رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محاولة الفِكاك من أثر أمل دنقل

20-10-2020 | 20:32


لا يمكن لأى شاعر أن ينكر ما تعرض له من تأثر مباشر وغير مباشر من الشعراء الذين سبقوه، فكما هو معروف خاصة عندما يبدأ الشاعر أولى خطواته الشعرية، أن تتناثر فى قصيدته ظلال وأصوات سابقيه، يحدث ذلك دون أى قصدية من الشاعر، وهناك من يستطيع التخلص من تلك الأصوات، حتى يصل الشاعر إلى صوته المتفرد ولغته الخاصة.


وأنا مثل الكثير من أبناء جيلى تأثرنا بالكثير من الأصوات الشعرية التى سبقتنا مثل السياب واليباتى وعلى جعفر العلاق من العراق، ومحمود درويش، وسميح القاسم من فلسطين، ومن مصر صلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى وأمل دنقل ـ إلا أن صلاح عبد الصبور ودنقل كانا الأكثر تأثيرا على عدد كبير من شعراء جيلى، رغم محاولة البعض إثارة قضية رفض والتمرد على تلك الأسماء، ولكن من الصعب القول إنه يمكن التخلص من تلك التأثيرات فى بداية المشوار الشعرى، ولكن مع الوقت يستطيع الشاعر التخلص من تلك الأصوات والانفراد بصوته الخاص؛ إلا أن أمل دنقل كان الأكثر تأثيرا في عدد كبير من الشعراء من أبناء جيلى، فإذا كان تأثيرا صلاح عبد الصبور بسبب إنسانيته فى القصيدة وما يطرحه من قضايا عن هموم الإنسان المعاصر، فإن روح الرفض والتمرد التى تفوح من قصائد أمل دنقل كانت أكثر تأثيرا في عدد غير قليل من هؤلاء الشعراء. 


أمل ونموذج الشاعر المتمرد والرافض


كانت فترة الستينيات زاخرة بالنسبة للإبداع سواء القصة، أو الرواية، أو القصيدة، وكان لنكسة 67 أثرها الشديد على الإبداع خاصة الشعراء، وكان أمل دنقل من أكثر الشعراء الذبن تأثروا بها، حيث شهد عام 1969 صدور ديوانه «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، وهو الديوان الذي جسد فيه الشعور العربي المحتقن والمحبط عقب نكسة 1967، وظلت كلمات ديوانه ترن فى آذان شعراء جيل السبعينيات ، والتى تركت ظلالا كثيرة فى كتاباتهم. 

أيتها العرافة المقدسة


جئت إليك مثخنًا بالطعنات والدماء

أزحف فى معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة

منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء

أسأل يا عذراء عن فمك الياقوت

عن نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع

وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسة

محاولة الفِكاك من القصيدة الدنقلية


ورغم إعلان عدد كبير من شعراء هذا الجيل رفضهم وتمردهم على القصيدة الدنقلية، إلا أنها أخذت وقتا طويلا  لكى تنسلخ عن قصائدهم، وظلت قصيدته " لا تصالح" أيقونة  تتحرك  داخل العقل الباطن لعدد كبير من الشعراء سواء المعاصرين لأمل، أو اللاحقين عليه، لأنه قال وبصدق ما كانوا يسعون إلى قوله، وظلت تلك القصيدة عنوانا للرفض ولتمرد الشاعر، وهى أحد أهم ارتكازات الشاعر المعاصر. 


هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟

أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..

تلبس - فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟

إنها الحربُ

قد تثقل القلبَ..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالحْ..

ولا تتوخَّ الهرب


***


لا تصالح على الدم.. حتى بدم

لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟


ورغم تلك السنوات التى مرت على رحيل أمل  دنقل إلا أن ما تركه من إرث شعرى سيظل ساكنا وقابعا فى وجدان المتلقى العربى، وقادرا على التأثير المباشر فى نفوس كل الشعراء الذين يقومون بقراءة التراث الشعرى المعاصر، وسوف يترك دون شعور بأثره، ولن يتخلصلوا منه إلا بعد فترة، وأن أمل بذلك قد ترك علامة واضحة فى القصيدة  العربية المعاصرة، وها هو يودعنا فى آخر دواوينه "أوراق الغرفة 8"


في غُرَفِ العمليات,

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,

لونُ المعاطفِ أبيض,

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,

الملاءاتُ,

لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,

قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,

كوبُ اللَّبن,

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ.