ..ثم رفع يديه يصفق بحماسة والتقط محمد يوسف الصورة بسهولة.
رجعنا أخبار اليوم بالصور تانى يوم، وقلت لعلى أمين أنا اتفقت مع النحاس باشا على أن الصور هتطلع.
رد على: لا يمكن أخبار اليوم التى تعادى النحاس تكتب: الرجل الذى يصفق له الملايين.
اتفقنا على حل وسط، أن نكتب تحت الصورة: عندما يصفق الرجل الذى اعتاد أن يصفق له الناس.
وافق على أمين، وبينما كانت الجريدة فى المطبعة جاء مصطفى أمين ولما قرأ التعليق قال: معقول أكتب فى جورنالى: الرجل الذى يصفق له الناس، لا يمكن.
وشطب مصطفى السطر الثانى من التعليق فأصبح هكذا: عندما يصفق "الرجل الذى...".
واختلفت معه مرة أخرى حول التغطية الإخبارية لمفاوضات صدقى – بيفن، كان هو يتمنى نجاحها، ولم يكن ذلك مناى، وبسبب اختلاف مصادر أخبارى عن مصادر أخباره، بدا أن ما أحصل عليه من أخبار يتعارض مع ما يصل إليه هو.
كانت معظم اتصالاتى ومصادرى فى وفد المفاوضات المصرى وقتها من الجبهة المعارضة لصدقى باشا وبالتحديد على الشمسى باشا، ولم يكن مصطفى يحب الشمسى باشا، وكانت المشاعر متبادلة وذات جذور بعيدة وعميقة.
تعقدت الأمور بعض الشئ فيما أظن حينما كتب الأستاذ مصطفى أمين فى أخبار اليوم مقالا عن مشروع معاهدة صدقى بيفن عنوانه" نوقعها ونلعنها"... وإذا بآخر ساعة تصدر بعد ثلاثة أيام بإفتتاحية عنوانها" إذا كنا سنلعنها فلماذا نوقعها"؟
عكست هذه الاحتكاكات بينى وبين الأستاذ مصطفى أمين موازين الصراع فى الحياة السياسية المصرية، وهو ما أشاع بيننا ظلا من القلق لبعض الوقت ثم انقشعت الغيوم، وكان الأستاذ على أمين هو تيار الريح المندفع الذى يحاول دائما أن يعيد إلى السماء صفاءها.
(3)
على هامش هذه الاحتكاكات بدت لى التغطية الإخبارية فى السياسة الداخلية جهدا عقيما وفكرت أن أعود إلى التحقيق الصحفى.
كان وباء الكوليرا قد تفشى فى مصر، وغادرت القاهرة مع الأستاذ محمد يوسف كبير مصورى أخبار اليوم، وذهبنا لنقيم فى منطقة ظهور الوباء بمحافظة الشرقية، وتقرر عزل المحافظة عن بقية المحافظات ونحن فيها، وكانت رسائلنا تصل كل أسيوع إلى أخبار اليوم تنقل إلى قرائها صورة شاملة إنسانية للحياة فى ظلال الموت.
خلال أيام مواجهة الوباء شعرت أننى عدت مرة أخرى إلى الحياة مع الخطر كما كنت أفعل فى " الجازيت".
كان الخطر هناك هو الحرب.... والخطر الآن هو الوباء.
لفتت مجموعة التحقيقات التى كتبتها عن الكوليرا أنظار كثيرين فى مصر، فقد وجدت نفسى أفوز بجائزة فاروق الأول للصحافة العربية، وكانت جائزة لها شأنها فى ذلك الوقت خصوصا بين الصحفيين الشبان.
حاولت إقناع الأستاذ على أمين بأن يفتح أمامى باب التحقيق الصحفى خارج الحدود، وأشهد أنه تحمس، وأعتقد أنه لم تكن هناك دار صحفية أخرى فى مصر، وقتها على استعداد للمجازفة بمثل هذه الفرصة لأحد محرريها غير أخبار اليوم.
خرجت أغطى الحوادث الساخنة فى الشرق الأوسط وحوله، من الحرب الأهلية فى اليونان وقد شملت كل البلقان، إلى حرب فلسطين من أولها لآخرها، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية فى سوريا، إلى عمليات الإغتيال الكبرى فى المنطقة من اغتيال الملك عبد الله فى القدس إلى اغتيال رياض الصلح فى عمان إلى قتل حسنى الزعيم فى دمشق، ثم إلى ثورة مصدق فى إيران، ثم اتسعت المسافات، فإذا أنا أغطى المشاكل الملتهبة فى قلب إفريقيا، ثم حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولى.
بعد خمس سنوات من التجوال استقر بى المقام فى القاهرة، كنت قد حصلت على جائزة فاروق الأولى للصحافة ثلاث مرات، قررت بعدها أن لا أتقدم للجائزة وأتركها لغيرى.
اكتشفت أن كثيرين أصبحوا يهتمون بما أكتب، ثم إننى أصبحت على معرفة وثيقة بأحوال شعوب المنطقة ومعرفة شخصية بكل ساستها وحكامها، وعلى صلة بجيلى من الصحفيين فى العالم الواسع، فقد جمعتنا معا ميادين القتال ومواقع الأحداث على طول المسافة الممتدة من شواطئ المحيط الهادئ إلى شواطئ الأطلطنى.
كان هناك ما هو أهم.
فقد تفتحت أبواب السياسة المصرية أمامى على مصراعيها، وكان ساسة مصر وقتها قد تعودوا على مجموعات من الصحفيين يقفون على أبواب دور الرئاسات والوازات، يسألون الداخلين والخارجين عن الأخبار، وكان من حسن حظى أننى لم اقف على باب أحد ولم أسأل أحدا فى شئ أثناء مروره فى ردهة أو نزوله على سلم خروج، ولقد سبب لى ذلك حساسيات مع البعض، ومع الأسف لم أستطع إقناعهم بأن الحياة مع الخطر، هى التى فتحت لى الأبواب وأعفتنى من الوقوف على الأعتاب.
(4)
كان ما جرى فى فلسطين معجزا، لم أكن صحفيا يسعى وراء الأخبار فقط، كنت شاهدا على كل ما جرى.
لقد عشت حرب فلسطين قبل أن تبدأ رسميا.
عشتها قبل أن تبدأ فعليا فى مايو 1948، وكنت قد حملت حقائبى وذهبت إليها أبحث عن الحقيقة، وأذكر أن أخبار اليوم كتبت فى مقدمة التحقيق الصحفى الأول من أورشليم – القدس – تقول: إن الحقيقة تتوه فى طوفان البرقيات والشائعات والخطب والإذاعات ولا يعرفها إلا من يحاول البحث عنها، تحت الأنقاض وعلى ألسنة اللهب، وفى السهول التى تتناثر عليها جثث القتلى ويبلل الدم فيها زهور البرتقال.
وأنا أشهد أن ما رأيته تحت الأنقاض وعلى ألسنة اللهب وفى السهول التى تتناثر فوقها جثث الموتى، ويبلل الدم فيها زهور البرتقال لم يكن كل الحقيقة بل لم يكن الجزء الأكبر أو الأهم منها.
ما زالت تطن فى أذنى عبارة قالها موظف الجوازات عند جسر اللنبى، الذى يقوم على نهر الأردن، ويربط ما بين شرقى الأردن وفلسطين،
نظر إلى موظف الجوازات وقال بدهشة وعجب: أنت داخل إلى فلسطين؟
قلت: نعم.
هز الرجل رأسه واستطرد: كل الناس اليوم يهربون من فلسطين، وأنت أول واحد من زمن طويل يطلب تصريحا بالدخول إليها.
لم أفهم المعنى الحقيقى لهذه العبارة، التى سمعتها من موظف الجوازات عند جسر اللنبى، إلا بعد أن قضيت عدة أسابيع فى فلسطين، رأيت فيها كيف ضاع السلام فى أرض السلام.
وأذكر يوما فى حيفا وقفت بجوار قائد حاميتها العربى، وهو يصرخ فى التليفون طالبا رقم 4481 حيفا، وكان الرقم لتليفون البريجادير"ستوكويل" قائد منطقة حيفا الإنجليزى، وكان الجيش الإنجليزى ما زال يحتل فلسطين، وكان باقى من الزمن شهر واحد على يوم انتهاء الانتداب، وحين رد البريجادير "ستوكويل" على التليفون، سأله القائد العربى بنبرة محمومة مذعورة: هل صحيح يا سيدى القائد أنكم ستتركون حيفا اليوم، وكيف أن اليهود يعرفون الخبر منذ أربعة أيام وقد استعدوا، أنتم بهذا تسهلون لهم الإستيلاء على حيفا كلها.
ثم تساءل: كيف تقول إنك لا تستطيع أن تفعل شيئا؟
وانفعل: يا سيدى القائد إننى مسئول عن الأمن هنا حتى يوم 15 مايو القادم.
انقطعت المكالمة التليفونية، وبدأت أصداء انفجارات بعيدة تهز المبنى الذى كنا فيه، والذى كان هو نفسه مركز انفجارات قوية تذهب أصداؤها إلى بعيد، وحين جاء الليل، كان اليهود يشنون هجوما عاما للإستيلاء على حيفا.
استأجرت سيارة عند الفجر غادرت بها حيفا، وكانت المدينة البائسة راكعة على ركبتيها فى ذلة واستسلام.
وقد بقى فى ذاكرتى نماذج كثيرة متكررة للمأساة التى جرت.
رأيت بعينى يافا مقاومتها تنهار أمام عصابات الهاجاناة.
رأيت الاستحكامات فى القدس تسقط خطا بعد خط.
وكانت دموعى تحجب المرئيات عن عينى، وأنا جالس فى مقعد فى آخر سيارة تتجول بى فى هذه الدقائق القليلة، التى سبقت اكتساح الهاجاناة لشوارع المدينة المقدسة.
جلست ليلتها أكتب رسالة عن الموقف لأخبار اليوم نشرت فى أول مايو 1948.
وقلت فيها: لقد زرعها اليهود حربا وزرعناها كلاما، وكان الحصاد دما يتدفق أنهارا على أرض السلام".
ومضيت أشرح المعركة قائلا: لقد اتبع اليهود فى هذه الحرب أسلوبا أخرجته الحرب العالمية الأخيرة من أساليبها، وما أشبه ما حدث فى فلسطين بما حدث فى فرنسا، الضربات السريعة القوية، والطابور الخامس وسيول المهاجرين الذين يتدفقون نحو الحدود، ويتدافعون فى الطرقات، كل منهم يعمل فوق طاقته لإنقاذ ما تبقى له فى الحياة، وكل منهم له قصة يرويها، قصة مليئة بالرعب والخوف.
لكن الذى كان يروعنى أن الجبهة العربية كانت فى حالة انهيار كامل، وكانت مسئولية هذه الجبهة مشتتة موزعة، كانت هناك مثلا جيوش التحرير العربية، وكان أكبرها جيش فوزى القاوقجى، وكانت هناك غيره مجموعات من الجيوش الصغيرة يرأسها ضباط متقاعدون أو فى المعاش.
أحسست بالإنهيار الكامل فى الجبهة العربية.
سألت نفسى وقتها: أين فوزى القاوقجى قائد أكبر جيش من جيوش التحرير؟
وكان القاوقجى بعيدا عن المعركة.
وسألت نفسى: أين صفوت باشا القائد العام لقوات التحرير العربية؟
وكان صفوت باشا لم يطأ بقدمه بعد أرض فلسطين.
وسألت نفسى: أين طه باشا الهاشمى مفتش قوات التحرير؟
وكان الهاشمى باشا يدير معارك فلسطين من بيروت وعمان والقاهرة ودمشق.
ذهبت بعدها إلى عمان وقابلت الملك عبد الله بن الحسين فى قصر رغدان، وكان ينادى بوجوب التدخل المسلح فى فلسطين، ورويت له شعورى وما رأيت فى ميادين المعارك.
قال لى جلالته: إن طه باشا الهاشمى موجود الآن فى عمان، وأنا أقترح عليك أن تقابله وتقول له كل شئ.
وأذكر أن الملك قال لى وقتها: لقد قرأت بعضا من مقالاتك التى كتبتها فى أخبار اليوم.
ثم مضى الملك يقول وهو يمسك بلحيته البيضاء: ومن أجل لحيتى هذه انس أنك صحفى، واذكر عروبتك، وحينما ترى شيئا من هذا القبيل لا تكتبه، وإنما تعال وقله لى حتى لا يكون من وراء ذلك تثبيط لهمة العرب.
مضيت بناء على نصيحة الملك، وقابلت عددا من القواد المسئولين عن معركة التحرير، ولم تثمر هذه المقابلة بينى وبين قواد معركة التحرير المسئولين، إلا أنها زادتنى ثورة على ثورة، وسخطا فوق سخط.
كان القواد العرب فى ضيافة تاجر دقيق مشهور فى عمان، وكان لقائى معهم فى أحد مخازن الدقيق وكنا جالسين وأكداس من أجولة الدقيق حولنا من اليمين إلى اليسار، وكان كل منهم جالسا وأمامه نرجيلة، غرس مبسمها فى فمه، ومضى يجذب الدخان فى استمتاع، كأنما ليست هناك أنقاض ولا ألسنة لهب، ولا سهول تتناثر عليها جثث القتلى، ولا دم يبلل زهور البرتقال فى فلسطين، ولم أكن أتصور وقتها أن الجيوش العربية النظامية ومن بينها الجيش المصرى سوف تدخل فلسطين.
أو هكذا خيل لى فى ذلك الوقت.
كانت ثقتى هذه مبينة على عدة عوامل:
أولها إننى كنت أعرف أن النقراشى باشا قد أوضح أن مصر لن تدخل حربا رسمية فى فلسطين، وأنها ستعطى ما تقدر عليه من مال، وستبذل ما فى طاقتها من جهد وستشجع جموع المقاتلين وتعطيهم السلاح.
وثانيها إننى قابلت النقراشى باشا خلال يومين قضيتهما فى القاهرة أجازة من أحداث فلسطين، ورويت له كل ما رأيته فيها، وأذكر أنه قال لى وكان معنا ثلاثة أو أربعة من الأعزاء عليه: لن ندخل بجيشنا حربا رسمية فى فلسطين... إن معركتنا هى أولا مع الإنجليز.
وقال النقراشى باشا: لقد كنت فى مجلس الأمن، وقلت للإنجليز اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة، وقلت للعالم: إن الجيش المصرى قادر على ملء الفراغ فى قناة السويس، فكيف أعرض هذا الجيش الذى هو كل حجتى فى نهاية ملء الفراغ فى القناة لأية تجربة، حتى ولو كان احتمال الخطر فيها ضئيلا.
وكنت قابلت الفريق محمد حيدر وزير الحربية وقتها، وكنت ما زلت أعتقد أنه رجل طيب نظيف، ورويت له أيضا ما رأيت فى فلسطين، وقال وهو يخبط بيده على مكتبه: أبدا لن ندخل حربا رسمية، هل نحن مجانين، لقد فتحت باب التطوع بين الضباط والجنود، وسأعطى هؤلاء المتطوعين السلاح الذى يريدونه.
ولما عدت إلى فلسطين بعد هذه الأيام التى قضيتها فى القاهرة، كنت كما قلت واثقا على الأقل من موقف مصر.
سألنى الملك عبد الله بعد عودتى من القاهرة: هل قررت مصر دخول الحرب؟
واقتربت من الملك أهمس فى أذنه بما أعتقد، وبأن مصر على استعداد لكل شئ، إلا التدخل الرسمى المسلح.
سئلت أيضا من عدد كبير جدا من أهل فلسطين فى نفس الموضوع.
كانت إجابتى صريحة مستندة إلى ما كنت أعلمه، وما كنت أتصور فى ذلك الوقت أنه الخط المرسوم.
بل أذكر أيضا أننى عقدت رهانا غريبا فى هذا الموضوع، رهانا قيمته عشرة جنيهات لم أدفعها، وكنت قد سعيت لكى ألتقى ببعض قادة الوكالة اليهودية، وكانوا وقتها هم النواة لحكومة إسرائيل، وكنت قد قابلت بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد، ثم عاد هؤلاء المراسلون ورتبوا لى موعدا مع ساسون الذى كان وقتها سكرتيرا شرفيا للوكالة اليهودية.
قال لى ساسون: أن الجيش المصرى سوف يدخل حربا رسمية.
هززت رأسى، وقلت له: لا أعرف.
قال ساسون: سوف يضحك الإنجليز عليكم، وسوف يقدمون لكم كل إغراء لتدخلوا، ثم ينصبون لكم فخا، إنهم لا يريدون جيشكم هذا الذى تدعون به القدرة على ملء الفراغ فى قناة السويس.
ثم مضى ساسون يقول: هل تراهن بعشرة جنيهات؟
قلت: قبلت الرهان.
التقيت بساسون بعد ذلك فى باريس فى شهر سبتمبر، وكانت الحرب قد بدأت فعلا والهدنة قد فرضت، وفى مجلس الأمن كانت مناقشات حول الهدنة وظروف الاعتداء عليها، ووجدت ساسون فجأة أمام قاعة اجتماع اللجنة السياسية فى قصر شايو، يقول لى: هل رأيت... ألا تريد دفع الرهان؟
وبعدها فى شهر فبراير 1949، وفى استنبول فى مطعم عبد الله المشهور، وكان ساسون قد عين سفيرا لإسرائيل فى تركيا، أقبل أحد خدم المطعم يحمل لى ورقة صغيرة كتب عليها: ألا تريد أن تدفع رهانك؟
وقال لى الخادم: السيد الجالس هناك بعث بهذه الورقة إليك.
ورفعت رأسى فى الاتجاه الذى أشار إليه، ووجدت ساسون بنفسه ينظر إلى.. ويبتسم.
بعد أن عدت نهائيا من فلسطين عرض على الأستاذان مصطفى وعلى أمين رئاسة تحرير آخر ساعة، وأضافا إليها منصب مساعد رئيس تحرير أخبار اليوم، وقبلت راضيا وشاكرا وأظن أن الأستاذ التابعى كان أكثرنا سعادة، فقد دعانا جميعا للعشاء ليلتها فى بيته ومعنا أم كلثوم.
فى خريف 1951 وجدتنى أذهب إلى منطقة القناة حيث اشتدت المقاومة ضد الإنجليز بعد أن ألغى النحاس معاهدة سنة 1936، ثم توقعت أن يحدث انفجار فى السودان إذا أقدم الإنجليز على ترحيل القوة المصرية المرابطة هناك بقيادة اللواء البشارى، فطرت إلى الخرطوم ولم يحدث شئ، وراودنى الإحساس بأننى أخطأت التقدير وبانه إذا كانت الحوادث سوف تتحرك فإن حركتها سوف تكون فى القاهرة وليس بعيدا عنها... فعدت.
وفى صباح يوم 26 يناير 2952 اتصل بى أحمد حسنين زعيم الحزب الاشتراكى يسالنى: ما أفعل فى مكتبى والشارع المصرى يفور ويغلى؟
نزلت فإذا الظروف تتيح لى متابعة حريق القاهرة من اللهب إلى الرماد.
(5)
كانت أخبار اليوم هى محور حياتى كلها وتحولت العلاقة التى تربطنى بأصحابها إلى ما يشبه علاقة أخوة، لدرجة أننى كنت أعرف عنهما كل شئ.
وحدث ذات مرة أننى عرفت أخبار مصطفى أمين من آنسة سويسرية تشتغل عاملة تليفون فى برن.
عرفت أن مصطفى أمين ترك مكتبه وترك القاهرة وهرب فى إجازة سريعة إلى الإسكندرية، والقصة نموذج صالح للطريقة التى تنتقل بها الأخبار عبر البحار.
طلبت أن أتحدث إلى أخبار اليوم فى القاهرة، وأنا فى جنيف وسألتنى عاملة التليفون من الذى تريد أن تكلمه فى هذا الرقم؟
قلت: مصطفى أمين.
وقالت لى عاملة التليفون السويسرية: ضع السماعة مكانها وسأتصل بك بعد قليل.
دق الجرس بعد دقائق، وكانت عاملة التليفون السويسرية تقول: السيد الذى طلبت أن تتحدث إليه فى القاهرة ليس موجودا فى مكتبه.
قلت لها: غيرمعقول.. هذا الرجل يصحو وينام فى مكتبه.
قالت: هكذا قالوا لى.
قلت لها: أنا واثق أن خطأ وقع، فلعلك تتصلين بالقاهرة مرة ثانية، وتتحققين من الأمر.
دقت عاملة التليفون الجرس بعد قليل تقول: لقد طلبت من زميلتى عاملة التليفون فى القاهرة أن تتحرى التفاصيل، وقامت هى بدورها بالإتصال بعامل التليفون فى أخبار اليوم، وهذا هو الموقف: مصطفى أمين غير موجود فى مكتبه، يظهر أنه سافر فى إجازة إلى الإسكندرية، سافر يوم السبت وسيعود يوم الأربعاء، وعلى أى حال هو الآن فى الإسكندرية لأنه كان يكلمهم منها بالتليفون من نصف ساعة ولكن فى المكتب الآن على أمين... قالوا لى: إنه شقيقه التوأم.
وقالت عاملة التليفون السويسرية: هل تريد أن تعرف شيئا آخر؟
قلت بسرعة: أبدا... لم يبق إلا أن تقولى لى أى نغم كان على أمين يدندن به هذا الصباح فى حمام بيته.
لقد ظللنا أصدقاء لما يقرب من أحد عشر عاما، وكنت أحمل مع على ومصطفى أمين مسئوليات كبيرة وكثيرة، وأعترف أن أخبار اليوم أعطتنى فرصا لا حدود لها.
فلم يكن سهلا لأى جريدة أن صحفيا يسافر ليتعقب أخبار الحروب وأحداثها فى دول العالم المختلفة.
ولم يكن سهلا أن يكون مانشيت الجرنان الرئيسى باسمه.
لقد وجدت نفسى أمام عمل أحسن تقدير دورك فميا تفعله... وأنك صرت جزءا مهما من هذا العمل.
كنت بالقرب من على أمين ومصطفى أمين وهما يعقدان اتفاقات مهمة لأخبار اليوم، مثل ما حدث عندما اشترينا مذكرات اللواء فؤاد صادق ( قائد القوات المصرية فى حرب فلسطين) ودفعنا له ألف جنيه، وكنا ونحن نسلم له المبلغ – وكان على أمين معى – نتصور أنه يمكن أن يكون قائد الثورة المنتظرة فى مصر.
لكن قبل يوليو 1952 بشهور بدأت مناقشات ومحاورات بينى وبين على ومصطفى أمين، بل بدأت تظهر خلافات، كانت بالتحديد حول ثلاثة محاور.
الأول: قرب أخبار اليوم من القصر بأكثر مما هو صحى، وعداؤها الشديد للوفد بأكثر مما هو صحى أيضا.
الثانى: مطالبتى الدئامة بأن تدار أخبار اليوم على قواعد مؤسسية تضمن سلامة العقل وتكفل الاستمرار.
الثالث: إلحالى المستمر على تغطية أكثر عمقا للحوادث والتيارات لأن القارئ المصرى يتغير ويتطور، ولأن حواديت الثلاثينات والأربعينات لم تعد تصلح للخمسينات والستينات خصوصا، وقد أصبحت مصر جزءا من عالم تهدده مخاطر عظيمة وتراوده آمال أعظم.
هذه المناقشات لم تؤثر على صميم العلاقة بينى وبينهما.
فعندما سافرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية معا فى طائرة واحدة، كتبا إقرارا ووصية، ومع أن المخاطرة لم تكن قائمة إلى هذا الحد، وبدت المسألة مسحة ميلودرامية لا تقتضيها طباع الأمور، إلا أننى كنت الصديق الذى أؤتمن على الإقرار والوصية وعلى مسئولية تنفيذهما عند الضرورة، واحتفظت بهما فى مكتبى وبقيا فى أوراقى.
حدث هذا فى نهاية ديسمبر 1953.
كان نص الإقرار الذى كتبه الأستاذ مصطفى أمين بخط يده وتوقيعه، ووقع إلى جواره الأستاذ على أمين باسمه كما يلى: فى حالة وفاة على أمين ومصطفى أمين صاحبى دار أخبار اليوم وجميع صحفها وشركة التوزيع الخاصة بها يتألف مجلس إدارة لإدارة الدار من محمد التابعى وأحمد عنان وأم كلثوم وكامل الشناوى ومحمد حسنين هيكل وجلال الدين الحمامصى وزكى عبد القادر وعبد العزيز عبد العليم وحسين فريد وحافظ جلال، ولهم وحدهم حق إدارة الدار ورسم سياساتها وتعيين محرريها وعمالها وتحديد أجورهم ووضع سياسة المستقبل وأن تخصص جميع أرباح الدار لإنشاءات فى الدار نفسها أومشروعات صحفية فيها ولرفع مستوى العمال والمحررين فى الدار ولتحسين الصحف.
ويعتبر هذا إقرارا منا لمجلس الإدارة المذكور بإنتقال الملكية إليه فى حالة الوفاة، ولا حق لأحد من الورثة أو غيرهم فى التدخل أو ادعاء الملكية أو التصرف، وهذا الإقرار هو هبة منا فى حالة وفاتنا، ونشهد الله على هذا الإقرار والله على ما نقول شهيد.
أما الوصية فكان نصها كما يلى: فى حالة وفاة مصطفى أمين وعلى أمين معا نوصى بثلث ما نملك من مال وعقار ودور ومطابع وصحف إلى عمال وموظفى الدار الحاليين ممثلين فى مجلس إدارة مكون من محمد التابعى وأحمد عنان وأم كلثوم إبراهيم وكامل الشناوى ومحمد حسنين هيكل وجلال الدين الحمامصى وزكى عبد القادر وعبد العزيز عبد العليم وحافظ جلال وحسين فريد، على أن تخصص جميع الأرباح لإنشاءات فى الدار نفسها ومشروعات صحفية ولرفع مستوى العمال والمحررين فى الدار، وهذا إقرار منا بذلك والله على ما نقول شهيد، وكل ما نريده أن تلتزم صحف الدار الخطة السياسية والتقاليد التى سارت عليها منذ إنشائها.
(6)
بدا ما حققته له وزنه وقيمته عند على ومصطفى أمين، كانا يعرفان جيدا ما أحدثته فى الحياة السياسية والصحفية المصرية.
صباح 19 يوليو 1952 توجهت إلى الأسكندرية، كان الدكتور محمود محفوظ قد اتصل بى يقول لى إن الهلالى باشا يريدنى فى الأسكندرية لأن الملك عرض عليه رئاسة الوزارة من جديد، وحين وصلت إلى الأسكندرية وإلى بيت الهلالى باشا فى المندرة لم أجد غير الأستاذ فريد زعلوك والدكتور محمود محفوظ، وقيل لى إن الهلالى باشا فى بيت رئيس الديوان الملكى حافظ عفيفى باشا، ثم أبلغنا أن الإثنين قصدا معا المنتزه حيث صدر التكليف الرسمى لنجيب الهلالى فعلا بتشكيل الوزارة.
وحين عاد الهلالى باشا لم أكن سعيدا بما حدث، وسألته: كيف قبلت؟
قال لى أمام فريد زعلوك ومحمود محفوظ: لقد أخذت من الملك ضمانات كافية.
مد يده إلى جيب صديرى بذلته البيضاء وأخرج ورقة قرأ لى منها ستة شروط بينها عدم تدخل غير المسئولين فى الحكم، ثم الوعد بعدم اعتراض عملية تطهير جهاز الدولة إلى آخره.
قلت للهلالى باشا: ومن الذى يضمن هذه الضمانات؟
قال لى ضاحكا من شبابى وحماستى وقتها: هل تريدنى أن أطلب من الملك أن يحدث هذا الشئ فى مواجهة نجيب الهلالى؟
التقيت ليلتها مع الأستاذين مصطفى وعلى أمين فى فندق سيسل بالإسكندرية وتبادلنا أخبار التشكيل الوزارى الجديد، وكان على أن أملى تفاصيله على سكرتير تحرير أخبار اليوم وقتها الأستاذ حسين فريد لكى ينشر فى جريدة الأخبار التى كانت قد صدرت يومية قبل ذلك بشهور قليلة.
فى الصباح الباكر على مائدة الإقطار قلت للاثنين إننى عائد إلى القاهرة على الفور، وفى حين راح على أمين يلح على أن أبقى فى الإسكندرية حتى تتم مراسم تشكيل الوزارة لأن صلتى الوثيقة برئيس الوزراء الجديد تعطينا الفرصة لخبطات صحفية مثيرة، فإن الأستاذ مصطفى أمين أحس بغريزة المخبر الصحفى فيه أن هناك شيئا وراء عودتى المسرعة إلى القاهرة وهكذا راح يسألنى عما أتوقعه.
جرى ما جرى فى الأيام التى سبقت ليلة الثورة، وفجأة إذا بالسلطة الثورية الجديدة فى مصر تعتقل الأخوين مصطفى وعلى أمين ضمن من اعتقلتهم من حاشية القصر ورجال الملك.
وذهبت إلى لقاء جمال عبد الناصر فى مبنى رئاسة أركان حرب الجيش المصرى بكوبرى القبة، وكان قد أصبح مقرا لمجلس القيادة.
كنت محتجا، قلت له: إن القبض على صاحبى أخبار اليوم فى هذا الظرف حكم عليهما ما لم يكن هناك دليل لا أعرفه، ثم إن الحرج يمتد منهما إلى الدار نفسها وكل من فيها.
رد على جمال عبد الناصر: إنه ليس لى الحق أن أنظر إلى المسائل من زاوية شخصية على هذا النحو.
ثم أضاف: إن الناس كلهم يعلمون بالشكوك والظنون المحيطة بمواقفهما وارتباطاتهما، وعلى أية حال فإن إعتقالهما إجراء وقائى بعد معلومات وصلت تفيد أن الأستاذ مصطفى أمين أجرى اتصالات يوم قيام الثورة مع جهة أجنبية خارج مصر.
وبما أن الظرف لا يحتمل أية مناورات فإنه أصدر أمر الاعتقال حتى تنجلى الحقائق.
عدت فى المساء ومعى الأستاذ التابعى نرجو ونلح.
ثم عدت فى صباح اليوم التالى أشرح الضغوط التى أحسست بها فى دار أخبار اليوم بالأمس.
ثم دخلت أمام جمال عبد الناصر وآخرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة فى شرح مفصل لعلاقة الصحافة فى مصر بالسياسة ومن ثم علاقتها بالسلطة واحتمالات التجاوز فى ظل الظروف الموضوعية السائدة.
وأخيرا تقرر الإفراج عن الأستاذين مصطفى وعلى أمين وأخذتهما معى، ومعنا الأستاذ محمد التابعى والأستاذ كامل الشناوى، وذهبنا إلى مقر مجلس قيادة الثورة، وهناك قدمتهما لجمال عبد الناصر وآخرين من أعضاء مجلس الثورة، وكان لقاء يستحق المتابعة الدقيقة، فقد استجمع الأستاذ مصطفى أمين كل مواهبه ليدافع عن نفسه أمام السلطة الجديدة ويشرح مواقفه، ثم رحنا جميعا نلح فى كلمة تصدر فى المجلس تبرئ أصحاب أخبار اليوم أو ترد إليهم شرفهم على حد التعبير الذى استعمله الأستاذ على أمين.
(7)
كان هذا الموقف معبرا عما سيأتى بعده تماما.
لم تمنعنى العلاقة الأخوية التى ربطت بيننا أن أنتقل من أخبار اليوم إلى الأهرام.
كنت طوال حياتى مؤمنا بفكرة المؤسسة متجاوزا الأفراد، وكانت أخبار اليوم عندى مرتبطة بمصطفى وعلى أمين، صحيح نشأت بيننا خلافات بسيطة ربما حول أهمية أن يكون للمنشأة حتى ولو كانت مملوكة للأفراد ميزانية محترمة يتم عرضها على مجلس الإدارة، ولكنى كنت أعرف طبائع الملكية الفردية لأصحاب مشروع.
وعندما جاء على الشمسى باشا واقترح على فكرة الانتقال إلى الأهرام فى العام 1956 بدت الفكرة مغرية لأنى وصلت فى أخبار اليوم إلى آخر ما يمكن أن يصل إليه أى صحفى، والأهرام بالنسبة لى تحدى، وفى أول عرض لهم عرضوا على أن أكون واحدا من رؤساء التحرير، وأنا اعتذرت.
لم يكن أصحاب الأهرام وقتها مستعدين للقبول برئيس تحرير واحد، لكن ولأن خسائر الأهرام كانت تزيد، فقد قبلوا بالفكرة فى النهاية.
عندما ذهبت إلى على ومصطفى أمين أصارحهما بنيتى: " أنا رايح الأهرام"، قام على أمين وأغلق الغرفة التى نجلس فيها، وحبسنا احنا التلاتة... وهات يا عياط.
لم أخرج إلا بعد أن كتبت اعتذارا لبشارة تكلا، وظللنا نعمل فى أخبار اليوم وعندى أمل أن الأمور سوف تنضبط، وأن الوضع المؤسسى سوف ينضبط فى الدار ويسود، وأتصور أنى إذا كنت قد فعلت شيئا فى الأهرام فهو فكرة المؤسسة لأنها باقية وحية حتى وأنا بعيد عنها.
جرى أن قامت بيننا خلافات حول المدارس الصحفية المختلفة.
طول الوقت كنت أعتقد أن القارئ المصرى جاد أكثر مما نتصور، والأخوين أمين يتصوران شيئا آخر، ورغم هذه الخلافات كنا نلتقى كل أسبوع مرة لنتناول الغداء معا، حتى لا تكون القطيعة نهائية، فعندما ذهبت إلى الأهرام على مضض وكانت لى دوافعى فى ذلك، جمعت بين الأهرام وآخر ساعة، ووافق مجلس إدارة الأهرام، وعندما جاء قانون تنظيم الصحافة وأسندوا مهمة مجلس إدارة أخبار اليوم إلى أمين شاكر وهو ضابط سابق فى مكتب جمال عبد الناصر، وجاء القرار دون اسمى الأستاذين مصطفى وعلى أمين تدخلت.
رفعت سماعة التليفون أحاول أن أتصل بجمال عبد الناصر،وفجأة انفتح باب مكتبى ودخل الأستاذان مصطفى أمين وعلى أمين، وأعدت سماعة التليفون إلى مكانها ورفعت أصابعى عن القرص، وكان باديا أنهما فى محنة، وكنت بمشاعرى متعاطفا معهما، وبدأ الأستاذ مصطفى أمين فقال: إنهما قرأ قوائم التشكيلات ووجداها خلوا من اسميهما وقررا المجئ إلى على الفور.
قلت: أعتقد أن فى الأمر خطأ من نوع ما.
وقد كنت قبل دخولهما على وشك الاتصال بالرئيس أستوضحه وأرجوه تصحيح الخطأ، وراح الأستاذ مصطفى أمين يعرض على موقف الاثنين حتى أنقله إلى الرئيس وكان مؤدى هذا الموقف الذى كان فى الواقع رسالة كما يلى: إن قانون تنظيم الصحافة لن يؤثر فى ولائهما لقيادة جمال عبد الناصر، ونفس الشئ ينطبق على خلو قوائم التشكيل من اسميهما، لكن المشكلة أن هذه المسألة الأخيرة – خلو قوائم التشكيل من اسميهما – قد تعطى لبعض الناس انطباعا بعدم رضاء الرئيس عنهما، هو هذا الوضع الذى لا يستطيعان تحمله.
اتفقت معهما على أننى سوف أتصل بالرئيس، وفى كل الأحوال فإنى سأنضم إليهما على الغداء فى بيت الأستاذ مصطفى أمين، واتصلت بجمال عبد الناصر ودار بيننا حوارطويل واستطعت بعد عناء إقناعه بإضافة اسميهما إلى قائمة التشكيلات الجديدة لمجالس إدارات الصحف.
ذهبت إليهما بالبشرى فى بيت الأستاذ مصطفى أمين، وانتظرنا إلى ما بعد الظهر حتى أذيع نبأ الإضافة إلى التشكيلات، ثم ركبنا نحن الثلاثة سيارة واحدة وذهبنا إلى دار أخبار اليوم، ودخلت مهما على مرأى ومشهد من مئات المحررين والإداريين والعمال فى الدار، وكان مشهدا لا تخطئ العن دلالته.
لم تهدا الأمور، بل استمرت الاشتباكات بين الأستاذين مصطفى أمين وعلى أمين والسيد أمين شاكر حتى سنة 1961، ووصلت إلى أن قام شاكر بتحريض بعض العاملين فى أخبار اليوم فتصدوا لأصحابهما السابقين ومنعوهم من دخولها، وأعفى السيد أمين شاكر من رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم، ومرة ثانية ذهبت مع الاثنين إلى دار أخبار اليوم، ودخلنا نحن الثلاثة معا فى مشهد لم يخطئ فى دلالته أحد هذه المرة أيضا.
صدر قرار بتعيين السيد كمال رفعت رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم، وكان كمال رفعت أحد البارزين فى حركة الضباط الأحرار، وكان وزيرا للعمل وعضوا فى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى وكان بالقطع عودا صلبا.
تكررت القصة، ظهرت الخلافات بعد قليل ثم استفحلت، ورد كمال الدين حسين، فإذا الأستاذ على أمين ينقل إلى دار الهلال، وإذا الأستاذ جلال الحمامصى يفصل من دار أخبار اليوم ، وبقى الأستاذ مصطفى أمين وحده.
بذلت مساعى حثيثة لكى يعود الأستاذ على أمين إلى أخبار اليوم، ويعود التوأمان معا ليؤنس كلا منهما الآخر، ومضت الأيام، ثم ما لبثت العواصف أن ثارت من جديد فى أخبار اليوم، لأن السيد كمال رفعت فى خضم مسئولياته الواسعة ترك أخبار اليوم لأحد مساعديه الذى قرر فى نوبة غضب أن يعطى الأستاذين مصطفى وعلى أمين أجازة مفتوحة.
ذهبت إلى جمال عبد الناصر وكان صدره قد ضاق بالكل بما فيهم أنا.
قال لى: كمال رفعت ليس لديه وقت يعطيه لأخبار اليوم، وسكرتيره أخطأ، وسوف أعين رئيسا جديدا لمجلس الإدارة، وعلى أصحابك أن يتعاونوا معه، قل لأصحابك أن يعقلوا وأن يعملوا كصحفيين محترفين فقط، لعلمك هم يستندون على صلتك بى وهى تشجعهم، وهذا يخلق تعقيدات لا لزوم لها.
حاولت أن أعترض مشيرا إلى كفاءة الأستاذين مصطفى وعلى أمين وإخلاصهما.
قاطعنى قائلا: كفاءتهما لا أتكلم عنها، وأما الإخلاص فمسألة أخرى والحقيقة إننى لا أستطيع أن أثق فى إخلاص من أضيرت مصالحه، فهذا فوق الطبيعة البشرية، وعدا ذلك فإن لى رأيا من قديم رغم كل ما تقوله.
خرجت من عند جمال عبد الناصر إلى بيت الأستاذ مصطفى أمين، وقلت للاثنين إنهما سيعودان إلى أخبار اليوم، ثم أضفت رجائى بأن يتصرفا بهدوء، لأن الظروف لم تعد تحتمل.
صحبتهما للمرة الثالثة إلى دار أخبار اليوم.
وللمرة الثالثة رآنا مئات المحررين والعمال فيها ننزل نحن الثلاثة من سيارة واحدة ونصعد سلم الدار الخارجى.
وللمرة الثالثة أيضا كان المشهد لا تخطى العين دلالته.
(8)
بعد ذلك جد شئ فاق كل الحدود، وهو القضية التى تورط فيها مصطفى أمين، حيث جرى القبض عليه يوم 21 يوليو 1965، وأنا أعتقد أن مصطفى تورط فيها مهما كانت الأسباب، فقد كانت هناك علاقات طرأت عليه لا أعرفها ولكن يمكن تفسيرها.
قبلها بقليل طلب منى على أمين أن يصبح مراسل الأهرام فى لندن، لأنه لا يستطيع أن يتعامل مع الشيوعيين الذين أتى بهم خالد محيى الدين إلى أخبار اليوم بعد أن تولى مجلس إدارتها خلفا لكمال رفعت، وأجبته على الفور إلى ما طلب، وكان راتبه أعلى من راتبى.
كان بينى وبين الاثنين صداقة حتى آخر لحظة، وحتى فى وقت السجن كنت أزور مصطفى أمين، وقلت للرئيس عبد الناصر: أنا شايف اللى عمله مصطفى أمين لكن بتربطنى به علاقة صداقة، خصوصا وهو فى محنة لا أستطيع أن أنساها.
كنت أمام قضية تم فيها تجاوز الخطوط الحمراء، وحدثت علاقة مع دولة أجنبية وقد اطلعت على ما يؤكد ذلك، وكثير مما قاله مصطفى أمين لرجل المخابرات فى السفارة الأمريكية يوم الأربعاء، كان كلامى له الذى يسمعه منى يوم الثلاثاء حيث كنت أتناول معه غدائى الأسبوعى فى شقته، ورغم ذلك كان كل ما يقوله لرجل المخابرات الأمريكية منسوبا إلى الرئيس، بعد أن يقوم بتلوينه وإعادة تركيبه.
عندما قرأت المحاضر والتسجيلات، كنت أكثر إنسان يشعر بهول ما يقرأه.
كنت أمام مأساة إنسانية.
البعض لم يستطع أن يدرك إحساسى بالضعف فى صدافتى بالأخوين أمين، حتى إن عبد الحكيم عامر قال لى: همه ماسكين عليك ذلة... بتدافع عنهم طول الوقت ليه.
كنت أمام كارثة بكل المعايير أراها جيدا، وفيما بعد عندما خرج مصطفى من السجن بدأت المسألة تأخذ تبريرات غريبة.
قال مصطفى: إننى تخليت عن الصداقة وتنكرت لها.
ثم زاد عندما قال أنى لفقت له الاتهام.
ولست أعرف كيف كان يمكن أن ألفق له اتهاما فى جلسات بينه وبينى مندوب المخابرات الأمريكية فى مصر، وكلها سجلت فى بيته وتفريغات شرائطها هو الذى يتكلم فيها طوال الوقت يحكى ويروى، والسفارة الأمريكة نفسها لم تستطع أن تقول كلمة فى الموضوع نفسه، وإنما قامت بترحيل مندوب المخابرات الأمريكية بحماية حصانته الدبلوماسية.
وكتب السفير الأمريكى خطابا إلى وزير الخارجية المصرى محمود رياض يعتذر فيه وتقريبا ينفى التهمة عن وزارة الخارجية، والخطاب موجود ومنشور.
وجدت نفسى مضطرا أمام شباب الصحفيين، فوضعت جميع الوثائق أمام الناس، كنت حريصا على شباب المهنة أن يتصوروا أن شيوخ المهنة أو الجيل السابق لهم دخلوا فى صراعات الديناصورات أو التماسيح، قلت كلمتى وأغلقت الباب.
أخذت موقفى من قضية مصطفى أمين لأن الخلاف كان على وطن وليس على شخص، والقضية كانت تتصل بحقيقة وليس بشعور، كنت أدرك أن كل واحد منا يسير وهو يحمل معه جراحه، فى النهاية الجراح تطيب، لكنها تترك وراءها ندوب وآثار.
طوال الوقت كانت لدى ظنون أن على أمين كان بريئا ولم يعرف شيئا، لكن مصطفى أمين كان يعرف ماذا يفعل، فبعد الحرب العالمية الثانية دعم رغبة الأمريكان فى دخول منطقة الشرق الأوسط، كانوا قد شجعوا إنشاء صحف جديدة أقرب إليهم فى توجهها، وقد جرى ذلك فى القاهرة وبيروت وطهران، ولكن بدا ذلك فى وقته نوعا من نشاط دولة عظمى تريد أن تنشر طريقتها فى الحياة وتؤثر على الناس، لكن الأمور تجاوزت هذا الحد كما ثبت فيما بعد.
ثم جاءت مرحلة ترك مصطفى فيها نوازعه تجره، وتقوده إلى أبعد مما هو مسموح به وطنيا، وهنا أخطأ.
وعندما رأيت مصطفى بعد السجن وذهبت لأزوره، وكان فى سجن المخابرات العامة، وكان طعامه يصله من جروبى الذى كان افضل مطعم وقتئذ، و كنت أحمل له أدوية أرسلها له سعيد فريحة.
وأذكر أننى عندما قابلت مصطفى فى مكتب مأمور سجن الإستئناف، كان أول سؤال: ليه كده يا مصطفى؟
فقال: الشيوعيون حيودوا البلد فى داهية، وأنا حاولت أساعد الرئيس.
قلت له: ما دخل الشيوعيين بالموضوع ده؟
ادعى مصطفى أنه عمل علاقات مع الأمريكان ليصحح صورة أشياء ممكن يتصورها عن النظام، ولكن عندما تسمع التسجيلات تجد أن ما كان يرويه غير طبيعى وغير معقول.
(9)
فى بدايات العام 1976 بدأت إحدى الصحف السعودية فى لندن تنشر سلسلة مقالات لأحد الصحفيين المقربين من الأستاذين مصطفى وعلى أمين، تتهمنى أنا بالعمل مع المخابرات الأمريكية، وفى ذلك الوقت كان الأستاذ مصطفى أمين فى غمرة الحملة على جمال عبد الناصر، قد رفع قضية على صلاح نصر يتهمه فيها بتعذيبه أثناء سجنه، وقال الأستاذ مصطفى أمين فى عريضة دعواه إنه ذكر لى فى حينه كما ذكر لمحاميه الأستاذ محمد عبد الله أنه عذب فى السجن.
وقفت يوم السبت 10 إبريل 1976 فى المحكمة لأدلى بشهادتى فى القضية، كنت قد امتنعت عن الحضور حتى قررت المحكمة إعادة إعلانى مع تغريمى مبلغ 30 جنيها لتخلفى عن الحضور للشهادة.
فى قاعة المحكمة رويت الحكاية من جديد، قلت نصا كما أنقل من محضر المحكمة:
" علاقتى بالأستاذ مصطفى أمين بدأت من سنة 1946، وكنت باشتغل فى آخر ساعة، وانتقلت اشتغلت معه فى الأخبار، وبقت تلك الصداقة حتى تركت أخبار اليوم سنة 1957، وبقيت حتى وقت القضية وأنا الوحيد اللى كنت بازوره داخل سجن الاستئناف أول مرة، وبعد كده فى طره عدة مرات بين وقت وآخر، وفى هذه الفترة كنت سبت أخبار اليوم.
عندما صدر قانون ينظم الصحافة سنة 1960، لم يرد اسميهما فى الكشوف كعضوين فى مجلس الإدارة، وجاءنى مصطفى أمين وعلى أمين منزعجين، فالقانون كما قالا لا يؤثر على ولائهما لجمال عبد الناصر، كما أن عدم تعيينهما لا يؤثر أيضا على هذا الولاء، لكن ما يؤلمهما أن ذلك قد يفسره البعض بعدم رضاء الرئيس عنهما.
كان رأى مصطفى أمين أنه إذا كانت هناك ملاحظات للرئيس على نشاطه فإنه يرجو أن يصارحه فهو يخدم النظام بمقالاته المنشورة، وبما يحصل عليه من معلومات يقدمها فى تقارير إلى صلاح نصر وسامى شرف وعبد القادر حاتم.
استطعت اقناع الرئيس بأن يضاف اسميهما إلى مجلس الإدارة، ثم ذهبت معهما إلى دار أخبار اليوم، وأذكر أن أمين شاكر لم يكن مرحبا، لقد أحس أن صاحبى الدار قد فرضا عليه، وبدأت المشاكل وقد وقفت إلى جنبهما تماما من منطلق مهنى، وهو نفس الموقف الذى اتخذته إلى جنبهما عندما وقعت مشاكل بينهما وبين كمال رفعت.
فى شهر إبريل 1965 جاءنى على أمين وطلب منى أن ينتقل للعمل فى الأهرام، لأن جو أخبار اليوم لم يعد يعجبه، وطلب منى أن أمنحه هذه الفرصة، فيعمل فى الأهرام وبالذات يكون مراسل جريدة الأهرام فى لندن، ولم أتردد فى الموافقة على طلبه، بل إنه قبل سفره لممارسة عمله طلب مقابلة الرئيس، وقبل أن يسافر أقنعت الرئيس بأن يقابله وهو فى طريقه إلى المطار، وقد رفض الرئيس أن يقابل مصطفى أمين.
فى يوليو كنت فى لندن بصحبة ابنى للكشف على عينيه، ولم يفارقنى على أمين، وطلب جمال عبد الناصر أن أعود قبل 21 يوليو لكى أشترك فى اعداد خطابه السنوى بمناسبة عيد الثورة، وعدت مساء 20 يوليو، وكان هناك موعد ينتظرنى لأقابل جمال عبد الناصر ظهر اليوم التالى يوم الأربعاء 31 يوليو، وقال هناك خبر حيزعلك، وأنا كنت باتخذ باستمرار صف الدفاع عن مصطفى وعلى أمين وكان يعرف، ولما سألت الرئيس عما حدث أبلغنى أنه قبض على مصطفى أمين.
الحقيقة أنه كان فيه شك فى مصطفى أمين، واحنا كنا بنعمل اجتماع دائم كل يوم ثلاثاء أنا وعلى ومصطفى، ولفت نظرى الرئيس جمال عبد الناصر، ألا أتحدث كثيرا، وقال أنه لا يمنعنى ولكن على أن أكون حذرا، لما رجعت وقال لى قبضنا على مصطفى أمين متلبس اندهشت.
قال لى قبل ما تتكلم اطلع عند سامى شرف واسمع شرائط، وفعلا طلعت ورجعت وأنا متضايق وسمعت تسجيلات وأحسست بغثيان وقلت كفاية.
كتبت مذكرة أن أخبار اليوم تتحمل الصرف على مصطفى، وتتحمل مرتبه لحد ما تخلص القضية، وبعدين رحت زرته فى سجن الاستئناف، ودخلت شفته وسابنى مأمور السجن معاه نصف ساعة، وبعدين جيت المحاكمة وشفته كذا مرة، وكان يبقى معايا عادة فى زيارته فى الليمان سعيد فريحة، وفضلت أشوفه لحد سنة 68، وبدأ وقتها يحكى وأخذنا بعضنا ودخلنا أوضته فى مستشفى السجن، والأشغال الشاقة التى حكم عليه بها أن يعمل فى المكتبة، والرئيس قال لى تانى يوم : انت كنت عند مصطفى أمين وبلاش، وبعد كده شاركت فى التماس الافراج عنه، فقلت للرئيس إن مصطفى أمين سياسى وما دام حكم عليه خلاص تبقى غايته.
أنا اشتغلت فى الأخبار مع على أمين، وكان صديقى جدا، وأنا حين طلبت أن أعمل صحفى متجول بالخارج، وعلى أمين الوحيد اللى وقف معايا فى اعطائى هذه الفرصة، وعملت مراسلا فى حرب فلسطين، وفكرة وجود مراسل حربى لم تكن موجودة، وبعد الثورة بثلاثة أيام قبض على مصطفى وعلى أمين ضمن من اعتقل من حاشية القصر ورجال الملك، وذهبت محتجا، وكان رد فعل جمال عبد الناصر أن الناس كلهم يعلمون بالشكوك التى تحيط بمواقفهما وارتباطاتهما، وعرفت أن اعتقالهما اجراء وقائى بعد أن وصلت معلومات تفيد أن مصطفى أمين أجرى اتصالات يوم قيام الثورة بجهة أجنبية خارج مصر.
لقد حزنت هذه المرة عندما علمت أن مصطفى أمين قبض عليه فى حالة تلبس، وأنا أعرفه وأعرف أخوه ما أقدرش أمنع نفسى من الحزن، وأنا واخد جانب دفاع عنهما، وكلمة متلبس فيها من التهم الثابتة.
الرئيس عبد الناصر نفسه كان يعتقد أن هناك علاقة بين مصطفى أمين والأمريكان، ويعتقد أنه كان غير راض عنها، ولما ضبط وكان فيه فلوس على الترابيزة، وكان بيدى الأمريكان معلومات.
قال لى: روح لسامى شرف شوف اللى عنده وبعدين نتكلم.
رحت لسامى شرف ومسمعتش كل حاجة، وكان فيه تسجيلات موجودة.
وفى مساء 8 أغسطس كنت مدعوا على العشاء مع جمال عبد الناصر فى استراحة المعمورة بالأسكندرية، وقال لى بعد العشاء ونحن نتمشى على الشاطئ أنه سيعطينى نسخة من خطاب بعث به مصطفى أمين إليه، وفي اعتراف كامل سوف أذهل له.
قال لى إنك لا تستطيع أن تقول أنه كتبه تحت ضغط لأنه يستحيل أن يكتب أحد تحت ضغط ستين صفحة كاملة، تكاد تكون كتابا كاملا، وكان رأى الرئيس أنه يعتقد أن مصطفى أمين فوجئ بالتسجيلات وما تحتويه وأنهم طمأنوه حتى يعترف، وأنه أيضا كان يتصور أن خبر القبض عليه لم ينشر وأنه إذا اعترف اعترافا كاملا يمكن أن يخرج.
عندما رأيت مصطفى أمين فى سجن الإستئناف كانت حالته طبيعية، كان منفعلا لأنه عارف إن فيه أسئلة معلقة كثيرة يومها، تركنى مأمور السجن معه وحدنا، وكنت أحمل له كمية من الأدوية أخذت إلى طبيب السجن لفحصها.
سألته ونحن وحدنا: لماذا يا مصطفى؟... أنا مش متصور إنك جاسوس.
قال أنه يحمى الرئيس لأنه خايف على البلد من الشيوعيين والرئيس لازم يعرف.
كنت قد قرأت خطابه إلى جمال عبد الناصر، وسألته: إيه اللى حصل؟
وقلت له: هل كان فيه ضغط عليك.
فأجابنى: لا.
كل ما شكا منه فى المقابلة الأولى التى تمت فى سجن الاستئناف ونحن وحدنا أنه أمضى فى المخابرات 41 يوما فيما أذكر.
لم أقرأ كتاب مصطفى أمين " سنة أولى سجن" عرفت بعضا مما جاء فيه.
لكننى لم أرفع اسمه هو وعلى من على أخبار اليوم كما قال.
ولم أقل له أن الرئيس وعد بالإفراج عنه، وفى السجن لما شفته كان بيعامل معاملة خاصة جدا، إنما فى المخابرات أنا ما شفتش حاجة، وهو قال لى إنه متعذبش.
بعد القبض على مصطفى أمين، كانت القضية محل مناقشات بين الصحفيين فى مصر وفى بيروت، وهذا تقدير شخصى، والمخابرات رأت أن تعرض على الصحفيين بعض وقائع القضية فى صورة التسجيلات، وهو ماحدث فى جريدة الأهرام ثم فى نقابة الصحفيين، وفيه واحد جه مش فاكر اسمه من المخابرات معاه الماكينة والأشرطة وحصل الاجتماع فى أوضة مجلس الإدارة، وحضرت شوية ومشيت.
فى قاعة المحكمة كانت هناك محاولة لإدانتى.
ويومها قلت: إننى لا أدافع عن نفسى بالنسبة لما نشرته مجلة الحوادث اللبنانية بالإشارة إلى ثقة جمال عبد الناصر فى، فى ذروة صراعه مع الولايات المتحدة الأمريكية لم يكتف بأن يتركنى فى الأهرام رئيسا للتحرير ولمجلس الإدارة، وإنما أضاف إلى وزارة الإرشاد وعضوية مجلس الأمن القومى والقيام باعمال وزير الخارجية فى نفس الوقت.
لن أدفع بذلك ،سوف أناقش ما قيل من أن خروشوف تحدث معى عن أموال أخذتها من المخابرات الأمريكية تحت غطاء أجر مقالات كتبتها فى صحيفة واشنطن بوست.
أولا أنا لم اكتب فى حياتى كلها مقالا لصحيفة واشنطن بوست، وبالتالى لم أتقاض منها سنتا واحدا.
ثانيا: فيما يتعلق بخروشوف فقد دعانى سنة 1964 إلى بيته فى يالتا لكى أرافقه طوال رحلته من يالتا إلى الأسكندرية – خمسة ايام فى البحر- حتى يستطيع أن يسألنى فيما يريد أن يتعرف عليه منى عن العالم العربى والإسلامى والإفريقى الذى يزوره لأول مرة بزيارته لمصر لحضور الاحتفال بإتمام المرحلة الأولى من السد العالى.
أما ما ذكر من كتابات " مايلزكوبلاند" فإنه ليس بالرجل الذى تعتمد شهادته، فقد كان موظفا فى المخابرات الأمريكية ثم طرد منها، وحاول استغلال صلاته بالعالم العربى ليفتح مكتب استشارات فى بيروت، وفى هذه الفترة كتب إلى جمال عبد الناصر أكثر من ثلاثين خطابا وتقريرا يحاول إقناعه باستعمال خدماته وخبراته ويطلب فى مقابل ذلك مكافأة، ولم يرد جمال عبد الناصر على واحد منها.
لم أقل للمحكمة كلاما عابرا، بل قدمت لها ملفا كاملا فيه خطابات مايلزكوبلاند إلى عبد الناصر.
وقلت للمحكمة أيضا: إن هذه الكتب التى أخرجها مايلز كوبلاند حتى الآن كتابان أولهما عنوانه" لعبة الأمم" والثانى عنوانه " بلا خنجر ولا عباءة" ، فى الكتاب الأول ذكر اسمى فى معرض صداقتى لعبد الناصر مرة واحدة فى كل الكتاب، وفى الكتاب الثانى لم يأت ذكر لى على الإطلاق. وتركت لهيئة المحكمة الكتابين.
(10)
خلال السنوات التى أعقبت هذه الشهادة كان هناك من تعمد أن يزيف الحقائق ويزور الأحداث ويستحل لنفسه التاريخ يرويه كما يشاء، فكان أن قررت أن أرد بما لدى من وثائق، ليس من أجلى فقط، فالأمر يهون، ولكن من أجل أجيال لم تكن معنا ومن حقها أن تعرف ما جرى.
فى العام 1984 صدر كتابى" بين الصحافة والسياسة... قصة ووثائق معركة غريبة فى الحرب الخفية" جعلت إهداءه إلى " أولادى الثلاثة على وأحمد وحسن... وإلى عشرات الملايين غيرهم من شباب مصر وأمتها العربية، حتى لا يضيع منهم الغد لسبب لا ذنب لهم فيه وهو أنهم لم يكونوا معنا بالأمس".
كان الكتاب صفحات حاولت تأجيل كتابتها ونشرها على الرغم من دواع كثيرة سياسية وفكرية وإنسانية أيضا، كانت تقتضى التعجيل بالكتابة والنشر، ولقد صبرت طويلا، لكن السنين غلبتنى على أمرى، فهى تجرى سراعا، وكان لابد إذا كانت لهذه الصفحات قيمة أن تصدر، بينما جميع الأطراف فى الموضوع على قيد الحياة يملكون فرصة الرد إذا شاءوا وبأى وسيلة يختارون.
تعرضت فى الكتاب لواحدة من أغرب القصص فى علاقة السياسة بالصحافة فى مصر، وهى قصة أرادوا لها أن تنسى وأن ينزل عليها ستار حتى لا تظهر مقاصد أو تبين أغراضا، ما زالت تسعى بين الناس، وما زال أثرها محسوسا فى نبض كل حياة.
لم يكن كتاب " بين السياسة والصحافة" ضمن خطتى للعام 1984، فى البداية حاولت أن أكتب لمجموعة الناشرين التى تملك حق نشر كتبى فى العالم كتابا عن " ظهور وتراجع القوة العربية" وبدأت المحاولة فعلا، ثم كنت أنا الذى تراجعت مؤقتا عما اعتزمت، فقد وجدتنى أصف عالما عربيا كل أحواله تدعو للرثاء، ولم أشأ أن يكون ما أكتبه سهما جديدا تتكسر به النصال على النصال.
وهكذ انتقلت إلى مشروعى الكبير، وهو تاريخ المنطقة من أعقاب الحرب العالمية الثانية – منتصف الأربعينات – إلى أعقاب حرب أكتوبر – منتصف السبعينات – وشخصة جمال عبد الناصر أمام هذه الخلفية الواسعة الهائلة، ولم أكن أحلم بموسوعة علمية، وإنما كنت أريد أن أحاول ما حاوله غيرى من الصحفيين ممن أتاحت لهم الظروف فرصة أن يروا حقبا لها معنى ورجالا لهم أدوار – فراحوا يروون شهادتهم كما عاشوا الحوادث ورأوها تتوالى وتتعاقب.
لكن وأنا أجرب هذه المحاولة لاحظت كثافة النيران الموجهة إلى جمال عبد الناصر وخطر لى أن أستكشف مصادر هذه النيران، ووجدتنى أمام سبب إضافى يحفزنى على تناول موضوع هذا الكتاب.
ولابد أن أعترف أن تجربة هذا الكتاب كانت مرهقة، فلقد آثرت أن أروى القصة كما عشتها، ومع ذلك فالكتاب فى جزء منه يمكن أن يبدو وكأنه تجربة ذاتية، وليس فى هذا بأس ما دام الموضوع عاما، ووقائعه جزء من التاريخ، ثم إن الدخول إليه هو من باب الشهود وليس من باب القضاة.
لكن البأس يجئ من عدة جوانب أخرى.
جانب منها مثلا أن العودة لكتابة القصة كانت على نحو أو آخر استعادة لمناخها وأجوائها بكل ما فى ذلك من عبء نفسى وعاطفى.
ولم يكن من ذلك مهرب.
وجانب منها أن لا يتحول الكتاب إلى مرافعة أدافع فيها عن نفسى ضد حملات شعواء اتهمت فيها بأننى أردت أن أكون الصحفى الأوحد فى مصر، وأننى هدمت أهرام الجيزة لأنقل حجارتها وأقيم فوقها مبنى الأهرام.
لو كان حافز الدفاع عن النفس ضمن حوافزى كان عليه أن يحركنى منذ سنوات على الأقل منذ عشر سنوات قبل صدور هذا الكتاب.
وجانب آخر منها مثلا وخصوصا أن أسلوب الكتابة هو أسلوب التجربة ومعايشة الموضوع يوما إثر يوم مع مراعاة أن الإنزلاق يمكن أن يتجنى لا شعوريا، فإذا حديث الموضوع يتحول إلى حديث عن الذات.
لابد من الحذر ومع ذلك فليكن عذرى مقدما إزاء أى خطأ: بأن البشر بشر.
وجانب أخير منها – مثلا – هو محذور التبرير للنفس وادعاء الصواب فى كل موقف.
أدرت اهتمامى عن هذا الجانب سريعا لأن سياق الكتاب كله يكشف مع أشياء أخرى أننى كنت على خطأ فى جوانب متعددة من هذه القضية، وأن جمال عبد الناصر كان هو الأصوب تقديرا والأدق حسا.
وفى بعض اللحظات فكرت أن أعطى ما عندى لغيرى ليكتب هو وأعفى أنا نفسى من الحرج، ومن العناء ومن المحذور، ولقد كان ما فعله آخرون، تواروا خلف واجهات، وحرضوا غيرهم وابتعدوا هم، وألفوا الكتب ووضعوا عليها أسماء مستعارة
ولم أجد أن ذلك منهجا مقبولا بالنسبة لى رغم أن كثيرين تطوعوا بكرم للتصدى، كان رأيى أننى إذا قررت الكلام يوما فلابد أن يكون صوتى هو المسموع وقلمى هو الذى يكتب.